الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكلمة الطيبة

وليد الحلبي

2015 / 6 / 7
المجتمع المدني


ربما كان مشروعاً أن نبدأ بالتساؤل: هل يشترط في موضوع بدأ بسؤالٍ ساذج أن يجعل الموضوع نفسه ساذجاً؟، لا أعتقد ذلك، فرب سؤال سطحي حمل في طياته فكرة خلاقة، ورب فكرة عابرة قد يأتي منها خير كثير، وعلى سبيل الاستشهاد والتدليل، أبدأ بالسؤال الساذج: من هم أقل الناس اكتساباً لعداوة الآخرين؟، الحكماء؟: كلا، إذ ربما تكون لديهم لحظات ابتعاد عن حكمتهم، فيفقدون صوابهم ويكسبون عداء الآخرين. الحمقى؟: أبداً، إذ ربما تكون لدى هؤلاء لحظات اقتراب من التعقل والتروي، يحسنون فيها التعاطي مع الآخرين واكتساب ودهم. فلو عدت إلى السؤال الساذج: من هم أقل الناس اكتساباً لعداوة الآخرين؟، لبادرت إلى القول بأنهم الصم البكم، أولئك الذين لا يسمع الناس منهم كلمة تجرح، أو عبارة تسيء، فمتى كانت إشارات اليدين تزجي الشتائم.
من هنا أنطلق إلى الجزم بأن اللسان هو الذي يبدأ الشر بين الخلق، وعلى عاتقه تقع مسؤولية معظم الكوارث والجرائم التي ضربت البشرية منذ نشأتها، ولو تتبعنا بداية أي خلاف بين اثنين – وحتى بين دولتين – لوجدنا اللسان هو المحرك الفاعل لذلك الخلاف، والنار المشعلة لفتيله. فمن قبيل الاستشهاد بدليل لا يمكن لعاقل دحضه، نبدأ بالجريمة الأولى في تاريخ البشرية عندما تنازع ابنا آدم، فقتل "قابيل" أخاه "هابيل"، فبحسب الرواية القرآنية (سورة المائدة 27 - 31 -) – {وقد وردت كذلك بنفس المعنى والمبنى في الكتاب المقدس - سفر التكوين}، فقد قرَّب الأخوان قرباناً لله تعالى، فتقبل من أحدهما "هابيل" ولم يتقبل من الآخر "قابيل"، من هنا سوف نتتبع دور اللسان في التسبب بتلك الجريمة، فعندما لم يتقبل الله قربان قابيل، قال لأخيه كلمة واحدة (لأقتلنك)، ومن البديهي أن تنزغ هذه الكلمة بين الأخوين، فتنشر العداوة والضغينة بينهما، ولكن حتى هنا لم ينشب الشر بين الاثنين ولم تقع الجريمة، إلا عندما رد عليه أخوه (إنما يتقبل الله من المتقين)، ففهم قابيل بأن أخاه هابيل يتهمه بأنه غير تقي، وفي هذه إهانة لا شك فيها، ولكن، لوتخيلنا أن جواب "هابيل" لأخيه كان (سامحك الله)، أو حتى لو تجاهله ومضىى في حال سبيله، فماذا كانت ستؤول الحال إليه بين الأخوين؟: لنا أن نتصور أن "قابيل" ربما كان سيندم على تهديد أخيه بالقتل، فتعود المياه إلى مجاريها بينهما، فينصلح الحال بين الاثنين، لكن الجدال طال بين الأخوين، إذ تابع هابيل (لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ-;- إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ۚ-;- وَذَٰ-;-لِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ)، هنا ثارت ثائرة "قابيل"، فكيف لأخيه أن يتوعده بالنار، فما كان منه إلا أن: (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، وهكذا فإن هذا الحوار الذي بدأ بين الأخوين باللسان، انتهى بأن قتل الأخ أخاه. هو لا شك أمر قضاه الله تعالى لكي ينبه ابن آدم إلى أن أكبر النار من مستصغر الشرر.
من هنا جاءت الأوامر الإلهيىة بحفظ اللسان، وجعله لا يتكلم سوى الحسن من القول، ونبه الله تعالى إلى أن الشيطان يوقع العداوة والبغضاء بدءاً من الكلمة: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ-;- إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ-;- إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا– الإسراء 53)، فالقول السيء هو الذي يفتح الباب للشيطان كي يفعل فعله بين الإخوة، فما بالك بين الأغراب، فيوقع بينهم العداوة والبغضاء. ومن تلك الآيات الكريمة ما يوضح أن دفع الأذى بالحسنى يحوِّل حتى العدو اللدود إلى وليٍّ حميم: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ-;- ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ– فصلت 34 ) فانظر رعاك الله إلى الفارق الذي تحدثه الكلمة الطيبة بحيث تحول العدو، ليس إلى وليٍّ فقط، بل إلى ولي حميم، قريب من القلب، لصيقه. ومن البديهي أن التلفظ بالقول السيء يكون غالباً عند الغضب، ولعلم رب العباد بطبع العباد، نرى الآيات الكريمة تتفهم معنى أن الظلم قد يدفع المرء إلى قول السوء، فقال تعالى (لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ ۚ-;- وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا – النساء 148)، فالغضب من الظلم قد يحرك اللسان بالسوء من القول، ورغم هذه الإباحة، والتي أظنها مكروهة من الله تعالى كالطلاق، فإننا نرى أن القرآن الكريم يمتدح من يغفرون عند الغضب، ويتجاوزون عن إساءات الآخرين (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ – الشورى 37)، وكذلك (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ-;- فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ-;- إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ – الشورى 40)
أما التوصيف الرائع للكلمة الطيبة ونقيضها "الكلمة الخبيثة"، فقد جاءت في هذه الآيات الكريمة 25-27 من سورة ابراهيم: (ألَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ-;- وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)، نعم، هي شجرة (أصلها ثابت)، أي أن الكلمة الطيبة ثابتة راسخة، تشبه الشجرة الوارفة التي لا تقوى عليها العواصف والأعاصير، شامخة عالية لنبل أصلها وطيب منبتها (وفرعها في السماء)، فيها ما فيها من النفع والفائدة، لا تتوقف عند اللسان، بل تثمر محبة وتقارباً بين الناس (تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها)، ويعود الله العزيز ليذكر الناس بأن هذا هو المثل الإلهي للكلمة الطيبة، والذي على الناس التمعن فيه، والتثبت منه، كي يكون لهم نبراساً في الحياة، يهتدون بهديه، وعليه يبنون أسس حياتهم، ويصيغون به أسلوب علاقاتهم (ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون). ولزيادة الإيضاح، وبالبلاغة الإلهية المعهودة، تتابع الآيات القرآنية واصفة الكلمة الخبيثة، والتي تشبه الشجرة أيضاً، لكنها شجرة خبيثة فاسدة مفسدة، على الناس اجتثاثها من أرضهم، واستئصالها من جذورها للتأكد من القضاء عليها بشكل مبرم وحاسم حتى لا تنبت من جديد:( وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ)، بعد ذلك بين الله تعالى فضله على عباده المؤمنين بأن ثبتهم على القول الطيب الراسخ المتين، الذي يشبه جذور الشجرة الطيبة (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ-;- وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ۚ-;- وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ)، إذن هي بشارة للمؤمنين بأنهم سيثبتون على القول الطيب في الدنيا (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَىٰ-;- صِرَاطِ الْحَمِيدِ– الحج -24)، فهم أولئك الذين استجابوا لربهم عندما أمرهم (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًاً وأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ- البقرة 83)، أما في الآخرة، فهم في جنان الخلد، ثابتين على القول الطيب كذلك (دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ۚ-;- وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ – يونس 10 - ) وهم (لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا ۖ-;- وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا– مريم 62- )، بينما يتوعد الله الظالمين بالضلال والخسران المبين. ولأنه (مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَأُولَٰ-;-ئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ – الأعراف 178) فقد هدى الله تعالى عباده المخلصين إلى القول المثالي الذي على المؤمنين ترداده (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِين– فصلت 33).
وقد أدرك أسلافنا ميزة الصمت على الكلام – لأن الصمت لا يخطيء، على عكس الكلام – فقالوا: (إن كان الكلام من فضة، فالسكوت من ذهب)، ودللوا على أسبقية الإنصات على الحديث بملاحظتهم أن الله تعالى: (خلق لنا أذنين ولساناً واحداً كي نسمع أكثر مما نتكلم)، في الأمثال قالوا:( وخز اللسان أحدُّ من وخز السنان)، أما القول بأن: ( المرء بأصغريه: قلبه ولسانه) فيلخص الحديث عن أهمية اللسان في بناء العلاقة مع الآخرين، فكفى به أهمية أن يكون متساوياً مع القلب في المنزلة.
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
5 يونيو 2015








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما آخر المواقف الإسرائيلية بشأن صفقة تبادل الأسرى؟


.. لغياب الأدلة.. الأمم المتحدة تغلق قضايا ضد موظفي أونروا




.. اعتقال حاخامات وناشطين في احتجاجات على حدود غزة


.. الأمم المتحدة: إزالة دمار الحرب في غزة يتطلب 14 سنة من العمل




.. السودان.. مدينة الفاشر بين فكي الصراع والمجاعة