الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فلسطين بين درهم الفقير ومليون الأمير؟

عدنان عاكف

2015 / 5 / 22
المجتمع المدني


فلسطين بين درهم الفقير ومليون الأمير؟
الى روح الصديق الفلسطيني فلاح جبر
عدنان عاكف

قادتني الصدفة اليوم، وأنا ابحث عن معلومات أحتاجها ولها علاقة بموضوع يتعلق بالقضية الفلسطينية، الى بيان قديم ، عمره نحو عام ونصف العام، صادر عن اتحاد المهندسين الفلسطينيين، ينعي فيه أحد مؤسسيه، ورئيسه في السبعينات، الدكتور فلاح سعيد جبر، الذي وافته المنية في كانون ثاني 2014 . والمرحوم صديق قديم من مواليد 1940 في يافا، عاش معظم حياته في العراق، أكمل دراسته الجامعية في بغداد عام 1966 ونال شهادة الدكتوراه من جامعة بلغراد عام 1971. عملنا سوية في شركة المعادن الوطنية. كانت عائلته من بين العوائل الفلسطينية الأولى التي وصلت العراق. الذي قربني منه هو نشاطه السياسي والمهني، وليس الوظيفي، مع اني كنت مسؤوله المباشر خلال السنوات الثلاث الأولى، ثم انتقل الى دائرة أخرى. لكن علاقتنا استمرت لاحقا الى حين مغادرتي بغداد في 1979. كان فلاح عضو نشط في منظمة فتح، واحد كوادرها المتقدمة في بغداد، بالاضافة الى تقلده منصب رئيس اتحاد الجيولوجيين العرب، ومن ثم نائب الأمين العام لاتحاد المهندسين العرب. ويبدو لي ان الاختلاف بيننا في المواقف من القضايا القومية كان من نقاط الانجاذاب بيننا. لم نعتاد نحن المقربين من الحزب الشيوعي على طرح قضايا قومية للنقاش مع القوميين ، وخاصة البعثيين منهم. كان سيف التخوين جاهزا ليشهر تجاه أي شيوعي يحاول ان يبيبن وجهة نظر الحزب من القضية الفلسطينية. وكنا نتوقع الهجوم العدائي، الذي يفتقر الى الحد الأدنى من مبادئ الحوار الذي ينبغي ان يكون بين المثقفين. ومما زاد في تعقيد الأمر في السبعينات هو رأي الحزب الصريح بكون منظمة التحرير هي الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، وهو موقف كانت قيادة البعث تعتبره من بين المحرمات. بعد مغادرتي العراق عام 1979 انتقل للعمل في مجال الصناعة الغذائية العربية، ومن ثم في بعض مؤسسات البحوث العلمية التابعة للجامعة العربية.
دعاني ذات يوم لحضور مهرجان خطابي عن القضية الفلسطينية فلبيت الدعوة مسرورا، وقد تكرر ت مثل هذه القاءات لاحقا. بعد انتهاء المهرجان مد يده ليشكرني وقال مازحا :
_ ما رأيك لو تنظم الى فتح ؟ سأجازف بمستقبلي السياسي وأمنحك تزكية تخولك الترشح لمنصب قيادي في المنظمة.. فاجئني السؤال، فقلت :
_ بكل سرور.. جرب ولن تندم؛ سوف ترى كيف ان حلم تحرير القدس سيتحول من خيال الى واقع ينبغي العمل من اجل تحقيقه. ولكن خوفي يا رفيقي ان قيادتكم لن تتحمل وجودي في المنظمة لأكثر من شهر. لذلك دعنا نتحدث عن ما هو أسهل ويمكن تحقيقه في هذه اللحظة.
_ وما هو هذا الأمر ؟
_ ان تدفع لي دينارا واحدا لا غير كتبرع للحزب الشيوعي العراقي !
ترنح فلاح من هول المفاجأة وكاد ان يسقط أرضا . لم يخطر على باله اني على علاقة بالشيوعيين، وبالطبع لم يكن يتوقع مني مثل هذه الجرأة، التي تصل حد التهور والصلافة، كما عبر عن ذلك صراحة.. ومع ذلك كان لي في نهاية الأمر ما أردته، ولم أودعه إلا بعد ان قبضت على الدينار ، وكان دينارا جديدا، لم يسبق لي ان رأيت مثله. كان أول دينار من سلسلة طويلة من الدنانير التي استمرت تصل للحزب لعدة سنوات من صديق فلسطيني، يتمرغل في النعيم في ردهات تنظيم فتح.
في بداية السبعينات تعرض الحزب لحملة بوليسية شرسة، انتقلتُ على اثرها الى الصلة الفردية. مضت أشهر لم افاتح فلاح بشأن التبرع، خوفا عليه وخوفا من احراجه . كنا ذات يوم نشرب الشاي في مكتبي ونتحدث في أمر ما. فجأة سألني ان كنت ما أزال على علاقة بالحزب؟ فاستفسرت عن مناسبة سؤاله، فقال انه على علم بما يتعرض له الحزب في الفترة الأخيرة، ثم اني لم أفاتحه كالعادة بالتبرع. في ذلك اليوم دفع فلاح خمسة دنانير بدل الدينار الواحد.
ذات مرة سلمني التبرع الشهري وقال بنبرة لا تخلو من السخرية والعتب :
_ الى متى تظلون متخلفين يا أحفاد ماركس ؟ ما زلتم تعملون بأساليب قديمة فات زمنها منذ عشرات السنين.. تجمعون التبرعات والاشتراكات درهما درهما، و في أحسن الأحوال دينار دينار. هكذا كنا نفعل في بداية نشاطنا السياسي. أما اليوم فان الأمر قد تغير جذريا. في كل سفرة يقوم بها أبو عمار الى دولة من دول الخليج، يعود وجيوبه منتفخة من الشيكات. وانت سيد العارفين: لا يوجد أمير يحترم نفسه مستعد ان يضع توقيعه على شيك باقل من رقم معه ستة أصفار..
كان فلاح يقول الحقيقة. ولكن من أين يأتي الحزب بمثل هؤلاء الأمراء الكرماء ؟ بعد بضعة سنوات شكى من بعض المشاكل التي تعانيها قيادة منظمة التحرير بسبب ممارسات الكثير من الأنظمة العربية وتنظيماتها المندسة في المنظمة. ذكرته بما قاله لي عن الأمير وسألته:
_ ألا تلاحظ يا رفيقي العزيز ان أوضاعكم بدأت تتعقد وتتراجع منذ ان تكاثر أمراؤكم، وفرخت ملياراتكم ؟ كان رده جاهزا، وكأنه يتوقع مثل هذا السؤال :
_ اللي ما يطول العنب يقول عنه حامض.
جاوبته بضحكة صادقة. بعدها عقبت :
_ يا خوفي ان لا ندرك انا وانت وياسر عرفات، حقيقة مخاوفي إلا بعد فوات الأوان. وسترى كيف سيأتي يوم تقف فيه في ساحة التحرير لتغني بصوتك الأجش القبيح كيف ان درهم الفقير أفضل بألف مرة من مليون الأمير!
كان الرجل ينتمي الى عائلة ميسورة، ولد وفي يده ملعقة من فضة، ولذا كان بطبعه يميل الى " وليمة " الأمير أكثر من " ثريد " الفقير، لكنه والحق يقال، كان رجلا شهما، نقيا، صادقا بمشاعره ! في عام 1979 غادرت العراق ولم ألتقيه من بعدها، إلا في صحيفة النعي من الاتحادر المهني الذي ينتمي اليه، وساهم بتأسيسه..
رحمك الله يا فلاح ! نم قرير العين أيها الصديق الفلسطيني، وعهدا بأني سأبقى، كما كنت دوما، مناصرا وداعما لنظال الشعب الفلسطيني من أجل نيل حقوقه المشروعة، واقامة دولته المستقلة. أنت وجدت من ينعيك ويحاول ان يذكر القادمين من الفلسطينيين بأسمك. وكل أمنيتي ان انال ولو جزء من التكريم الذي نلته من التنظيم المهني العراقي الذي انتمي اليه، والذي عملت في هيئته القيادية طيلة السبعينات.
أنت في الذاكرة يا صديقي، وسيبقى صوت فيروز يشدو بتلك الكلمات الجميلة التي كُنتَ تهيم بها:
سنرجع يوماً إلى حينا
سنرجع مهما يمر الزمان
وتنأى المسافات ما بيننا








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. طلاب الجامعة الأمريكية في القاهرة يتظاهرون بأسلوبهم لدعم غزة


.. إعلام فرنسي: اعتقال مقتحم القنصلية الإيرانية في باريس




.. إعلام فرنسي: اعتقال الرجل المتحصن داخل القنصلية الإيرانية في


.. فيتو أميركي ضد مشروع قرار منح دولة فلسطين العضوية الكاملة في




.. بن غفير: عقوبة الإعدام للمخربين هي الحل الأمثل لمشكلة اكتظاظ