الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أنا لستُ موجوداً لأنَّني اُفَكِّر!

جواد البشيتي

2015 / 5 / 22
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع



"أنا أُفكِّر، فأنا موجود (فالله، في استنتاج لا بدَّ منه مثالياً، موجود". قالها ديكارت، رينيه ديكارت، الفيلسوف والرياضي والفيزيائي الفرنسي، ولَقَبُه "أبو الفلسفة الحديثة".
إنَّ أحداً من العقلاء لا يشكِّك، ولا يمكنه أنْ يشكِّك، في عظمة صاحب هذا القول الشهير؛ لكن هذا القول، وعلى عَظَمَة قائله، ليس فيها من العَظَمَة شيئاً. ومع كل محاولة يبذلها مثقَّفون فلسفيون لتَحميل هذا القول الديكارتي مزيداً من المعاني "العظيمة" يرتفع أكثر منسوب السخف في القول نفسه.
بدايةً، وبعيداً عن التَّعقيد الفلسفي المتعمَّد في شرح هذا القول، والذي هو خاصية لغوية لأتباع الفلسفة المثالية، بأنواعها، نقول إنَّ عبارة "أنا أُفَكِّر، فأنا موجود" تعني فحسب أنَّ التفكير هو الفاعلية التي بها يستدل المرء على وجوده، ويتأكَّد له وجوده؛ فلو سُئِلْتَ: "هل أنتَ موجود؟"، تجيب قائلاً: "نعم أنا موجود؛ لأنني أُفَكِّر؛ فتفكيري هو خير وأقوى دليل على أنِّي موجود".
إنَّ الوجود من عدمه كان، وما زال، قضية تشغل أذهان كثير من الناس، وأذهان كثير من الفلاسفة على وجه الخصوص؛ ولقد تطرَّف بعض الفلاسفة المثاليين (والمنتمين منهم إلى "المثالية الذاتية" على وجه الخصوص) في نفي كل وجود للعالَم المادي في خارج الذهن، وفي استقلال عنه؛ فالتُّفاحة التي أَهُمُّ بأكلها لا تُوْجَد، على ما يزعمون، في خارج ذهني، وفي استقلال عنه؛ لأنَّها لا تَعْدو كونها "إحساسات"؛ وهذه "الإحساسات" ليست بـ "مادة"، ولا وجود لها في خارج ذهني (أو وعيي) وفي استقلال عنه؛ وفي النهاية المنطقية لهذا التَّصَوُّر يقول المرء: "لا وجود إلاَّ لذهني أنا (فالكون كله إنَّما هو "إحساساتي" التي لا يمكن أن تنفصل عن ذهني)".
ديكارت، وهو فيلسوف مثالي؛ لكن ليس من "المثاليين الذاتيين"، شَكَّ في وجود الوجود؛ وظلَّ الشَّكُّ يستبدُّ بعقله إلى أنْ وَصَل إلى ما اعتده "يقيناً"؛ فقال وكأنَّه يلخَّص تجربته في الشَّك: "ما دُمْتُ أُفكِّر (والشَّكُّ تفكير) فأنا موجود".
هيجل، إمام الفلسفة المثالية الموضوعية الجدلية، فَهِمَ "الإنسان (الناطق العاقِل)"، على أنَّه الكائن الذي فيه، وبه، وَعَت الفكرة المُطْلَقَة (الله في الأديان) ذاتها؛ فـ "الطبيعة"، قبل وجود هذا الإنسان، والتي هي تجسيد للفكرة المُطْلَقَة، في إحدى مراحل تطوُّرها، ما كان في مقدورها أنْ تكون الكائن الذي فيه، وبه، تعي الفكرة المُطْلَقَة ذاتها. ولو كان هيجل "مادياً" لقال: في الإنسان، وبه، وَعَت المادة ذاتها.
هل أنا موجود لأنِّي أُفَكِّر؟
كلاَّ؛ فأنا أُفَكِّر لأنِّي موجود.
قد أَكُفُّ عن التفكير؛ ومع ذلك أظلُّ موجوداً؛ لكن يكفي أنْ أَكُفَّ عن الوجود حتى أَكُفَّ عن التفكير؛ وهذا الإنسان الذي مات الآن كَفَّ عن التفكير مع أنَّه ما زال موجوداً بمعنى ما.
إنَّنا لا نُفسِّر "المادي" بـ "المثالي"؛ بل نُفسِّر "المثالي" بـ "المادي"؛ وفي مثال بسيط أقول: أُنْظُرْ إلى شجرة التُّفاح التي في حديقتك. أَمْعِن وأَدِم النَّظَر فيها؛ ثمَّ أَغمض عينيك، فـ "ترى" في ذهنك، أو ذاكرتك، "صورة" شجرة التُّفاح. إنَّها "صورة ذهنية (مثالية)" لشجرة التُّفاح الواقعية؛ فإنَّ "الأصل الواقعي" لهذه "الصورة الذهنية" موجود في خارج ذهنك، وفي استقلال عنه؛ إنَّه موجود في حديقتك.
إذا أَغْمَضتَّ عينيكَ و"رأيتَ"، في ذهنك، شجرة التُّفاح؛ فهل هذا يعني أنَّ شجرة التُّفاح نفسها موجودة في ذهنك (في وعيك)؟!
هل هذا يعني أنَّ شجرة التُّفاح الواقعية يمكن أنْ تتغيَّر إذا ما أنتَ غَيَّرتَ، بالخيال، صورتها الذهنية؟!
جَرِّب أنْ تغيِّر، بالخيال، صورتها الذهنية، كأنْ تتخيَّل شجرة تُفاح من ذَهَب؛ فهل تتأثَّر شجرة التُّفاح الواقعية، كأنْ تغدو، في الواقع، شجرة تفاح من ذهب؟!
إنَّ كل "فكرة" في رأسك لا تَعْدو كونها "صورة ذهنية"، لها، ويجب أنْ يكون لها، أصل في الواقع (الموضوعي). وإذا لم تكن "نسخة ذهنية" من "أصلها الواقعي"، فلا بدَّ لها من أنْ تكون "صورة ذهنية مُركَّبة"، أيْ رَكَّبَها الخيال إذْ أنشأ لصلة (خيالية ما) بين عناصر ومُكوِّنات واقعية، كصورة "شجرة تفاح من ذهب".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تعليق الى جواد البشيتي
ايدن حسين ( 2015 / 5 / 23 - 17:42 )

تحية طيبة
شجرة التفاح التي في الحديقة تختلف عن التي في ذهننا .. بانها ليست صورة فقط بل لمس و شم و ذوق بل و حتى سماع
عندما تغمض عينك .. فانت ترى صورة الشجرة و لا تستطيع لمس صورة الشجرة
كذلك يمكننا ان نقول ان الشجرة الحقيقية هي صورة ذات بيكسل عالية الجودة .. اما صورتها بعد اغماض العين فهي صورة ذات بيكسل واطئة الجودة
اذن فيمكننا ان نقول ان كلتا الحالتين ما هي الا وهما في ذهننا .. مع الفارق في درجة وضوح هذا الوهم
فنحن نرى بوساطة وصول الاشارات الكهربائية من العين الى المخ .. فمن الممكن اننا نتوهم ان هناك عينا .. في حين انه لا توجد الا الاشارات الكهربائية في ذهننا
اي .. شخص ما يجعلنا نرى .. و يجعلنا نتوهم ان لدينا عيونا .. و يجعلنا نتوهم ان هناك اشارات كهربائية في المخ .. بل حتى انه يجعلنا نتوهم ان لنا مخا
و احترامي
..

اخر الافلام

.. اجتهاد الألمان في العمل.. حقيقة أم صورة نمطية؟ | يوروماكس


.. كاميرا CNN داخل قاعات مخبّأة منذ فترة طويلة في -القصر الكبير




.. ما معنى الانتقال الطاقي العادل وكيف تختلف فرص الدول العربية


.. إسرائيل .. استمرار سياسة الاغتيالات في لبنان




.. تفاؤل أميركي بـ-زخم جديد- في مفاوضات غزة.. و-حماس- تدرس رد ت