الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أسلمة الأوروبيين : من التصوف إلى التسلف

هادي اركون

2015 / 6 / 14
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


افتتن بعض الأوروبيين ،بحياة الشرق وسحره وتوهجه؛منذ الحروب الصليبية على الأقل.وتميزت روحانيات وجماليات وإيقاعات التصوف،بالقدرة على جذب النفوس الأوروبية،الرافضة للتحديث والحضارة المادية.وشكلت المرجعية الغنوصية المشتركة بين العرفانيات الغربية والتصوف الإسلامي ، أرضية للتلاقي والتفاهم والتحول.
كان البحث عن مخرج روحي الطريق الملكي لأسلمة بعض النفوس الباحثة عن الطمأنينة وسط غابات الشك والريبة والنسبية والفردنة الخانقة ولا سيما بعد تفكيك منظومة القيم التقليدية وتكريس الفكر العقلاني في مفاصل اجتماعية واقتصادية وثقافية أساسية في الاجتماع الغربي بعد الثورة الفرنسية.
حلم كثير من الحالمين بشرق،يحفل بالنور والضياء والفطرة والصفاء.وفيما يزداد الغرب برودة وموضوعية وفردنة ،تزداد قيمة الشرق، لدى مجموعات سعت للانعتاق من أطر العقلانية والموضوعية والتاريخية ، و لاستعادة دفء العيش وسط المجموعة والتمتع بمتع الحياة المشتركة بدون حسابات ولا منافع ولا خطط.
وقد افتتن الكثيرون بالجوانب الفنية في التصوف الإسلامي ( الإيقاعات والرقصات والشطح والكتابة المتحررة والحياة المنطلقة................) ،وبإيقاع الحياة في الحواضر الإسلامية البعيدة ،في الظاهر ، عن التعقيد العصري(القاهرة وبغداد ومراكش وعدن .... الخ) .
لم يملك بعض الغربيين إلا التأفف من مجتمعات تخلت عن التعالي دون أن تربح شيئا من وراء المحايثة . ولذلك اشتد الحنين إلى انطلاقة وحميمية العلاقات ،وإلى وضع معرفي وأخلاقي لا يستسلم للنسبانية وللريبية والعدمية .ولم يلتفتوا كثيرا إلى إشكاليات إسلام تتقاذفه رياح العصر،وتكشف نخبه الطليعية (جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمان الكواكبي ... الخ)،عن صعوبة تداول معارف ومعتقدات ومواقف لا يعضدها الواقع التاريخي وتطور المعارف العلمية والتقنية .وهكذا انبهر لويس ماسينيون ورونيه غينون ،بتصوف تشهد الوقائع عن أزمته المعرفية والسياسية ،وتتهاوى سماكة المجتمعات تحت معاوله الأخلاقية بالمشرق والمغرب على السواء.
وهذا مسلك مخالف لمسلك من جمع بين نقد الحضارة الغربية ونقد الإسلام مثل كلود ليفي شتراوس ودعا إلى الاستفادة من غيرية جذرية.
(على المستوى الديني يسجل الإسلام في محتواه، مع أنه، كشكل ديني ،الأكثر تطورا زمنيا ،يسجل ارتدادا عن الشكلين العالميين اللذين سبقاه ،وهما البوذية والمسيحية ،ربما لأنه ولد في قسم من الإنسانية أكثر تخلفا من غيره .)1-


لقد انبرى بعض المثقفين للبحث عن مخارج لأزماتهم وقلقهم الوجودي،وللمآزق المعرفية والأخلاقية والسياسية في مجتمعات تحكمها الايديولوجيات الكبرى أو ايديولوجيا الاستهلاك.
وهكذا اختار البعض ،استعادة الإيمان الكاثوليكي(لويس ماسينيون) فيما اختار البعض تغيير الوجهة الروحية ،كليا والتماهي مع الروحية الإسلامية أو البوذية.
فالإنسان المقهور المحصور في بعد واحد،وفي محايثة قاهرة ،لا يمكن أن يسكن إلى وضع الجمود الفكري والأخلاقي ، في مجتمعات حصرت الإنسان في الإنتاج والاستهلاك والتجاوب مع أنظمة سياسية متذبذبة المواقف الفكرية والسياسية ولا سيما في الفترة الكولونيالية.كانت الأسلمة مصحوبة هنا بالروحية والأخلاقية والوداعة ،والتضامن مع المهشمين ومستضعفي الحداثة المقتحمة ولا سيما في شمال إفريقيا وفلسطين ولبنان(مواقف فانسون مونتيل مثلا) .
وقد انجذب البعض إلى الإسلام ،بفعل تجاوبهم مع اللامعقول والدهشة المصاحبة لكثير من معارف وأفكار وطقوس الصوفية.واتخذ كثير من المتحولين من محيي الدين بن عربي وجلال الدين الرومي و الحسين بن منصور الحلاج وشهاب الدين السهروردي ،علامات على طريق الخلاص المنتشي والطمأنينة الخلاقة.
ويحدد داريوش شايغان بواعث الانتقال مما يسميه بالافتقار الأنطولوجي للعالم والإنسان إلى الامتلاء الأنطولوجي للعالم في الرقع المشمولة بالفكرية الإسلامية ،في المقارنة الدالة التالية :
(فعندما نقارن بينهما يتبين لنا أن عالم أحدهما هو مغامرة العقل عبر الزمن الذي ينعم بأولوية أنطولوجية يترقى التاريخ معها إلى مستوى أقنوم وتصبح فيه الثورة النتيجة المباشرة لسلبية العقل ، في حين أن العالم الآخر ، أي الإسلام ، يبقى خارج قلق التاريخ ويكشف عن قيم أزلية غير متموضعة لا في الجغرافيا ولا في التاريخ .وبعبارة أخرى ، إن الأحداث التي تتواتر عليه لا تستمد مشروعيتها من ضرورة تاريخية ، ولكن من حوادث سبق أن وقعت – بمعنى ما – في ما وراء التاريخ . )2-
لئن كانت العرفانيات والماورئيات الشرقية في نصابها الصوفي( رونيه غينون و ايفا دوفيتراي وايريك يونس جيفروي وميشيل كودكيفتش ... ) أو الشيعي (هنري كوربان وكرستيان جامبي ) ،مخرج بعض الأوروبيين من الإنتاجية والمادية والعقلانية والتاريخانية والوضعانية، ،فإن الطلب تغير بعد انتهاء عصر اليقين ،والإيديولوجيات الكبرى و اكتساح العولمات للمدى العالمي.
ففيما بحث الأوروبي في زمن انتصار التاريخية عن الحلم والتلقائية والشاعرية والحكي الشهرزادي والطلاقة و الحميمية ، صار يجد مأواه الوجودي، بعد تراجع التاريخية في الأصوليات وأحيانا في الإرهاب الجهادي.
فإذا فر البعض من حروب الإيديولوجيات ( النازية والستالينية ) وبحث عن العزاء الوجودي في الجماليات العرفانية إسلامية كانت أم بوذية ،فإن البعض صار يجد مبتغاه في العنف الجهادي ،ويسهم في "الغزوات" الجهادية ،باعتبارها إحدى لحظات "التجلي" وتحقيق الذات وإضفاء المعنى على تاريخ أضاعت الحداثة معانيه وتعاليه.
فلماذا يقبل بعض الشباب الأوروبي الآن على الأصوليات والإرهاب الجهادي ؟ هل حل العنف المقدس محل الجذب والانخطاف الصوفيين ؟ وهل حلت "الغزوات" محل المقامات والأحوال في مخيال البعض ؟
ألم يجد البعض حلولا للنسبية والريبية والإفراط في الإنتاجية والاستهلاك والفكر المعد على المقاس ،في الانخراط في حركية تاريخية تدار بالعنف المقدس وبالتفنن في إذلال الإنسان باسم مثال استيهامي ؟
صار التلذذ بالعنف و التبشير بالعنف المعمم في إطار الخلافة لدى بعض المسلمين الأوروبيين مقياس الانتماء والإخلاص للعقيدة التداولية.من البين أننا لا نحصر العنف في تجلياته الاستعراضية مما دأب الإسلاميون على إتحاف العالم بمشاهده ،فقط بل نقصد العنف بمعناه الشامل ، أي المادي و الفكري والأخلاقي والإعلامي .
ألا يمكن إرجاع الاهتمام الحالي بالسلفيات ،إلى التغير الفكري الحاصل في بلاد المنشأ ،بدءا من السبعينات. ،فقد الفكر الصوفي كثيرا من انتشاره الشعبي ،لصالح السلفيات الصاعدة ،المدعمة بوقائع جيو-سياسية وثقافية واقتصادية معلومة.فحين كانت بلدان المنشأ منشغلة بالتصوف والعرفانيات والوجديات ،أقبل بعض الأوروبيين على اعتناق الإسلام حبا في التصوف والعرفان والامتلاء العاطفي والميتافيزيقي النابع منهما . وحين تقهقر التصوف وفقد مواقعه الاجتماعية والسياسية والثقافية ، أقبل المسلمون الجدد على السلفيات،واندمجوا في عوالمها الفكرية –والسياسية.
ورغم تراكم الفواجع التاريخية ، الناشئة عن صعود وتحكم السلفيات الشيعية والسنية ،فإن المؤمنين الجدد ،لا يأبهون بحقيقة ما يقع ، من قتل واستئصال وتشريد واعتداء على الموروث الثقافي والنبذ والاسترقاق.بل يبدو أن الإخراج المشهدي للفواجع ،يستثير الباحثين الجدد عن اليقين وسط الأشلاء . فلئن فر مؤمنو الثلاثينات والأربعينات والخمسينات من نتائج وتبعات الحروب والإيديولوجيات المتطاحنة ،أو من هزيمة المثال ( النازيون المتحولون إلى الإسلام )،فإن مؤمني اليوم ،يغادرون هدير الحضارة ،ليقنعوا ببداوة الفكر والسلوك (الخمار والتمييز الجنسي والملابس القروسطية والعادات الغذائية ومعاداة الآخرين على قاعدة فقهية ورفض الحداثة الجنسية ... الخ)،وضراوة الفتك باسم تحقيق المثال أحيانا .
وحيث إن الحاضر يفسر جزئيا الماضي ،فإن البحث عن الطمأنينة الميتافيزيقية ،في رحاب الشرق ،ما كان حاجة وجودية ، بقدر ما كان إلزاما معرفيا وسلوكيا يميله التأويل العرفاني .أما الميل الآن إلى الشرعانية بكل ما تحبل به من تطويع وإخضاع وحروب خاطفة ،فإنه ناتج عن نظر آخر مخالف للنظر العرفاني.
فالغربي يتفاعل مع التأويل المهيمن ،أكثر مما يبحث عن حقيقة الإسلام .لأن البحث ، سيقوده إلى ما يرفضه في الحقيقة في ثقافته أي العقلانية والتاريخية والنسبية.فما يحركه هو البحث عن اليقين المفتقد ،أي التماس لحظات هاربة يتماس فيها الكائن بما يتجاوزه ،أسوة بالإنسان السحري الموجود أحيانا بين ثنايا الإنسان الصانع ،ولا سيما في لحظات الاختلال الفكري والسياسي.وهو ما يجده في التأويل الرائج حاليا ،وفي نظام العلاقات القائم في النسيج الإسلامي ،في بلدان المنشأ وفي المهاجر الغربية .
الملاحظ أن المسلم السلفي الأوروبي ،لا يبدي حذرا زائدا إزاء التقنية ،بل كثيرا ما يستخدم التقنية لبث الخطاب وإبراز مشهديات العنف الحادث أو المرتقب (ممارسة أستاذية العالم ) .فلئن رفضت التقنية من قبل صوفية الغرب ،بوصفها تنميطا عقلانيا للإنسان ولعلائقه بالأشياء والآخرين والطبيعة قبل اندحار الإيديولوجيات والسرديات الكبرى ،فإن التقنية عادة ما تستثمر من قبل السلفيين دون النظر في مدلولها الفكري وارتباطها بنسق الحضارة .
فلئن بحث الأوروبي اللامنتمي عن فوضى الشرق لتجاوز بيروقراطية الغرب،ظاهرا ،فإن الأوروبي المتسلف يتماهي مع الإسلام ،لا ليخرج من البيروقراطية ومن كثافة النظام ،بل لاستعادة نظام أشد كثافة :هو نظام الشريعة .ولذلك فهو لا ينشغل بالانخطاف ،بل بالانجذاب ،إن كان جهاديا إرهابيا ، إلى هندسة الأجسام على إيقاع الفتاوى وإلى إيقاع العنف وبثه في كل مفاصل الحياة.

إحالات :
1-[هشام جعيط،أوروبا والإسلام ،صدام الثقافة والحداثة ، دار الطليعة ، الطبعة الثالثة ،ص.50)،
2-[داريوش شايغان،ما الثورة الدينية ؟ الحضارات التقليدية في مواجهة الحداثة ، ترجمة : محمد الرحموني،دار الساقي –المؤسسة العربية للتحديث الفكري ، الطبعة الأولى 2004،ص.243] .

هادي اركون








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مسيحيو السودان.. فصول من انتهاكات الحرب المنسية


.. الخلود بين الدين والعلم




.. شاهد: طائفة السامريين اليهودية تقيم شعائر عيد الفصح على جبل


.. الاحتجاجات الأميركية على حرب غزة تثير -انقسامات وتساؤلات- بي




.. - الطلاب يحاصرونني ويهددونني-..أميركية من أصول يهودية تتصل ب