الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


روح يا صديقي خلصت من الدنيا وأهلها

نوري جاسم المياحي

2015 / 6 / 14
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


قبل أيام سمعت خبروفاة صديقي الوحيد في هذه الدنيا أبو حاتم ورحمه الله كان يتندر بالصدفة التي جعلت اسمه يشبه اسم قاضي القضاة الحالي ... وبما اني الان حزين ولست في نفسية مرتاحة للمقارنة بين الشخصيتين المتناقضتين ..وانما سأقصر كلامي عن صديق عمري أبو حاتم ...وسأستغل هذه المناسبة الحزينة للتحدث عن مفهوم الصداقة بين الامس واليوم ..والفرق الشاسع بينهما ... عسى ان يستفيد منها الجيل الجديد
كان المرحوم صديقي الوحيد في العقد الأخير من عمري ...؟؟ ولا انفي وجود العديد من الأصدقاء ومنذ مدد تجاوزت الستين سنة الماضية ولكن الزمن باعد بين اجسادنا في الزمان والمكان ...اما المرحوم فكان جاري وقريب مني في السراء والضراء ...ومع هذا فان السن والمرض مؤخرا أيضا باعد بيننا ...فقد كنا نلتقي ولساعات يوميا ولكن في السنة الأخيرة أصبحت لقاءاتنا لا يتجاوز عددها أصابع اليد ...والسبب هو العجز بسبب الشيخوخة والمرض.
فالصداقة في مفهومي المتواضع ينطلق من قناعتي ان الصديق الحقيقي هو من يرد العداوة عني ويرمي بالعداوة من رماني ..والصديق الحقيقي هو صديق الشدة والحاجة والمواقف الصعبة ..وعلمتني حياتي ان المرأ قد يلتقي بمئات او الاف من الأشخاص ويتعرف عليهم وقد يطلق عليهم مجازا كلمة صديق ولكن في الحقيقة هم ليسوا بأصدقاء بمفهوم الصداقة و الكثير منهم اما أقرباء او معارف او زملاء او رفقة طريق في الحياة ؟؟؟ اما الأصدقاء الحقيقيون فهم واحد او اثنان وان كان محظوظا فعنده خمسة أصدقاء
الصداقة ليست بالضرورة يجب ان تكون بين وزير ووزير او غني وغني او ما شابه ذلك ..فالصداقة قد تكون بين وزير وبقال او بين غني وفقير او بين مثقف وأمي وتتحقق عندما يتم الانسجام النفسي والأخلاقي والروحي بين الصديقين وبعيدا عن المصالح المادية الدنيوية ويؤكد هذا من خلال مواقف إنسانية حرجة قد يتعرض لها الصديقان
ومن الملاحظ اليوم استخدام كلمة الصداقة اصبح شائعا وعلى كل لسان وتتردد في كل مناسبة وموقع الى درجة فقدت مضمونها وقدسيتها الذي تربينا عليها ..فنشاهد الجيل الجديد اذا تعرف على شخص بالفيس بوك مثلا سماه صديقا او التقاه بالباص وتعرف عليه سماه صديقا
في حين نجد ان مفهوم الصداقة في أيامنا هذه قد افرغت من جوهرها وفي حين تخلى المجتمع العربي عن الكثير من القيم والأخلاق والعادات النبيلة الموروثة عن الإباء والاجداد وبنفس الوقت شيوع وانتشار النفاق الاجتماعي والعلاقات التي تحكمها المصالح المادية والجشع والى درجة حلل الحرام فيها وحرم الحلال
واينما تلتفت تجد العشرات من المنافقين والوصوليين والمتلونين حواليك ولاسيما ان كنت ذا منصب او مال اوجاه فيعطوك من اللسان حلاوة ومثل ما يكول البغداديون (يسوون الك الشط مرك والهور خواشيك) و(وكلها ملاكة ولواكه أي بالوجه مراية وبالكفا سلاية) وشرح معنى المراية هي المرأة التي تعكس لك أحلى الصور ... اما معنى بالكفا (أي من وراءك وخلفك) والسلاية هي من مكونات سعف النخيل التي تكون كالآبرة وهي مؤذية جدا إذا اصابت الانسان .. للأسف هكذا أصبح السلوك الشائع في المجتمع العراقي اليوم
قبل أربعين سنة ...بعت الدار (الذي ساعدني الجيش والحكومة على امتلاكه آنذاك ) في زبونة واشتريت بستان في أبو غريب ...وبهذه المناسبة اذكر كان الجيش والحكومة تساعد وتوفر دور السكن للضباط ونواب الضباط وحتى ضباط الصف وكل موظفي الحكومة وبأسعار زهيدة وشبه المجان ...عكس هذه الأيام وبالرغم من زيادة الدخل القومي للعراقيين مئات المرات نجد الضابط او الموظف يرتشي ويسرق المال العام كي يبني دار سكن لعائلته ... وهذا من إيجابيات وبركات الديمقراطية الامريكية وافضال الأحزاب الاسلاموية على شعبنا العراقي !!!!
كان ابوغريب آنذاك قريبا من بغداد وليس ملتصق بها كما هو اليوم وهو منطقة ريفية زراعية وعشائرية و أهلها الاصليون بسطاء وكرام وطيبون وكثافة السكان كانت قليلة وليست مزدحمة كهذه الأيام اسوة ببغداد حيث يزيد عدد سكانها عن سبعة ملايين نسمة
فعندما سكنت فيها لم احس بالغربة بين ظهرانيهم وانما استقبلوني بكل المحبة والتقدير والاحترام ولاسيما وانا كنت ضابطا ..و الضابط آنذاك كان مقدر ومحترم اجتماعيا في العراق عموما وفي أبو غريب خصوصا ( لان الضابط آنذاك كان متميزا باخلاقه وسلوكيته الملتزمة في المجتمع وهو يمثل اقدس مؤسسة عسكرية واجبها المقدس الموت للدفاع عن الوطن ..وكما يعتبرونه من النخبة ونموذجا يحتذى به وبنفس الوقت كان عددهم قليلا في نهاية الخمسينات حيث لا يتجاوز عدة الاف قياسا لحجم الجيش الذي كان مكونا من خمسة فرق فقط وكانت الرتبة العسكرية آنذاك لها قيمتها الاجتماعية ومحترمة جدا بسبب قدسية الواجب المنوط بحاملها ومنحها للضابط يتم في العهد الملكي بمرسوم ملكي وفي العهد الجمهوري بمرسوم جمهوري في الوقت الذي كان وكيل الوزارة او المدير العام في الدوائر المدنية يعين بأمر اداري ...
والزيادة الهائلة في اعداد الضباط لمتطلبات الحرب العراقية – الإيرانية ... او دعوة الالاف وبدون ضوابط عسكرية مهنية احترافية ووطنية عراقية بعد الاحتلال الأمريكي فقد اصبح حملة رتب الفرقاء والالوية (بالكوترة) ولاسيما في الحرب الحالية مع داعس وبعد سقوط الموصل فحدث ولا حرج (الرتب كامت تنشال بالكواني وحسب تعدد الجهات التي تشكل الوحدات المسلحة) ...وبدون سيطرة مركزية للدولة
وللتدليل على احترام المجتمع العراقي للرتبة العسكرية أيام زمان ...اذكر وللطرافة ان بعض العوائل كانوا يشترطون في الخطيب المتقدم لزواج بناتهم بقولهم (نريده ملازم لو مو لازم) ..و اذكر ان أهالي منطقتنا يعرفونني ليس باسمي وانما بالرتبة التي كنت احملها آنذاك ( ببيت العقيد )
ولا اريد ان اطيل فالحديث عن تلك الأيام الحلوة طويل وذو شجون ( وما يخلص ) .. ولنعد لموضوع حديثنا وهو الصداقة الحقيقية أيام زمان ..
قبل أربعين سنة وفي عصرية احد الأيام كنت واقفا امام الباب للتفرج (على الشارع والرائح والجاي) كساكن جديد في المنطقة ...شاهدت عبر الشارع رجلا يضرب فتى يافع بالعصا (أي يبسطه بالعراقي) (فانكسر خاطري عليه ) فعبرت الشارع وذهبت لتخليص الفتى من الضرب... وبعد السلام قلت للاب (كفاية ضرب وخطية تضربه بالعودة ..اي العصا ) عندها التفت وبعصبية وبكل ادب واحترام قال لي ( خليني اربيه ) ...عندها سالته (وهو شم مسوي ؟؟) ...واذا به يجيبني ( طلع بالشارع يلعب واحنا ما عدنا احد يلعب بالشارع ) ..وعندها أوقف الضرب استجابة لرجائي ورحب بي ورجاني بإلحاح للدخول الى بيته ليقوم بواجب الضيافة وشرب استكان شاي وهذا الموقف الكريم من جاري الجديد الذي لم يسبق ان تعرفت عليه اعجبني لأنني كنت من حيث المبدأ التربوي اتفق معه في عدم السماح للطفل باللعب بالشوارع مما ترك في نفسي احسن الانطباعات وحتى قبل ان اعرف عنه أي شيء ومن هذه اللحظة بدأ تعارفنا ..او لنقل صداقتنا التي امتدت أربعون سنة ...وهذا الفتى المبسوط تجاوز عمره اليوم الخمسين سنة ...ومعروف عنه حسن الاخلاق والسيرة والتربية ...
ومن هنا توثقت علاقتنا شخصيا وعائليا وعلمت ان جاري ينتمي لأشرف العوائل العراقية و من السادة الحياليين ومن قرية السادة في بعقوبة و علمت انه هو واخوته من ملاك البساتين في القرية وشاهدت بساتينهم العامرة وكرم الاخلاق والضيافة التي اخجلوني بها عندما كنت أقوم بزيارتهم في القرية صحبة اخيهم أبو حاتم
ان كرم الضيافة الاصيلة والترحيب غير المفتعل بقيت حاضرة في ذاكرتي رغم رحيلهم كلهم عن دنيانا الفانية ...وبعد ان توثقت صداقتنا .. اخبرني بسبب تركه القرية كان تجنبا للشر فهو كان عصبي المزاج حاد الطبع ولا يقبل بالعدوان مهما كان مصدره ومجتمع القرية مجتمع عشائري وفي حينها أصيب هذا المجتمع القروي الصغير بعدوى التغيرات الاجتماعية والمناكفات السياسية بين القوميين والشيوعيين بعد ثورة تموز 1958 ففضل الابتعاد عن المشاكل القروية وهاجر الى بغداد في السبعبنات هو وعائلته ليعيش بسلام ( وكما يقال بالعراقي كافي خيره شره )...
كان الرجل فلاحا اميا بسيطا ولكن الحياة والدواوين وطبيعة المجتمع القروي علمته دروس الحياة ...كان نموذجا للإنسان العراقي البسيط والاصيل والعفوي ( ما ينام على ضيم ولا يقبل بالأعوج واخو اخيته عند الحاجة ) ..وكان معلما بكل معتي الكلمة بالرغم من اميته وعدم دخوله المدرسة ...ولا اخجل من الاعتراف بانني تعلمت منه الكثيرلانه كان يكبرني بالعمر ست سنوات ( وعلمونا أهلنا ...ان الذي اكبر منك يوم واحد هو اعلم منك بسنة ) ولاسيما في مجال الزراعة وتربية الحيوان وتاريخ العربان ..و دروس الحياة ...كان الرجل كريما بكل معنى الكلمة وكان شجاعا لإيهاب أحدا ولايخاف في الحق لومة لائم ...ولهذا كان الكثير من معارفنا ممن لا ينسجمون معه في النهج والسلوك كانوا يحسبون له الف حساب...ومثل ما يكول العراقيون ( كل واحد جان ينطيه طينته بوجهه بلا خجل او وجل او خوف ) ...
الحياة كما تعلمت منها ليست دائما سهد ومهد او سهلة كما يقال ...وانما تتخللها نكبات ومصائب ...ومن سوء حضنا نحن الاثنين فقد تعرضنا لنكبات تفتت الصخر والحجر والاكباد وفي نفس السنة 2006 سنة الشؤم والبؤس والكوارث سنة الفتنة الطائفية الملعونة ...فبسبب الفتنة والاحتلال فقدت انا شخصيا وبلا أي مبرر اثنين من اولادي وفقد صديقي أبو حاتم أيضا اثنين من أولاده وعدد من احفاده وكما حدث لإلاف العوائل العراقية المنكوبة ...وهذه المصيبة جمعتنا وقربتنا من بعضنا اكثر ويوما بعد يوما طالت لقاءتنا الحزينة ...وكانت الدموع والبكاء على غياب أولادنا لا يغيب عن بالنا لحظة وحتى يومنا هذا ...هم وحزن وبكاء وطيلة السنوات الماضية ...الى ان جفت الدموع في مأقينا ..
ومن تمر به هذه المأساة فلن يبقى فيه حيل او قوة تحمل ولاسيما وعمر صديقي قد جاوز الثمانين ...ولو كان جبلا لانهار ...لقد انهار الصرح أبو حاتم أخيرا كما سمعت امام إعصار الحزن والقهر والغضب والمرض وعلى ما حل بعوائلنا وأخيرا سمعت بان شعلة حياته قد انطفأت وانهار الجبل ...
فسلام عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يولد حيا ...ولن أقول له وداعا ...وانما أقول ( روح يا صديقي ...خلصت من ها لدنيا الوسخة واهاليها الفاسدين والما يخافون من الله ) وقد يسعدك الحظ فتلتقي بأولادنا بالأخرة ...واقول له ...يا صديقي ...انتظرني على الطريق ...فانا أيضا في طريقي اليك وسألحق بك عاجلا اواجلا ...وعسى ان التقيك في الاخرة كما التقيتك في الدنيا ...وعسى ان التقي بأولادي في الاخرة بعد ان سلبتهم منا الدنيا ...يد الغدر والخيانة ... نم يا صديقي ..قرير العين فحياتنا مع الفاسدين والفاشلين والمنافقين أصبحت لا تطاق ولا تراد ...فيا موت زر ...ان الحياة أصبحت ذميمة وذليلة ...واتمنى اللحاق بك ...
وكخلاصة للحديث ان الصداقة الحقيقية تتطلب ان يتحلى الأصدقاء بصفات حميدة مثل الصدق والأمانة والشجاعة والغيرة والحب والحمية والاعتزاز بشرف العائلة و حب الوطن والكرم والوفاء واحترام الجيرة والاخرين .. فعند توفر هذه الشروط بين الأصدقاء يمكن القول ان صداقتهم حقيقية وتدوم العمر كله وبما ان هذه الصفات كلها او بعضها نادرة في حياتنا الواقعية واندثرت في أيامنا هذه فلنقرأ على الصدق والصداقة السلام
اللهم العن الطائفية والطائفين ولاية طائفة انتموا ...
اللهم احفظ العراق وأهله ...اينما حلوا او ارتحلوا ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. #بايدن يدافع عن #إسرائيل.. ما يحدث في #غزة ليس إبادة جماعية


.. بدء مراسم تشييع الرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي ومرافقي




.. هل هناك أي نوع من أنواع الامتحان أمام الجمهورية الإيرانية بع


.. البيت الأبيض.. اتفاق ثنائي -شبه نهائي- بين أميركا والسعودية




.. شوارع تبريز تغص بمشيعي الرئيس الإيراني الراحل ومرافقيه