الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العرب على مفترق طرق اللاهوت

علي المدن

2015 / 6 / 4
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


هذا حديث تختلط فيه السياسة باللاهوت، قد يستهجنه بعض المترفين ممن يفضلون، بدوافع شتى، تجاهل النظر في الجذور الدينية الدفينة، والموغلة في التصلب، لمشاكلنا. سوف لن نستجيب لهذا التجاهل، لن ننساق وراء اشباع نرجسيته، بل سنقابله بتجاهل من نفس المستوى. سوف نبدأ تحليلنا بوصف آخر مستجدات الأحداث السياسة في عالمنا العربي، ثم نحاول ربطها بتلك الجذور التي نود التنبيه عليها، تلك الجذور التي أرى أن متابعتها تقودنا إلى عش الدبابير.
لا يختلف اثنان على أن السعودية كدولة تواجه اليوم بنحو جدي خطر إرهاب التكفير، وهو خطر لا يقاس حجمه بالعمليات الإرهابية التي حصلت في مكة والظهران قبل سنين بعيدة؛ لأنه هذه المرة يستهدف السلم الأهلي، يستهدف تجمعات المدنيين الآمنيين (من الشيعة بطبيعة الحال) ودور عبادتهم وأسواقهم، وليس النظام فقط. كما أنه إرهاب مصدره تنظيم عالمي (له دولته)، وليس جماعات محلية متطرفة. وهذا الإرهاب وإن غذّته مناهج التربية السعودية، وخطابات ومحاضرات رجالها الدينيين، وبرامج قنواتها الفضائية أو القنوات المدعومة سعوديا، إلا إنه بات خطرا اليوم لأنه بدأ يخرج عن سيطرة السلطات الحاكمة.
كان رجال النظام السعودي يظنون أنهم بمأمن من النتائج التدميرية للأيديولوجيا التي بشّروا بها طيلة العقود الماضية؛ بل التي شيّدوا عليها دولتهم؛ لأنهم كانوا يثقِّفون مواطنيهم بنحو موازٍ بضرورة طاعة "أولي الأمر"، وتحريم الخروج عليهم، انسجاما مع ظاهر الآية القرانية: (ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)، وغيرها من الآيات والأحاديث الداعية للزوم الجماعة وطاعة الحكام. كان "التكفير" سلاح الدولة وعنصر قوتها في منظومتها السياسية وتجييشها العسكري، كان نحواً من الذخيرة بيد السلطة الدينية المتحالفة مع السلطة السياسية، إلا أنه اليوم بيد سلطة دينية أخرى منافسة، لا تعترف بشرعية النظام السياسي السعودي؛ ولذا يشعر السعوديون بخطورته ويعملون على "تطويقه". تطويقُه وليس "اجتثاثه"؛ وهذا واضح من خلال ملاحظة تصريحات سياسيي الدولة السعودية وخطابها الديني في إدانة الأحداث الدموية التي طالت المدنيين الأبرياء، حين يُكتفى باعتبارها مجرد "فتنة" ينبغي تجنبها وعدم الانجرار لها. وهذه الكلمة - لمن لا يعرف معناها - اصطلاح إسلامي "أمني"، يقصد به فقدان الأمن والإخلال النظام، ولا علاقة لها بالموقف الديني من الضحايا.
ولكن إذا كان هذا الوضع هو عبارة عن خلل في "فهم" الدين مدان من قبل السلطات السعودية، فلماذا نوظفه في تحليل أزمتها كدولة؟ الجواب: لأن السعودية هي من تعرّف نفسها بواسطته ولسنا نحن من أسقطه على سياستها. إنه خلاصة أيديولوجية الدولة وأساسها الشرعي الذي قامت عليه في وعي مؤسسيها. وإذا كانت السعودية تعاني منه اليوم هي الأخرى فلإنه في الواقع ليس إلا رشفة أولى من كأس سم "أيديولوجتها" التي أنفقت المليارات على نشرها في العالم الإسلامي كله. أما بقية كأس السم فقد سبق العالم العربي والإسلامي السعودية إلى تذوق ويلاته عبر هذه الحروب الدينية المستعرة تحت لواء "التوحيد" وهدم الشرك ومحاربة أهل البدع والضلالة.
أن قضية الخلل في فهم الدين، أو الصراع على ذرى "السيادة الإلهية"، لطالما كان الغطاء الرسمي لأزمة الدولة العربية الإسلامية وسبب ضعفها في نفس الوقت، ولكن القضية تم حلها تاريخيا عبر إعادة تعريف "الإيمان" دينيا، والرضوخ لواقع الدولة الغالبة سياسيا. وقد استمر هذا الوضع طيلة العصور الإسلامية الوسطى حتى بداية ظهور مرحلة الإستعمار الذي أطاح بكل تصوراتنا حول الدين والدولة والمجتمع. ومنذ المرحلة الأخيرة، والتي غالبا ما تؤرخ بسقوط الدولة العثمانية، وهو ما يمكننا غض النظر مؤقتا عن مدى صحته، والعالم العربي منقسم ضمن عدة اتجاهات فكرية من دعوات إسلامية إصلاحية، إلى حركات ليبرالية، إلى إيديولوجيات قومية، أو ماركسية. ومع أننا قد نختلف في تقييم كل هذه الاتجاهات الفكرية والسياسية ومدى انسجامها مع شعارتها أو نجاحها في برامجها، إلا أننا لا نشك أن همومها كانت متجهة نحو النهوض بالمجتمعات العربية، وكان حتى "الداعية الإسلامي" مشغولا بالبرهنة على تحرر الإسلام وسموه وتطوره و"حداثته". كان الجميع مشغولا بقضايا من صنف: مواجهة الاستعمار، استعادة العرب لمكانتهم الضائعة، تأسيس دولة الحقوق والمواطنة، بناء الاقتصاد الوطني المستقل ... إلخ. يمكن القول إنهم كانوا يتطلعون إلى "نموذج" ماثلٍ بين أيدهم، هو نموذج الغرب، سواء في حرياته، أو في عدالته، أو تقدمه الصناعي، أو في قوته ومتماسكه ومهابته. في النهاية كان الغرب هو "الآخر" الذي يموضعون أنفسهم أمامه.
ما هو مختلف اليوم مع "الأيديولوجيا التكفيرية" أنها أعادت توزيع الأوراق من جديد بنحو جذري. إنها تستأنف تعريف همومنا بنحو مغاير لما عرفناه من "هموم" منذ ما يزيد على قرن ونصف، وتضع لنا تطلعات غير ما كنا نتطلع إليه، وترسم لنا حلولا غير ما كنا نفكر به من حلول. إنها تعيد تعرف هويتنا بالكامل، محدثة قطيعة مرعبة مع كل الجهود والتضحيات والمشاريع التي سعى لها عرب المئة والخمسين سنة الأخيرة لصالح "نموذج" عانى منه أسلافنا في القرون الوسطى كان هو السبب المباشر لانحدارنا وضياعنا وتخلفنا.
إن هذه الأيديولوجيا، وبسبب انتمائها لتاريخنا الماضوي الأشد انحطاطا، نجدها تسعى لبعث الحياة في كل ما هو ميت ومتفسخ. إنها تستعيد لحظة سقوط الدولة العباسية وحملات المغول والصليبيين، لتقدم تعريفها لمن نكون وما يجب أن نكون عليه. وحيث أن هذه اللحظة هي أشد لحظات العرب والمسلمين إرباكا وتمزقا، لحظة تحطم دولة الخلافة الإسلامية، واتهام الطوائف لبعضها البعض بالخيانة، وإعلانها الحرب على بعضها والديانات الآخرى، وتسارعها إلى القراءة الحرفية للدين من أجل الحفاظ على الدولة والجماعة ... إلخ، حيث أن تلك اللحظة كانت بتلك السوء، فإن استعادتها اليوم تجلب معها كل تلك المساوئ من جديد. وليس اعتباطا أن يكون الشعار الأكثر حضورا في سياسة هذه الأيديولوجيا، الخارجية والداخلية، مستندا إلى مقولة عقائدية شاعت في تلك العصور المظلمة، مقولة "إن الشيعة أخطر من اليهود والنصارى"!!. فهنا تحديدا تتشكل هويّنا على أساس الطوائف، ويكون "الآخر" ليس "الاستعمار" ولا "الغرب" ولا "الدول الكبرى"، بل هو المسلم الآخر، ومثله أيضا الدين الآخر. فتعرّف الدولة ووظائفها وسيادتها وعلاقاتها السياسية، والمجتمع والمواطنة وجميع قضايا الإدارة وهموم التغيير بنحو منفصل جذريا عن عصرنا والفكر الحديث الذي نحن على صلة به.
هل يعود لافتا بعد الواقع الجديد السؤال عن سبب تصدّر السعودية، دون سواها من دول العالم العربي، المشهد السياسي العربي اليوم؟ السعودية التي غابت عن كل مخاضات المجتمع العربي من أجل تأسيس الدولة الحديثة، وعن كل الهموم العربية من أجل التغيير والتحديث والعصرنة، يسطع نجمها اليوم، بعد سقوط أو ضعف الدول الراعية لهذه المسيرة الممتدة لقرن ونصف من الزمان (مصر وسوريا والعراق)؟ أبدا ليس غريبا ما تحتله السعودية اليوم من مكانة؛ ذلك لأنها الدولة العربية الوحيدة الأشبه بالأيديولوجيا الجديدة. السعودية عجزت أن تلعب أي دور آخر في مسيرة العالم العربي، لأنها، وببساطة، لم يكن لها أن تلعب دوراً غير ما شُيّدت عليه كدولة من منظومة أفكار، والتي تمثلها الأديولوجيا التكفيرية التدميرية السائدة وقتنا هذا خير تمثيل.
إن العقل الديني لا ينفصل غالبا عن إطلاق أمثال هذه "الأحكام". والحداثة وإن غيّرت كثيرا من مفاهيم ورؤى هذا العقل، وأرغمته على الاعتراف بالتعددية الفكرية والحريات والحقوق المدنية الحديثة، جاعلة أحكامه مجرد "آراء" لا تمتلك حقا باحتكار الحقيقة، إلا أن ذلك كان مقتصرا على العقل الديني الغربي، ولم يقتحم العقلُ الديني الإسلامي بنحو جدي هذه العوالم. ولكنه على الرغم من ذلك ظل محتفظا بقسط وافر من الالتزام بمبادئ "السلم الأهلي" داخل المجتمعات العربية، فهو وإن لم يتراجع عن رؤاه القديمة بالتضليل والتبديع والتكفير، إلا أنه تضليل وتكفير (لاهوتي) مرجأ، اعتقادٌ "آجل" بنوع خاص من الحقيقة أمام الذات الإلهية، ساحته "القيامة" حين يمثل الناس بين يدي الله. أما الأيديولوجيا التكفيرية، فهي تحوّل التضليل والتكفير إلى سلوك حي داخل المجتمع، لا تتردد بتنفيذ مداليله "عاجلا" بإشعال حروب حقيقية، حروب فيها أفظع أشكال الذبح والإبادة والتهجير.
إن ربط هذه الأيديولوجيا بتراث شخص بعينه لا يساعد على فهم الظاهرة التكفيرية التي تمزق مجتمعاتنا، فإن الأزمة اليوم لا تخص تراث هذا الشخص أو ذاك بقدر ما هي أزمة "العقل الديني الإسلامي" بتنوعاته كافة. وقد سبق لي أن أوضحت بنحو مختصر ما أعتقد أنه السبب الرئيسي الذي يقف وراء هذه الأزمة. يمكنني تلخيصه الآن بكلمة واحدة، هي: إننا في مواجهة حقيقية مع تفسرينا وفهمنا الخاص لمعنى "الإله". إن أعمق وأطول صراع ديني عرفه التاريخ الفكري للإسلام كان حول مسألة الإمامة، ومع ذلك فإنني أرى أنه لم يكن الصراع الأهم بالنسبة لنا اليوم، إن ما هو مهم لنا اليوم هو تفسير ما يعنيه هذا نفس "الإله" لنا كأفراد وكمجتمعات وكدول.
لقد آن الآون للعرب والمسلمين أن يضعوا تفسيرهم الموروث على محك التشريح والتفكيك والنقد، آخذين بنظر الاعتبار كل السجالات الثرية في الفلسفات الدينية التي أنتجها علماء الديانات الإبراهيمية الأخرى. ولا أقصد هنا ما يجري في الأديرة والكنائس ومعاهد الدين التقليدية، وإنما الجامعات ومراكز البحث والمنتديات العلمية الرصينة. إن القلق الإسلامي المشبوب بحوافز التقوى، والغيرة الدينية المنبثقة عن مشاعر الخشية على ضياع تراثنا الروحي العظيم، وإن كانت مفهومة لدى من يعرفون حجم هذا التراث وتاريخه والتضحيات المقدمة من أجله، إلا أن الواقع لا تحرره المشاعر الصادقة والنوايا الطيبة.
نحن أمام تحدٍ وجودي اليوم والتاريخ يعلمنا أن التضحيات تأتي متناسبة مع حجم التحديات.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. خدمة جناز السيد المسيح من القدس الى لبنان


.. اليهود في ألمانيا ناصروا غزة والإسلاميون أساؤوا لها | #حديث_




.. تستهدف زراعة مليون فدان قمح تعرف على مبادرة أزرع للهيئة ال


.. فوق السلطة 387 – نجوى كرم تدّعي أن المسيح زارها وصوفيون يتوس




.. الميدانية | المقاومة الإسلامية في البحرين تنضمّ إلى جبهات ال