الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مأسسة التنوير

هادي اركون

2015 / 6 / 17
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


يكتنف الحديث عن التنوير في العالم العربي ، كثير من الالتباس الراجع إلى الخلط بين معاني المفاهيم أو ممكنات الأزمان والسياقات التاريخية والمعرفية .
فهل التنوير جهد فردي يمارسه المثقف بمحض إرادته أم هو مجهود جماعي منظم ؟
هل هو تفاعلات ذاتية ناتجة عن صدمة تداول أفكار وتصورات غير مقبولة في معايير العقل ،أم هو تفاعل واستجابة جماعية قائمة على إستراتيجية دقيقة ؟
يكتفي المثقفون إلى حدود الآن ،بمجهودات متفرقة ، للدفاع عن أفكار واقتراح بدائل ،ومراجعة تواريخ وبداهات فكرية.وكلما اصطدم أحدهم ،بالأرثوذكسية ،عاد أو تظاهر بالعودة إلى الثابت التداولي في ثقافته ،وكأن التنوير مسار غير تراكمي.
الملاحظ أن المثقفين ،افتقدوا إستراتجية دقيقة للعمل.إن التنوير غاية ،لم توضع إستراتجية لبلوغها إلى الآن .وهذا ما يفسر ،جزئيا ،التردد المتحكم في أداء كثير من المثقفين التنويريين .
فالمثقفون ميالون إلى العزف المنفرد لا إلى الأداء الجماعي ،حتى في اللحظات المأساوية .وقلما اجتمعوا بهدف خلق أطر أو وضع إستراتجية واضحة للتنوير ،ومواجهة خصم ثقافي ذي إستراتيجية فعالة وناجعة بدليل تعمق الأسلمة وإعادة الأسلمة .
يعتني المفكر التنويري بمنجزه الفردي ،علما أن التنوير فعل جماعي .
ومن اللافت للنظر ،أن الأخطاء تتكرر ،بسبب الافتقار إلى آليات ووسائل العمل.
يعتقد الكثيرون أن التنوير ،هو مجرد اشتغال على جزء مطموس من التراث الديني أو الفكري ،أو استكشاف وجه مجهول من أوجه الفكر أو التاريخ الإسلامي ،أو تفنيد بداهة من البداهات الفكرية ، أو الكشف عن المسكوت عنه في نصن من النصوص أو واقعة من الوقائع أو نازلة من النوازل ؛والحال أن التنوير ،كشف وتداول وإقناع .فالكشف ليس إلا جزءا من مسار طويل .
التنوير والكشف :
يقوم التنوير على إجلاء حقائق النصوص والوقائع والأشخاص والظواهر ؛ففيما تسلم المجموعة ، بتراثها الثقافي والأخلاقي بدون استشكال أو مساءلة ،يحاول المثقف التنويري ، الإبانة عما يؤسس تلك الموروثات،ويحدد معناها وقدرتها على الترميز .تنهض الوقائع التأسيسية ،عموما ،على انتخاب الوقائع وإبراز جوانب واستبعاد جوانب أخرى ،وأسطرة المشخص ،بهدف إضفاء هالة أسطورية عليه في وعي المخاطبين .
التنوير والتداول :
لا معنى للتنوير في غياب التداول .ومن هنا الفرق بين المثقف والمفكر مثلا .فالمثقف معني جوهريا بتداول الأفكار ،لأنه لم يقدم على بلورتها وصياغتها لتبقى محصورة في نخبة مثقفة أو سياسية محدودة التأثير.فالتنوير ،هو إذاعة مقصودة للأنوار الفكرية ،في كل الأوساط والفئات الاجتماعية . تكمن قيمة الأفكار ،في هذا السياق ، في تداولها وقدرتها على التأثير في توجهات الناس و في تعميق معارفهم و تقوية حظوظهم في نيل السعادة.
التنوير والإقناع :
لا يشتعل المثقف على الأفكار ،فقط بل على التلقي والحجاج والإقناع .فالمثقف ليس صائغ مفاهيم أو تصورات أو أفكار فقط بل هو مناظر ،يصارع من أجل الإبانة عن صواب أفكاره وإقناع الآخرين بجدواها وفائدتها بالقياس إلى النسق الفكري السائد .
بهذا المعنى ،فالمفكرون كثر والمثقفون قلة ؛فالفكر يتطلب كفاءات معرفية في المقام الأول ؛عكس التنوير الجامع بين الفكر والسياسة والتاريخ والاستشراف. ويمكن القول بصيغة أخرى : إن التنوير ،نظر موضوع خصيصا للعمل في سياق مفتوح على كل الاحتمالات .
والملاحظ أن المفكرين العرب ،لا يتقنون الحجاج ولا يملكون مقومات التفاعل مع شرائح ،ترعرعت ثقافيا ،في أوساط تقليدية.فالإنسان العادي ،متشبع باليقينيات التداولية في ثقافته ويرى العالم والأشياء من منظور تلك الثقافة بالذات ، ومن الصعب إقناعه بتغيير عاداته الفكرية ،ولا سيما إن كان شابا تلقى تكوينا أو تأثر على نحو من الأنحاء بالأفكار الرائجة حاليا في المحيط الإسلامي وفي المهاجر الغربية .ولئن كان الشباب ميالا إلى الأفكار الثورية والتقدمية سابقا ،فقد قادت عقود من إعادة الأسلمة ،إلى إقناع قطاعات واسعة من الشباب بالأفكار والسلوكيات والميولات السلفية .
لم يتمكن المثقفون من بناء مشروع ثقافي تنويري محدد الملامح ،وقابل للتداول والانتشار .وفي غياب مأسسة التنوير ،تبقى الغلبة ،للمبادرات الفردية ،غير المجدية في الإجمال،لأنها لا تحقق أي تراكم ولا أي مكاسب ،ولا تفلح في صناعة الرأي العام والتأثير في التوجهات العامة للمجتمع .وحين نقارن تدخلات المثقفين المتنورين وإستراتيجية المحافظين ، نلاحظ فرقا واضحا ، في التوجهات وفي الإسناد وبناء التحالفات وتحديد الأهداف الإستراتيجية والوسائل التقنية واللوجيستيكية .فقد تمكن إسلاميو مصر ،من تصيير الحجاب والمقولات الدينية ،جزءا رئيسا من حياة قطاعات واسعة من الشعب المصري في ما يقارب عقدين من الزمان.
يقدم الكثيرون على مبادرات تنويرية غير ممأسسة ،أو غير مبنية ،مما يقود إلى تكريس التقليد عوض محاصرته.
إن التنوير غير الممأسس ،مجموعة مبادرات متفرقة وغير فعالة ،وكثيرا ما يرجع أصحابها إلى المواقع الأولى ، بعد الاصطدام بجدار التقليد والأرثوذكسية.والتنوير غير الممأسس ،لا يحفل إلا بالإرادة الفردية ،والحال أن طبيعة الرهانات ، تقتضي إرادة جماعية ومؤسسات تفاعلية ،تضمن للفرد المبادرة وتحميه من ردود الأفعال ومن الهجمات و تقديم التنازلات للفكر المحافظ والمؤسسات التقليدية كما وقع للكثيرين(رشيد بوجدرة مثلا) .
لا يستفيد المثقفون التنويريون ،على ما يبدو من تجربة طه حسين ؛وهي تجربة غنية و نموذجية ،بكل المقاييس ،و قد انطوت على بذور مأساوية تفجرت في التجارب التالية : إسماعيل مظهر ،ومحمد أحمد خلف الله ،وصادق جلال العظم ونصر حامد أبو زيد وسلمان رشدي ..... الخ .
يبدأ المثقف التنويري ،واثقا من نفسه وعلمه ،ثم يصطدم ببنيات ومؤسسات تقليدية ذات تجذر سوسيولوجي قوي ،ويختار في الغالب ،الانحناء للعاصفة أو العودة إلى الحظيرة بعد انقشاع الغشاوة وتبدد الآمال التنويرية .
والواقع أن المثقف يصطدم ،بعدد من المؤسسات المتخالفة موضوعيا ضده :
-المؤسسات الدينية التقليدية :
وهي مؤسسات رافضة لأدنى نقد للأصول والتجارب التأسيسية ،وتطالب باسم الدين والقانون بإيقاع أقسى العقوبات بمن يشك أدنى شك فيما تسميه بالثواب أو بالمعلوم من الدين بالضرورة.وتعكس مواقف الأزهر من نقد الحديث والبخاري ،حقيقة هذه المؤسسة ،الرافضة لمراجعة ونقد التراث.
-المثقفون التقليديون :
يؤثر المثقفون التقليديون تأثيرا بليغا أحيانا في الرأي العام ،وكثيرا ما يستميتون في التهجم على الأفكار التحديثية وتجريمها ،ومنازلة خصومهم بشروطهم أمام رأي عام موال لهم بحكم التنشئة الثقافية والاختيارات الرسمية للدول والمؤسسات العمومية .فقد تصدى مثقفون تقليديون كثر لطه حسين ولويس عوض وزكي نجيب محمود ونصر حامد أبو زيد ومحمد اركون وسيد القمني ،وعملوا بحمية ، لا فقط على نقد أفكارهم بل على تعبئة المتخيل الجماعي ضدهم ،ضدا على قواعد التناظر.
ومن الضروري دراسة أساليب المثقفين التقليديين أمثال محمد فريد وجدي و محمد الخضر حسين ومحمود شاكر ومحمد البهي ومحمد عمارة ومحمد سعيد رمضان البوطي وعبد الصبور شاهين ،في المناظرة والتعبئة والتنسيق مع الهيئات المساعدة،للإطلاع بدقة عن وجه من وجوه سوسيولوحيا المثقفين التقليديين في القرن العشرين .
الرأي العام :
يتأثر الرأي العام ،بخطاب المؤسسات والمثقفين التقليديين ؛والحقيقة أن المثقف التقليدي ،عادة ما يستقوي بالرأي العام ،ويظهر رغبته العامة في حماية يقينه من التشكيك و موروثه من النقد ومقدساته من التدنيس .وكثيرا ما تمكن الفاعلون التقليديون ،من تعبئة الرأي العام وتجييشه لصالح الفكر التقليدي (قضية وليمة لأعشاب البحر لحيدر حيدر وآيات شيطانية لسلمان رشدي ).
والحقيقة ،أن التنوير رهين بكسب الرأي العام ،والتأثير في توجهاته وحساسياته وميولاته.
والواقع أن قضية التنوير هي قضية الرأي العام باختصار. فلا تنوير إن بقينا في إطار النخب .
وتنوير الرأي العام ،من الصعوبة بمكان ،لأنه يقتضي إستراتيجية دقيقة ،وعملا متواصلا على مدى عقود.ولا يدرك كثير من المثقفين أن هزائم التنوير ،لا تفسر بخلل في الفكر وآلياته وأدواته ،بل بتداوله وانتشاره وتسربه إلى المتخيل الجماعي. ومن الغريب ،أن المثقفين الحداثيين ،لا يلتفتون ،رغم معاناتهم الرهيبة جراء هذه التعبئة ،إلى إشكالية الرأي العام وإمكانيات التأثير فيه.
فكلما اصطدم المثقف الحداثي بالفكر التقليدي (اصطدام زكي نجيب محمود ويوسف إدريس بالشعراوي وحسن حنفي بجبهة علماء الأزهر ونصر حامد أبو زيد بجبهة واسعة من المحافظين )،إلا وجد نفسه وحيدا،في مواجهة رأي عام معبأ ضده ،ولا يملك إزاء ضراوة ردود فعله إلى الصمت أو المناورة المذلولة .
و يقتضي التأثير في الرأي العام شروطا معرفية وتواصلية وتقنية،نذكر منها ما يلي :
-الشروط المعرفية :
- صياغة الإشكالات صياغة دقيقة وغير معقدة ،
-التركيز على التجارب والنماذج ،
-تفكيك النماذج المعيارية في المتخيل الجمعي (علي وفاطمة والحسين والأئمة في المتخيل الشيعي والصحابة والعلماء في المتخيل السني )،
-تفنيد الأفكار استنادا إلى الوقائع لتجنب التجريد ؛
-الجميع بين التوثيق والمقارنة والتحليل ؛
شروط تواصلية :
-التمكن من اللغة ومن تقنيات التعبير ؛
-القدرات الجدالية والحجاجية العالية في مقامات الجدال والحجاج وهي كثيرة ومتوقعة في الإعلام ؛
-تنويع اللغة والأدلة تبعا لطبيعة المخاطبين وللسياق العام .
-الشروط التقنية :
-تنويع الوسائط (كتاب أو فيلم أو برنامج إذاعي أو تلفزي أو موقع إلكتروني أو مواقع التواصل الاجتماعي )؛
-التركيز على جماليات الصورة .
لا يمكن تحريك السواكن الثقافية ،بدون التأثير في الرأي العام .وقد أظهرت السلفيات منذ أحمد بن حنبل على الأقل ، دراية كبيرة ،بآليات التحكم وتحريك الرأي العام أو ما يسمى آنذاك بالعوام.
يدرك التقليديون جيدا ،حتمية الرهان على الرأي العام .ففي مناظرته مع نصر حامد أبو زيد ،اكتفى محمد عمارة ،بعرض نصوصه الإشكالية من منظور تقليدي،لإحراجه أمام رأي عام لم يعرف غير آراء الأرثوذكسية.
ومن مفارقات التنوير ،أن الكثيرين حلموا بالتنوير ،فيما يغرقون في نظريات وأفكار وإشكاليات ،بعيدة عن مدارات الرأي العام .ورغم هذا التجاهل المتعمد ،فقد اصطدموا بهذا الرأي العام المتطلب والغارق في أساطيره واستيهاماته الألفية (إحياء ذكرى وفاة موسى الكاظم مثلا).
إن التنوير مجهود جماعي ذو إستراتيجية فعالة ،لا مبادرات فردية ،محدودة الفعالية ،ومهددة بالانتكاس والعودة إلى المربعات الأولى . ومن هنا ، حان ،وقت التفكير في مأسسة التنوير و إخراجه من إطار المغامرات المفضية أحيانا إلى تكريس التقليد وتضييع المكتسبات .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الحوار المتمدن إطار مؤسسي جامع
صلاح يوسف ( 2015 / 6 / 17 - 22:51 )
عزيزي الكاتب، شكرا للمقال القيم .. كثيرا ما يدور هذه الأيام الحديث عن فشل وهزيمة التنوير أمام الثقافة السائدة وحراس العقيدة .. في الحقيقة أن أخطر مؤسسة على الإطلاق وهي المدرسة يليها المسجد محسومتان للثقافة السائدة والموروث المتخلف، ودن العمل على تطوير وتثوير مناهج الطلبة من التلقين إلى التفكير الحر فلن يتمكن أي تنوير من التسرب إلى عقول العامة .. أما الحديث عن عمل مؤسسي فإن موقع الحوار هو عمل مؤسسي يجمع معظم إن لم يكن كل التنويريين من بلادنا أو من المهجر .. لكن هل تكفي مؤسسة واحدة ؟؟؟ في اعتقادي أنها تكفي لو تمكن التنويريون من الإجابة على السؤال الأصعب: كيف يتم اختراق وهز عقائد العامة ؟؟ قرأت اقتراحاتك بهذا الصدد ولكن أغلب الظن أن النقاط التي سطرتها لن تكون حلاً بين شعوب وصلت نسبة الأمية فيها إلى 70 % وال 30 % الباقية خاضعة لمطبوعات الثقافة السائدة.
تقبل مودتي

اخر الافلام

.. مسيحيو السودان.. فصول من انتهاكات الحرب المنسية


.. الخلود بين الدين والعلم




.. شاهد: طائفة السامريين اليهودية تقيم شعائر عيد الفصح على جبل


.. الاحتجاجات الأميركية على حرب غزة تثير -انقسامات وتساؤلات- بي




.. - الطلاب يحاصرونني ويهددونني-..أميركية من أصول يهودية تتصل ب