الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مصريون يكرهون أنفسهم ...

أحمد محمد أنور

2015 / 5 / 25
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


لم تكد تمر أيامٍ قلائل منذ أن أطاح الشباب المصرى فى يناير 2011 برئيس الجمهورية وسُلطته الأمنية، وشبكة البيزنس ورجال الأعمال والميديا التابعة له، ومنذ أن تصدوا لأحلامهم فى التمديد والتوريث للأسرة الحاكمة، إلا وبدأ فصل جديد فى حياة المصريين، كل المصريين لا نستثنى أحداً، فصلُ كئيب قوامه تحلل الواقع القيَمى الذى لم يُصادِف قوة حقيقية شعبوية تسعى بإخلاص للإصلاح إنقاذاً للمجتمع والدولة.
منذ أن تصدى الشباب المصرى ليواجه واقعه المترهل، وسعى بجدٍ وطموحٍ وإخلاصٍ نحو إصلاحه من جذوره، من خلال هدمه وتطهيره ثم إعادة بنائه على أسس تضمن العدالة للجميع، والحرية والشفافية، بحيث ينقشع واقع الظلم والظلامية والمهزومية، وتزول كآبة القمع والقيود البوليسية، وتُزهَق معالم الضبابية فى إدارة كل ملفات الدولة التى صارت ملكية خاصة لأسرة استبد بها الطموح والفساد نحو الإستئثار بكل شىء حتى أنفاس المصريين.
منذ أن حمل الشباب المسئولية الجسيمة على عاتقه طواعيةً وحباً وإخلاصاً، رغبةً فى التخلص من براثن الوهَن الذى أضعف مفاصل الدولة طويلاً، وسعياً لإستئصال آفة الفساد المستشرى فى كل مؤسسات الدولة، وأملاً فى تحطيم كل القيود التىى تعطل – عن قصدٍ – طاقاتهم، فتجعلهم - مثل أجيال كثيرة مضت -كالموتى مهاجرين داخل أنفسهم فراراً من ظلم بلادهم.
منذ ذلك الوقت، ومنذ اشتعلت الثورة، تولد لدى جميع المصريين شعوراً بأنَّ لهم نصيب فى الكعكة التى خلفتها لهم دماء الشهداء فى كل ميادين الثورة، سعى الجميع منذ أول لحظة – وليس ذلك بخطأٍ نعيبه – الى التظلم والإلتماس والإعتصام والإضراب ضد أوضاعه التى تتسم بمهزومية وظلامية سنواتٍ عجاف من الإدارة الفاشلة، ثار العمال ضد رواتبهم المحدودة والحقوق المنتقصة وساعات العمل والإجازات والتثبيت والأحكام المتعسفة بالفصل والإقصاء، وطالب الفلاحون بالرعاية والنظر الى قضاياهم فى توفير الأسمدة والكيماوى فضلاً عن المياه الصالحة للرى، وثار طلاب الجامعات والمدارس وأمناء الشرطة وحملة الماجستير والدكتوراة، وثار الأثمة المتفوقون الذين أطاحت القبضة الأمنية بطموحهم وحقهم فى التعيين، وطالب المعلمون بالكادر الخاص وتحسين أحوالهم المادية وقيمة المعلم المعنوية وإصلاح المنظومة التعليمية برُمَتها، وأضرب الأطباء والصيادلة، وهلل معظم الإعلاميون ومارسوا الإثارة بأحط أنواعها، وانبرت الصحافة تكتب وتطالب وتحث ..، وأخذ كثيرُ من الصحفيين الصور الفوتوغرافية مع جنرالات المجلس العسكرى الحاكم آنذاك والذى لم يكن بديلاً عن الشرعية.
وعلى صعيد العمل السياسى لم يكن الوضع مختلفا عن سابقه، فقد صعد نجم تيارات الإسلام السياسى التى عانت كثيراً وناضلت طويلاً من أجل حقها فى الوجود، وإلتف الناسُ حول جماعة الإخوان المسلمين والسلفيين بإعتبارهم كيانات إسلامية عانت كثيراً وسوف تنتصب لتنهض بالأمة، وظهرت معالم ذلك الإلتفاف فى انتخابات برلمانية ورئاسية قذفت بتيارات الإسلام السياسى الى أقصى سُلَّم السلطة، فيما استمر إخفاق ما اصطُلح على تسميته بالتيارت المدنية كما تكللت مجهودات شباب الثورة بفشل ذريع.
ومن زاوية الشارع الثائر، استمرت التيارات الإسلامية حائرة بين التواجد بالشارع فى تأجيج مطالب الثوار ومسانداتها، وبين الحفاوة التى تتلقاها فى جلسات المجلس العسكرى، وتكرر فى غير مرة منذ 11 فبراير أن نجح الإصطفاف الثورى للشباب على اختلاف طوائفهم وحركاتهم وائتلافاتهم فى الحشد لإشعار المجتمع بأنَّ الثورة فكرة متجددة كالشمس، وأنها ليست ثمانية عشر يوماً فقط، وأن الثورة وقواها ستكون بالشارع طالما شىءُ من مطالبها وأهدافها لم يتحقق، فيما ظلَّت التيارات المدنية غارقة فى برجٍ عاجى ولقاءات وهمية وصور صحفية مع صانعى القرار، بينما استمرت التيارات الإسلامية تناور حتى ظهرت مواقفها بتفضيل العملية السياسية التى يرعاها ويضمن لها النجاح المجلس العسكرى الحاكم، فانطوت تحت لوائه فى مُناسبات عدة مثل ثورة الغضب الثانية مايو 2011، وأحداث البالون، واعتصامات 8 يوليو 2011 التى ظهر بها بواكير شعار "يسقط حكم العسكر" وشعار "يسقط المشير"، ثم أحداث ماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء ومجزرة بورسعيد وأحداث محمد محمود الثانية فبراير 2012، وصولاً الى مظاهرات ابريل 2012 والتى انطلقت الى ميدان التحرير وتشمل قوى الثورة وحركات 6 ابريل والاشتراكيين الثوريين وجبهة ثوار شرق القاهرة وأعلنت شعار "بيع بيع بيع الثورة يا بديع" فى إشارة الى مواقف الجماعة المتخاذلة تجاه الدم المصرى، والتى أعلنت صراحة أن الشرعية للبرلمان لا للميدان.
وهكذا وصل الجميع الى شهر مايو 2012 فى حالة إنهاك، بينما كان مرشحى الرئاسة والقوى التى تساندهم يرتبون أوراقهم استعداداً لهذا العُرس الديمقراطى الذى دفعت بالوصول إليه دماء الشباب المصريين فى محمد محمود، حيث أُريقت الدماء مرة أخرى غير أخيرة تحت غطاء سياسى للسلطة الحاكمة وحلفائها، وجرى قتل وذبح العشرات من مُعتصمى التيارات السلفية الداعمة للمرشح حازم صلاح أبو اسماعيل، بينما كان الإعلام الرسمى حينها – وعلى نفس وتيرة أحداث ماسبيرو – يؤجج الفتنة بلا ضمير ويشن حملة هوجاء ضد من سماهم دراويش أبو اسماعيل، فى تلك الآونة، وبينما الدماء تسيل، كان جديرُ بالذكر أنَّ شباباً ينتمون الى الثورة – استُشهد من بينهم شاب طبيب يُدعى أبو الحسن – قد أعلنوا إنضمامهم ودعمهم للإعتصام الذى يجرى تصفيته رغم إختلافهم كلياً مع توجهات السلفيين (حازمون) ومطالبهم أيضاً ... لكن كان ثمة بصيص من الأمل حينما كان لدى شرائح من المصريين وازع أخلاقى فى مضمار السياسة.
ليس هذا المقال تأريخاً لأحوال الثورة بالطبع، فهى لم تكشف بعد عن كل ما تستره، كما أنَّ التأريخ لثورة يناير العظيمة أمرُ ليس باليسير، فضلاً عن أنَّ ما نعلمه من تفاصيل الأحداث التى مرَّت بها هذه الثورة هو أقل القليل، ولكنَّ هذا المقال مجرد إشارة موجزة الى واقعٍ مُر عايشناه جميعاً، عانينا منه كما استنشقنا فيه أريج الحرية، برغم أنَّ العدالة كانت دائماً وهماً وسراباً، لقد كشفت الثورة عن حجم الدماء الذى يمكن أن تضحى به السلطة – أىُّ سلطة – من أجل أن تحفظَ إمتيازاتها وأن تضمن بقاءَها، كما كشفت عن لا أخلاقية كثير من الحركات والتيارات على إختلاف توجهاتهم الثورية والليبرالية والإسلامية، وبعد كل هذه الدماء التى نزفها الوطن، وبعد كل الشباب الذين رحلوا فيما لم يلتفت أحد الى حقوقهم، وبعد كل الذين اعتقلوا ظلماً وسُحلوا وأوذوا وحوكموا أمام محاكم عسكرية، كان المجتمع مؤهلاً لأن يستقبل فض اعتصامى رابعة والنهضة، بقلوبٍ واجفة وأبصارٍ خاشعة وضمائرٍ خَرِبَة وألسن أخرسها الخوف أو الإنتفاع والمصلحة.
كان المشهدُ شديد الكآبة إذ تحول المصريون بعد شهور من الثورة ومناسبات الدم المتكررة، الى جماعة تتكون من أقليات، فرقوا دينهم وأصبحوا شيعاً، كلُ جزبٍ لما لديهم فرحون، حيث لم يهتز للإسلاميين جفنُ حينما قُتل الناس فى ماسبيرو وفقئت أعين الشباب وقُتلوا فى محمد محمود وسًحلت ذات الرداء الأزرق فى مجلس الوزراء، وتخلى الشباب عن مثاليته التى لم تجدى مع أناسٍ أدمنوا المصالح ولُعبة السياسة، فأعلنوا هم أيضاً صمتهم إزاء ما يحدث فى رابعة والنهضة بل انبرى بعضهم يدافع – انتظاراً لمكاسب فى المستقبل القريب – عن دولة 3 يوليو الوليدة فوق جثامين المصريين فى الشوارع.
وهكذا تعرى الجميع، فالكل ضحية والكل مُدان، الشعب لم يحتمل الشباب إذ قام بثورة حقيقية كانت تُشكل فرصة نحو التقدم والإزدهار، الشعبُ نفسه أفسد إختيارات الشباب فى كل مناسبة، فصوَّت فى 19 مارس 2011 بنعم لتعديل الدستور فيما أراد الشباب الثائر دستوراً جديداً، واختار فى الإنتخابات البرلمانية على أساس الدين حيث انتخب معظم المسلمين قائمة التحالف الديقراطى التى تضم الإخوان وحلفائهم، وانتخب معظم المسيحيين قائمة الكتلة المصرية التى تضم أحزاباً مدنية، فيما حظى فلول الحزب الوطنى المنحل بعدد أكبر من قائمة "الثورة مستمرة" التى نظم الشباب نفسه فيها وحظى بالفشل نتيجة دعايات مختلفة ونتيجة انشغاله أو إشغاله بمعارك الشارع بعيداً عن الأمور الدائرة فى كواليس وزارة الدفاع.
لقد أصبح المصريون بين عشية وضحاها مجموعة من الطوائف وما عادوا شعباً واحداً، الجميع يشمت فى دم الجميع، ولقد طُويَت صفحة الثورة ولا يزال المصريون يتجرعون مرارة الفرقة والتشيع، واضطمحلال القيم المصرية وانهيار الرصيد الحضارى الذى لم نملك قط أسمى منه، فسقط الإخوان وحلفائهم وخلَّفوا دماً كثيراً، وسارع السلفيون ببرجماتية فقفزوا من السفينة الغارقة الى دولة 3 يوليو الجديدة، وفقدت حركات الشباب المصداقية الأخلاقية التى ميزتها منذ قامت الثورة، فتضاءل دَورها ولم يعد لها تأثير يُذكر، وصار الجميع ينهش فى جسد الجميع، وتفشت مظاهر التردى بين أروقة السلطة والمجتمع سواءً بسواء، وظهر جلياً أن أمراض السُلطة من فساد وظلم وقمع وسرقة للمال العام هى نفسها أمراض المجتمع الذى تترعرع هذه السلطة فى أحضانه.
إنَّ أمراض السلطة فى بلادنا المنكوبة هى ذاتها أمراض المجتمع، فكل صنمٍ يُعبد فى اروقة السلطة، يناظره صنمُ آخر يُعبد فى أروقة أى مكتب حكومى بسيط نمُرُ عليه فى حياتنا اليومية، والقمع الذى تواجهنا به السلطة هو ذاته القمع الذى يمارسه الأب فى بيته تجاه أبنائه، ويمارسه الزوج مع زوجته أو الزوجة مع زوجها، ويمارسه الأخ تجاه أخته أو المدير تجاه مرئوسيه، والإلتصاق بالكرسى السلطوى والسعى الى توريثه يماثله إلتصاق قطاع واسع وعريض من المصريين بكراسيه فى أصغر مؤسسة أو وزارة أو شركة خاصة أو بنك، وإيمانهم العميق بحقهم المطلق فى توريث مناصبهم كما لو كانت ملكية خاصة لهم حتى لو كانت مجرد مقعد فى الأتوبيس ..
إننا أمام مصريين آخرين، مصريون يكرهون أنفسهم، يقتلون أنفسهم بدمٍ بارد، بدعوى أنَّ القاتل انقلابى والمقتول إسلامى، أو وبدعوى أنَّ المقتول شرطى أو عسكرى أو قاضٍ يؤدى مهمته المقدسة وأنَّ القاتل إرهابى، المصريون يعانون من تحلل خطير فى قيم المجتمع، لأنَّ المجتمع يحتقر نفسه، والسُلطة تحتقر مجتمعها، طوائف تتصارع من أجل ضمان سيطرتها، قضاة وعسكريون وضباط شرطة، كلُ يحاول بسط سيادته، كلُ ينظر الى نفسه لا الى آمال مجتمعه وطموح أفراد هذا البلد، انحراف خطير فى دَور المؤسسات منذ كامب ديفيد لم ترى مصر مثيلاً له عبر تاريخها الطويل، وزير يحتقر ابن عامل النظافة ليُكرسَ لواقعٍ بائسٍ غير رسمى نتعامل معه يومياً ويجعله رسمياً، ويقضى بذلك على أنصاف البشر من أمثال عامل النظافة الذين ليس لهم حق فى الحياة أو العيش بكرامة أو تطوير أنفسهم والإرتقاء بوجودهم، وليدمر مبدأ تكافؤ الفرص، ويُعَرِض السِلم المجتمعى لأقصى درجات الخطورة والإهتزاز حينما ينقشع الأمل فى عيون الشباب نحو التغيير أو الرقى بأحوالهم، ويدعو الى ثقافة المحسوبية والفهلوة والحصول على الفرص والوظائف من خلال النفوذ والرشوة وتبادل المنافع، .. لم يكن هذا جيداً لأنه ومن جديد كشف عوار السلطة المترهلة، فاستبدلوه بآخر يزخر تاريخه برصيدٍ شديد الثراء من التعالى والتكبر والإحتقار للشعب وللمجتمع الذى خرج منه ..
نحن إذاً أمام سُلطة تائهة لمجتمع فاقد البوصلة، سُلطة متعالية لمجتمع مُتدنِ، سُلطة قمعية لمجتمع خائف، سُلطة فاسدة لمجتمع تحللت قيَمه، سُلطة يحكمها نظام الطوائف المملوكى لمجتمع غارق فى الإنقسام والتشظى، سُلطة تحتقر الإنسان لمجتمع لا إنسانى، نحن أمام مصريين من نوعٍ آخر ... مصريون يكرهون أنفسهم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مصر البلد
على سالم ( 2015 / 5 / 25 - 05:46 )
مصر اكبر دوله تعيسه الحظ ,مصر دوله فقيره وشحاته ومتسوله وجعانه ,مصر السرطان تمكن منها تماما ,الشعب المصرى غير متجانس وفاسد وسطحى وجاهل وتافه ,هذه معضله كبيره وحلها ليس سهل

اخر الافلام

.. هدنة غزة وصفقة تبادل.. تعثر قد ينذر بانفجار| #غرفة_الأخبار


.. إيران والمنطقة.. الاختيار بين الاندماج أو العزلة| #غرفة_الأخ




.. نتنياهو: اجتياح رفح سيتم قريبا سواء تم التوصل لاتفاق أم لا


.. بلينكن يعلن موعد جاهزية -الرصيف العائم- في غزة




.. بن غفير: نتنياهو وعدني بأن إسرائيل ستدخل رفح وأن الحرب لن تن