الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاستعادة الأدبية والثقافية للتراث العربي في مرحلة النهضة

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2015 / 5 / 28
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


لقد تعامل أدباء النهضة مع الكلمة تعاملهم مع خزين التاريخ والمعاناة. والشدياق، على سبيل المثال، استفرغ في كتاباته كلمات (مفردات) القواميس العربية، وأورد أعداد هائلة منها في عباراته يصاب لها رأس المرء المعاصر بالدوار. وهو موقف وجد تعبيره عند أديب اسحق (1856 – 1885) في الفكرة التي سبقه إليها الشدياق، من أن العبارة هي حركات الإنسان وأفعاله وأفكاره.
فقد كانت أسرار (اللغة) العربية بالنسبة لهم هي أسرار العروبة الدفينة. وليس مصادفة أن يسهب الشدياق ببيان ما اسماه بأسرار الحروف في اللغة العربية، وكشف عما فيها من معان دفينة للعروبة الثقافية، مثل عثوره في حرف الحاء على معنى السعة والانبساط كما في كلمات السماحة والانسياح والساحة والراحة؛ وفي حرف الدال على اللين والنعومة كما في كلمات المرد والرغدة؛ أو على معنى الصلابة والقوة كما في كلمات التأكيد والتأييد والحدّة والشدة؛ وفي حرف الميم على معنى القطع والاستئصال كما في كلمات حطم وثرم وحرم وحتم؛ وفي حرف الهاء على الحمق والغفلة كما في كلمات الأبله والتائه والمعتوه(أي كل ما سنرى أثره اللاحق في التأسيس اللغوي للفكرة القومية عند زكي الارسوزي). بينما لا نعثر في كتاب (مشهد الأحوال) لفرنسيس مراش على أحوال الصوفية، بل على أحوال العالم العربي من خلال تأمل مختلف تجلياته. إذ نراه يكتب عن أحواله في الشعر، والكون، والبلد، والغربة، والحب، والكراهية، والصحبة، والعداوة، والعمل، والراحة. وتصبح الحياة موضوعا للبلاغة في الإطراء والتغزل والتأسف والإعجاب. ويصبح الإنسان العربي موضوعا للبحث يرتقي إلى مصاف التأمل الفلسفي.
من كل ذلك يبدو واضحا، بان البحث في أسرار اللغة والتلذذ بتعبيراتها عن حالات النفس وتأملات الفكر هو بحث عن خبايا الأنا الثقافية وتاريخها المنصرم لأجل اكتشاف ما يساعدنا منه في دعم وترصين الأفكار الرامية إلى تغيير الحالة الاجتماعية والقومية.
فعندما يتناول الشدياق، على سبيل المثال، كلمة الهوى فانه يتوصل إلى أن البحث فيها فقط يجبر المرء على الاعتراف، بان "اللغة العربية شرك للهوى". وعندما يتكلم عن مراتب العشق الثمان وهي الاستحسان(عند النظر والسماع) والمودة (الميل للمحبوب) والمحبة (ائتلاف الأرواح) والخلة (تمكن المحبة في القلب حتى تسقط بينهما السرائر) والهوى (لا يخالطه تلون ولا يداخله تغير) والعشق (الإفراط في المحبة حتى لا يخلو فكر العاشق من المعشوق) والتتيم (لا يرضى نفسه سوى صورة معشوقه) والوله (الخروج عن الحد إلى الجنون)، ثم يضيف لها كل من الغرام (الحب المستأسر) والشوق (نزاع النفس) والتوقان، والوجد، والتكلف، والشغف. لقد حاول أن يكشف عبر هذا المثال عن الأبعاد السحيقة للروح العربية. فاللغة هي عبارة عن حركات الإنسان وأفعاله وأفكاره، وان تعدد الكلمات تعكس عمق حركاته وأفعاله وأفكاره. واللغة القادرة على عكس خلجات النفس والروح وحركات الجسد بتنوع هائل هو دليل على عمق أفعالها وحركاتها وأفكارها. ومن ثم فان استنهاض ذخيرة "لغتنا الشريفة" هو إنهاض قواعد نطقها ودقة معانيها من اجل إنهاض العقل العربي ووجدانه كما يقول الشدياق. إذ أن حال اللغة هو حال الأمة، كما يقول أديب اسحق.
في حين جعل الشدياق من النقد الأدبي الساخر أسلوبا لتعرية مثالب الحياة الاجتماعية، وإخضاعها لمبضع العقل الجارح. فهو يستفز الرؤية النقدية تجاه قبح الواقع ومظاهره الرثة عبر جمال اللغة ورفعتها. لذا نراه يورد في كتاباته كل ما يثير في القلب الانتشاء والسخرية المتعالية، وكل ما يجعل من "الصورة الفاحشة" صورة مقبولة ومعقولة لا تصدم العين، ولا تخدش السمع، ولا تستفز الأخلاق، ولا تنفّر النفس الاجتماعية. ففي انتقاده لغة رجال الدين التقليديين يشير إلى أن رأس مالهم اللغوي لا يتعدى أقوال مثل "يحتمل أن يكون هذا الشيء من باب المجاز الاسنادي أو اللغوي، أو من مجاز المجاز أو الكتابة، أو من حمل النظير على النظير، أو من حمل النقيض على النقيض، أو من باب الذكر اللازم وإرادة الملزوم، أو بالعكس، أو من باب التهكم، أو من طاقة التلميح، أو من خصائص الاكتفاء أو فتحات التجريد أو من فرجة الاستطراد أو من ثقوب التورية…".
وأصبح انتقاد الشعر مقدمة انتقاد الحس الأدبي والذوق المعنوي، والزيف والبلادة المتحجرين في أصداف اللغة ومفرداتها. وتحول إدراك قيمة الشعر المتحرر من تقاليده المبتذلة ومحاكاة موضوعاته القديمة إلى حجر الزاوية في بناء صرح الرؤية المعنوية للواقع. فالشدياق لا يطالب الشاعر أن يكون فيلسوفا، لان كثير من المجانين كانوا شعراء. وبهذا الصدد قال الفلاسفة أنفسهم أن أول الهوى الشعر، وأحسن الشعر ما كان عن هوى وغرام. ولم يقصد الشدياق بذلك سوى ضرورة تحرر الشاعر من قواعد التقليد السائدة في عصره، التي حنّطت الشاعر وهو على قيد الحياة، أي أن الشاعر الحقيقي من يولع بالحرية وهوس الغرام. لهذا وجد في شعر شعراء عصره ملهاة صغيرة. فأحدهم يقسم بالإيمان المغلظة عن عوفه الطعام والشراب شوقا وغراما، وسهر الليالي الطويلة وجدا وهياما، في حين نراه يتلهى بأية ملهاة كانت. ذلك يعني أن فقدان الغايات الكبرى في شعر الشاعر ملهاة تافهة. بينما الشعر الحقيقي هو الروح الفاعل للأمة ومصدر ثقتها بنفسها وصدق عواطفها. لهذا السبب تفخر اليونان بهوميروس، والرومان بفرجيل، والطليان بطاسو، والإنجليز بشكسبير وهاملتون وبايرون، في حين لم يظهر في أمة من الأمم شعراء مجيدون كشعراء العرب على اختلاف الأمكنة والأزمنة ابتداء بالجاهلية ومرورا بالإسلام والدولة العربية، كما يقول الشدياق.
أما فرانسيس مراش فقد كتب في مقدمة (مرآة الحسناء) قائلا "الحمد لله الذي البس الشعر جمالا وجلالا، وجعل فيه البيان سحرا حلالا، فطابت النفوس في جنات أزهاره ورقصت القلوب بكؤوس عقاره"، مؤكدا على أن الشعر العظيم هو لفظ جميل فيه معنى الطرب، أي الشعر الذي يجمع بذاته جمال اللغة والمعنى المتين. مما حدد موقفه النقدي من تجارب الشعر، ودعوته الشعراء لتجديد الرؤية الشعرية بما يتناسب مع الوقت. إذ لكل عصر رجال، والرجل العبسي ليس الآن بالرجل، وان لكل زمان السن نطقت بكل معنى جديد غير مبتذل. وهي فكرة سبق لبطرس البستاني وان عبّر عنها في موقفه النقدي من أحوال جيله، بحيث جعله ذلك يؤكد على ضرورة الاستفادة من قول المتنبي (المجد للسيف ليس المجد للقلم) ولكن من خلال حث الجيل المعاصر على إدراك حاجته للتعلم أكثر من احتياجه للسيف.
وصب الشدياق غضبه الأدبي على الزيف الديني، والطائفية، وصراع الأديان، والانغلاق الاجتماعي والقومي والثقافي. واعتبر تدريس الثور على العمل (الحراثة) انفع من تدريس حبرين ("علماء الدين"). واستغرب من مواقف رجال الدين الذين ينفقون أموالا طائلة على المآدب دون أن يطبعوا كتابا في اللغة والآداب. وقدم صورا ساخرة وهزلية عن حياة الرهبان ومعاناته الشخصية بينهم من أكلهم الخبز اليابس والعدس، وجهلهم بالكلمات، بحيث لا يفرقون بين كلمة القاموس والجاموس. وإذا كانت حقيقة الرهبنة تقوم في رهبة الله وليس في أكل الخبز اليابس والعدس، فإنها تفترض المثابرة في العمل والإخلاص فيه. بينما حياة الرهبان هي حقد وغل وحسد ونفاق وصراع اشد مما بين الدول المعاصرة.
احتوى نقد الدين ورجال الدين في أعماقه على محاولة تحرير العقل والوجدان من قيود "المقدسات" المزيفة. فقد كان نقد رجال الدين عند أدباء النهضة العربية يحوي في أعماقه على نقد المزيفات من الرواسخ والثوابت و"المقدسات" في الواقع الاجتماعي. لذا لم يقع هذا النقد في تطرف الجفاء الروحي تجاه تجارب الأسلاف. على العكس، لقد وجدوا في الحقائق الثقافية للدين (الإسلامي والنصراني) أحد المصادر الكبرى لبعث الوعي القومي. وشكل نقدهم للزيف الديني أحد الروافد الوجدانية والعقلية لنقد الذات المتزن.
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مقتل حسن نصر الله.. هل تخلت إيران عن حزب الله؟


.. دوي انفجار بعد سقوط صاروخ على نهاريا في الجليل الغربي




.. تصاعد الدخان بعد الغارة الإسرائيلية الجديدة على الضاحية الجن


.. اعتراض مسيرة أطلقت من جنوب لبنان فوق سماء مستوطنة نهاريا




.. مقابلة خاصة مع رئيس التيار الشيعي الحر الشيخ محمد الحاج حسن