الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية – أقفاص الرمل (19)

حمودي زيارة

2015 / 6 / 8
الادب والفن


قضى عباس معظم ايامه يناصب الوطن العداء... وكان يتشفى بجراحه وحروبه, لذا خاصمه اغلب سنوات عمره... وقد ضاق عباس بالوطن ذرعا... فاعلن الحرب عليه كون رتاج قصره لايضم سوى لصوص حاول الاحتيال على الوطن كثيرا من اجل ان يهرب منه.. ولكن في كل مرة كان الوطن يضبط عباس في بدايات المحاولة. منذ ان شاهد عباس الاعواد تنصب في مشارف المدن, وعلى قارعات الطرق, بداْ عباس التشهير بالوطن, ومن دون ان يبالي به قط فكان يردد دائما:
- الوطن مجرد شيخ هرم, ينتظر الريح ان تحمل رفاته.
استسلم عباس لانسياب الطريق, فانصرف يتهادى في تعرجاتها الصاخبة, بعد ان ودع الجزائري. نيويورك مدينة المكعبات الخرسانية واقبية الجرذ, لم يرق بال عباس ذلك اليوم فما زالت اصداء الحزن والحنين التي لقنته الاشباك والايام تختلج في حنايا روحه, وقليل من بقايا الدمع على اعتاب الوداع. وفي غمار احتدامه فجاْة اخذ عباس يحدث نفسه, وكاْن الوطن لكز حزنه, فاخذ عباس يرد على هاجس الوطن:
- اصبحت جزارا تدفع ابنائك الى حروبك العابثة, واصبحت كالحمار يحمل اسفارا, كرهت كل شئ فيك حتى رجولتي ماذا وهبتنا فانابيب النفط لجيوب المهرجين وللفقراء برودة الشتاء وفتات الخبز.
ومن خلل الاحتراق الذي اضطرم في روحه, تناول القلم, فور وصوله الشقة, واخذ يكتب لصديقه محمد الذي لم يستلم منه رسالة او خبر البتة منذ زمن طويل.
- ما اشد قسوة الطريق يا محمد عندما يكون ملئ بالعقبات والمتاعب ومفاهيم جائرة, ماذا يتوجب علي ان اقول, سوى اننا صبرنا رغم الرياح الهوجاء واهوال الايام القذرة, فما اردناه مضمون بسيط يزركش حياتنا لم نحلم خارج حدود احلامنا, فما عليك سوى ان تضطجع الرمال ولا تجعل الايام توهن قدرتك على المواصلة, فالهروب من شعاب الشرق جدير بالمغامرة... الحياة هنا بليدة تمضي بحشود البشر بأنابيب مغلقة تفضي الى بدايات الشوط.
بعد ان فرغ من كتابة الرسالة كتب على الظرف. المملكة العربية السعودية, ص ب 202, رفحاء, مخيم اللاجئين العراقيين. وفي بدايات النهار من اليوم الاخر, ذهب الى البريد, وبعدها تهادى في الطرق مرة اخرى... وتجول في الباصات والمحطات كالابله يشد نظره الى القسمات باحثا عن طلاوة الفرح, وامارات النشوى. لم يعثر على شئ كالعادة. وبشئ من الياس, حاول عباس ان يودع روحه القانطة في واحات مفازات الامس, لذا بتؤدة راح يجس جدران الذاكرة الهرمة, كيما يبعث انثيالات التواق والرغبة, ويرسم معاني جديدة, يمارس فيها بحبور كل ما يعتمل في الخلد من تصابي وجنوح نحو اصقاع تحمل تواريخ ومسلات حجرية, وجموع من الفقراء المشردين الذين يحملون رايات مضمخة, وشعارات مؤجلة. وبعد رتابة الطواف الملل, والخيبة التي محقت راسه, عمد عباس منكبا باغراء عنان ذهنه في تحسس لمسات الطريق لذا انساب هاربا مع دقائق الوقت, ينبش طرق نيويورك عن ماْوى يلوذ به, يتيح له ان ينزع عنه ملامح المخيم, وعن ظلال يستجم قي كنفها التي ما زال للان يتذكرها في وطن لقطاء الحلم قبل ان يتبناه المخيم, ابعد عباس دمعه انحدرت بهدوء حينما استشرق امسه الموغل في التياع اضلاع المخيم, فعباس يعرف تماما انه يزداد حزنا ان داهمته ذكريات الوطن والمخيم, وان اودع جسده الارصفة والدروب سوف لا تؤدي ابدا الى رسوم افياء النخيل ورائحة ملاءة الام, فقط دروب مقفرة اخرى. وبينما راح عباس يتساْل بعينيه في النواصي عن همس يواسي وجع حنينه, ثقب ذهنه صدى ينبثق من تلاطم امواج الاطلسي:
- لا تسهب برزم الخطوات فكل ما لديك راية منكسرة تخبأها ملابسك, وملامح رثاء تبرز مواطنتك لوطن الرمل وللمدن البائسة.
اجاب عباس بغضب:
- ما زال لدي وطن, وسيبقى كالحلم عالق في شغاف القلب وانه سيتعرف على قسماتي ان دب الشوق في روعي.
وبعد ان اعياه التعب, قفل راجعا الى الشقة وما لبث ان فتح الباب حتى بادرته بثينة قائلة:
- كاثي ستاْتي الليلة لتقضي بعض الوقت معنا.
في الساعة السادسة عصرا طرق الباب واذا بكاثي وعلى وجهها ابتسامة عريضة, عانقت بثينة, ومن ثم عباس, تحدثت كاثي كما كل مرة عن رحلاتها وعن المفارقات التي حصلت, وعن المدن التي مرت بها, ولكن في هذه المرة تبدو مختلفة فالفرح تطفل على حركاتها, فبدت على غير عادتها وما كان من عباس وبثينة سوى الاصغاء بشكل اضطراري وبعد مرور دقائق, بداءت كاثي تفشي سر فرحها ونبرة متطامنة شرعت تتحدث:
- انه شاب وسيم من المغرب, التقيته في رحلة ذاهبة الى فرنسا... تبادلنا الحديث في البداية بشكل رسمي, كان يظهر قليل من الاعجاب لي من خلال نوع نظراته واسئلته, ومن حسن الحظ كان المقعد الذي بجانبه فارغ... تحدثنا بشئ من الجدية, واسر الي بانها لم تكن المرة الاولى التي يراني فيها, عندها قلت له سوف ابقى في باريس لمدة يوم تبادلنا ارقام الهواتف, وفي اليوم الثاني التقينا وتحدثنا بشكل اكثر صراحة وواقعية, ونحن الان نخابر بعضنا البعض بشكل وانه سوف ياتي بعد ثلاثة اشهر.
ضحكوا في تلك الليلة اكثر من المعتاد, امضت كاثي الليلة معهما وفي اليوم القادم, ذهبت الى العمل, وبثينة بدورها ذهبت الى المدرسة, اما عباس فبقى في الشقة يطارد الذكريات في ذهنه كعادته, هذا منذ احتوته عفونة نيويورك. دونما سابق انذار, خطر في بال عباس السفر الى سوريا, البلد الذي اتفق العراقيين على محبته, فابدلوه بالعراق, فاصبح مناخ رحالهم, وواحة غناء لشغفهم الضائع, تماما كديار ليلى.. الدفء اكتنف الناس, ولنفس رائحة التراب, تتماثل الحياة العائمة في الاسواق, ولمرقد السيدة زينب الذي يحتفي بنفس هالة سرادق المراقد المسجاة على ضفاف الفرات ودجلة. قرار عباس بالعزم على السفر الى سوريا في هذا الوقت بالذات, بالرغم من طول غيابه عن احداث الحياة هناك عند تخوم الوجع, ربما يعود الى ما غار في باله من الام وحسرة, ولتعاظم لظى الحنين ايضا, فاراد ان يمنح جراحه بعضا من هواء الوطن ويبل غليل شوقه الذي نازعه حزنا في كل لحظة من تشرده, ومنذ فكر بالسفر, فقد خامرت رؤيته الى الاشياء معان اخرى للجمال, والايام تمر عليه كنسائم حافلة بالحدب والرقة, وحياته كذلك تحولت الى مروج متوردة فاغمة الشذا. وفي مناجاة عذبة اخذ عباس يردد:
- مدينتي كيف دروبك وهي تحتضن ظلال الحزن, انا هنا بامس الحاجة اليك, لاسيما اوقات الغسق, ومن سخرية المدن العارية... ومن حماقة الاحزان التي تنكاْ وجعي.
وبتساْل دافئ:
- هل فرطتي في ذكرياتي, فانا يامدينة الانبياء, رغم نزيف الجراح ما زلت احتضن ذكرياتنا في سويداء القلب.
تكلم عباس مع بثينة وافضى لها بقراره, واخبرها كذلك بانه سيبقى ما شاء له الشوق وما تبقى من ذكرى في قرارة روحه الحزينة. اخذ بثينة بين ذراعيه, وقبلها برغبة جامحة لم يألفها من قبل وطفق يتكلم بنحو غامض.
- تراْت لي منذ ان راهقت براعم حياتي, اعباء الساْم, والاشياء التي تطالعك بشكل قسري من شطط اليافطات والنصب المقرفة واراجيف العبث, وانا مشدود الى انفاسي في مضمار الخوف, ونزق الايام المكتظة بالانين دون ان اجد مخرج انتشل فيه نفسي من حماقات اللص.
- انها فكرة رائعة, فلا تقلق علي سوف اذهب الى اهلي في ديترويت الى ان تعود, ولحسن الحظ, العطلة المدرسية ستبداْ في الاسبوع القادم.
- شكرا لك بثينة, فانت امراة الخرافة التي امتلكت قلب النهر فما اجمل حياتي تحت ظلالك الوارفة.
- اصبحت انا معك كلوحة جميلة تستوقف الانظار, بعد تعاسة ما كنت اظن سانجو منها.
- في كل مرة عندما افكر بعلاقتنا, اشعر بان القدر قاطع الطرق لنا لنلتقي.
- اشعر بان قوة خفية انتشلتني من اعواد الصلب لتهبط في دروبك الخضراء.
- هل هناك امل ان يراْب صدع الروح في سفرتي هذه.
- كل شئ محتمل, ولكن الالم فينا تألف, فعلينا ان نعتاد عليه, والا سوف نخسر حياتنا ان فقدناه, على العموم ساذهب الى السوق لجلب بعض الضرورات اتحب ان تاتي معي.
- لا, سابقى هنا.
خرجت بثينة بخطى ثقيلة, وبقليل من الرغبة, ما ان اوصدت بثينة الباب, نهض عباس منتصبا يطاْ مربعات الشقة بقوة وكانه يتسلق منحدر وعر, حانت منه التفاتة نحو التلفاز, بعد ان سمع احد المذيعين يتحدث عن بغداد, فراْى شوارع بغداد ترقد تحت اوحال الطحالب الاسنة, واكوام القمامة, ومجموعة من الاطفال ينبشون بشغف في مخاط تعفنات الفضلات, تلوع عباس بافراط, وبكى بجنون وشدة, وذلك لعجزه عن افشاء كنه ما يعتمل في قرارة نفسه من بغض وتبرم للخواء الرازح على كواهل قطيع الضحايا في مدارات تراب العراق, وكذلك الى الاصابع الخفية التي تثير جنونها. بهرت انفاس عباس فتهالك جالسا غارقا في صمت مبالغ, قابضا على اصابعه, فبقى في نوبة توتر ولوعة عندما اركن الى مساجلة الحزن, فاطبق على صدغه لتخفيف الالم الذي تفجر يعوم في راسه, بعدما مجت شفتيه فاصحة.
- لا بد لي ان انبذ الحزن, واحمل ذكرياتي الى اعتاب الوطن كيما نتقاسم الالم سوية, بدل التالم هنا دونه.
وما ان انتهى عباس من توجعه, دخلت بثينة محملة باكياس الخضار, هرع عباس نحوها ليتناول الاكياس, ساْلته بثينة فيما اذا يريد ان ياْكل, وهي تخطو نحو المطبخ تمغط عباس وقال:
- لا, فاني اشعر بالتعب والنحول.
وما ان شعرت بثينة بان عباس واقع في فخ التوجع, نظرت اليه محدقة وقالت:
- كنا يا عباس في مدينتنا نعاني يوميا وبشكل سرمدي الحصول على لقمة العيش, كان ابي عامل اجرة كما تعرف يخرج في بداية الظلمة ويعود في اخرها, تارة ياتي بالقوت واخرى لا, ونساْل الله ان ينقذنا قساوة الشتاء, الحزن ولد معنا ويبقى كذلك.

اكملت بثينة الخطى الى المطبخ, بعد ان مسحت وجهها من الدموع, فبقى عباس يجول في الغرفة محاولا ان يشغل باله بشئ يبعده عن تقافز معابث الحزن. تناول عباس موسوعة جغرافية, فبداْ يبحث عن سوريا, ليقراء عن تاريخها, شوارعها, ازقتها, الشئ الذي اثاره بشكل خاص نضالها ضد الفرنسيين. انئذ تمخضت ذاكرته بحديث عن امه, وهي تروي له نادرة عن جده جاسم, حينما طارده الانكليز ما بين الادغال الكثة, ضرب جاسم حصانه بشدة كيما يلتقط اقدامه بسرعة, ويقذف بسنابكه الى الهواء, وبعد مسافة استطاع جاسم ان يترجل من حصانه حاثا اياه ان يستمر في العدو بعد ان وخزه ببندقيته. اختفى جاسم خلف اجمة القصب, منتظرا بانفاس متقطعة قدوم الانكليز, ودون ان يشعروا بمكوثه استمروا في المطاردة, بقى في مخباْه يترقب رجوعهم, وفي غضون دقائق, سمع حوافر الاقدام تتقدم نحوه, وما ان اصبحوا على مقربة منه, لمح سيماء التعب بادية على وجوههم , اطلق حينئذ بعض العيارات النارية نحوهم, اصاب احدهم , نزل الجميع يبحثون عن مكمن استتروا بالاحراش, بقى لفترة قصيرة يناوشهم ومن ثم قرر ان ينسحب في توغلات الهور ومتاهات البردي, كان هذا ديدنه ما دام الانكليز يطأون التراب, وكاْنه كان يلتمس الصفح من التراب لانه ينوء ببصمات خطواتهم التي تدنس رحيقه لم يتفاوض معهم اطلاقا, فقد كان يردد:
- الانكليز لا يمتلكون شيئا في قريتنا سوى الرحيل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تسجيل سابق للأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن يلقي فيه أبيات من


.. الفنانة غادة عبد الرازق العيدية وكحك العيد وحشونى وبحن لذكري




.. خلال مشهد من -نيللى وشريهان-.. ظهور خاص للفنانة هند صبرى واب


.. حزن على مواقع التواصل بعد رحيل الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحس




.. بحضور شيوخ الأزهر والفنانين.. احتفال الكنيسة الإنجيليّة بعيد