الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحلولية الجزئية والحلولية الشاملة

عماد صلاح الدين

2015 / 6 / 28
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني



كان الدكتور عبد الوهاب محمد المسيري - رحمه الله- قد وضع مفارقته المهمة، في سياق دراساته الفكرية والثقافية؛ بين العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة.

وقد توصل الدكتور المسيري إلى مقبولانية ومعقولانية العلمانية الجزئية، التي تتفق مع منهاج ونظرة مشروع الفكر الإسلامي والإنساني الحضاري.

والعلمانية الجزئية تعني في مفهومها الكلي والشامل، هي هذه المساحة الاجتهادية الواسعة جدا في مسائل الفكر والنشاط الإنساني العام، وبشكل نسبي ومفتوح إلى انتهاء الأرض من الوجود، بانتهاء هذا الأخير كله بقيامة الساعة بالمعنى الديني.

وهذه العلمانية الجزئية لا تتعارض مع صريح نص قاطع ثابت في كتاب الله أو سنة نبوية شريفة؛ تتعلق بتشريع أو حد واضح بين لا لبس فيه.

والعلمانية الجزئية تبقى قائمة حتى بخصوص تشريع أو حد ، ما دام أن هناك -على الأقل- مناسبة ظرفية مكانية أو زمانية أو إنسانية أو غيرها، فيها شبهة مساحة كم أو نوع لإعمال عقل أو منطق أو كامل ملكة، لأجل تحقيق مصلحة إنسانية، أو لدفع ضرر، أو لقطع الطريق، وإمكان المسافة على مفسدة ما.

والعلمانية الجزئية تهتدي في نهجها ومسارها، بمنظومة قيم راسخة وثابتة، لمجمل الفهم والاستيعاب النسبي، داخلا فيه الاجتهاد لهذا الإرث الأخلاقي والقيمي والرسالي الديني والتراكمي الإنساني، في سياق الإيجاب والإبداع، كموجه أساس لمنطلق مشروع الإنسان الحضاري، في القواعد والتأسيس لعموم بنيانه، الذي يرنى فيه التكامل في إطار الإنسانية العالمية، ولجميع الناس على اختلاف أديانهم وأعراقهم وجغرافياتهم ومذاهبهم، وظروفهم في السياسة والاجتماع وفي التقدم والتأخر.

والعلمانية الجزئية عاقلة في تصوراتها ومنهجها، وحتى في تطبيق المشروع والخطط الإنسانية في غير مجال؛ فهي تريد الوسطية في عمومية تناول المشهد الإنساني كله، وهي لا تريد إفراطا ولا تفريطا، لا تشددا ولا تراخيا.
والعلمانية الجزئية لا تنكر الخالق ولا الماورائيات، وهي بهذا تعتقد بالفكرة المتجاوزة لحدود الإنسان والمكان والزمان الذي نعرف، وهي بهذا تفترق عن مشهد المعالجة التام للعلمانية الشاملة التي تنظر لكل الموجودات نظرة واحدة متحدة، وبأنها جميعها على أرضية مادية واحدة لا فرق في نسقها بين إنسان وجماد وحيوان، وكل موجود آخر على هذه الأرض ، بل وعموم الكون؛ فلا تركيبية حتى في مركز الحضور الاحيائي بالإنسان نفسه؛ فعقله صفحة بيضاء لا سر ولا قدرات فيه كامنة، كما نفسه وروحه الدابة في أوصاله. وهي تنكر كل فكرة متجاوزة لحدود عالمنا، وتؤمن بالغيبية العلمية في حين أنها تنكر كل غيب ديني، في مفارقة غريبة وعجيبة.

والعلمانية الشاملة نفعية مصلحيه فيها الجوانب الإنسانية ودواعي العدالة وتطبيقاتها، تكاد تنعدم، وان ما يظهر على السطح من غالب انتظام الحقوق والواجبات والدعاية لهما، هو من ضرورة التسيير والصيرورة، وليس لمبادىءاو أسس أخلاقية وإنسانية؛ فالصلحة والمنفعة هما المعيار ولو كانت بأي طريق شرعية أو غير شرعية، فاحد رواد مدرستها قد دشن قاعدتها الفكرية بالغاية تبرر الوسيلة كما في كتاب الأمير لمكيافيللي الايطالي.

وغير مسألة الانتظام والضرورة لمنهاج الممارسة في العلمانية الشاملة في تجلي مظاهر القانون والعدالة الداخلية تحديدا هناك دائما وأبدا المساحة المتبقية من كينونة الإنسان وفطرته الرحيمة والإنسانية بهذا الخصوص.

والعلمانية الشاملة تستخدم بل وتبتدع الديباجات والاعتذاريات السخيفة والأسطورية غير الحقيقية لا في مجال الدين والقيم ولا في سياق المجتهد الإنساني البنائي للمعطيات والحقوق في الحال والتاريخ؛ من مثل شعب الله المختار، والماشيح المنتظر، والمهدي المنتظر، والعرق الآري، والشعب الشاهد على عظمة المسيحية وتطبيقاتها العنصرية والابادية، كما هو حال مشروع الحركة الصهيونية السياسية والامبريالية الغربية سواء في نسخة الحلفاء(بطريقة اخف قليلا في التجلي الفاقع)أو في نسخة دول المحور تحديدا ألمانيا الهتلرية( بطريقة متطرفة جدا للعلمانية الشاملة وتطبيقاتها) أو تاليا في تمظهر العلمانية الشاملة في النموذج الأمريكي والسوفيتي، حيث النسق الفكري في الأساس واحد فيما يتعلق بإنكار كل الثنائيات والتركيبية الإنسانية نفسها بما فيها من تداخل وتعقيد، وإنكار فوق ذلك كله وبالضرورة لرب هذه الثنائيات وعموم الحالة التركيبية في الإنسان.
واليوم، وكما هو معروف، فان التجلي الأبرز للعلمانية الشاملة يتمثل بالنموذج الأمريكي منذ نهاية عام 1989، بعد انهيار منظومة وارسو السوفيتي والاتحاد نفسه، وهذا النموذج هو هذه العولمة والاستهلاكية والبعديات الجديدة في كل شيء تقريبا بما فيها الحداثة؛ حيث في الممارسة والتطبيق لا خالق ولا ما يحزنون. وكل شيء متعدد الوجوه مفتوح وبدون موانع شرعية أو أخلاقية أو غيرها؛ فالمعيار دائما صار هو المنفعة وتحقق اللذة كيفما كان.

والعلمانية الشاملة وهي تلجأ إلى الأسطورة والدجل الديباجي لتبرير مشاريعها المختلفة، ولبث الحماس والحافزية في صفوف نشطائها وجنودها وجيوشها ومجمل العاملين في مشروع ما لها، إنما تلجأ إلى ذلك، لأنه لا مفر لها من دين، حتى ولو كان هذا الدين دينا اثنيا وثنيا مزيفا يقع ما بين خرافة وخرافة.

وهنا أجد نفسي بعد محاولة عملية الاستبصار على مشهدي العلمانية الشاملة والعلمانية الجزئية، وما بينهما من فروق جوهرية ما بين إيمانية إنسانية وما بين الحادية ابادية عنصرية، أن القي الضوء على كل من الحلولية الجزئية والحلولية الشاملة.

والحلولية الجزئية هنا بتصوري داخلة في نسق العلمانية الجزئية؛ حيث أن العلمانية الجزئية لا تنكر فكرة التجاوز الديني، وفكرة التوحيد الإلهي داخلة في نسقها الكلي، حضور الأبرز إنسانيا بطبيعة الأمور وبما في الإنسان من حقائق وما في الحياة أيضا من حقائق مادية إلى درجة صارخة، وهي هذه مساحة الاجتهاد والتفكير في التوصل إلى حلول لعديد مجالات حياة الإنسان بسند الموجه القيمي والأخلاقي والرسالي، وبما هو مودع في الإنسان نفسه من مقومات عقلية ونفسية وروحية، تقود بالتراكم الايجابي إلى تكوين ملكات إنسانية وروح لكل مجتمع وأمة.

وحيث أن الإنسان لا يمكن له أن يصل إلى مسالة التوحيد الخالص 100/100 بل هو يقترب من ذلك بشكل درجاتي ونسبي، تبقى هناك مساحة متروكة يقوم الإنسان بتعويضها من الشعور إلى اللاشعور عبر تصوراته وخيالاته وأحلامه( التهويم الجزئي)، لتجسير المساحة المتروكة أعلاه بين واقع الإنسان وآماله وطموحاته وآلامه وما بين وصوله أو اقترابه من فكرة التوحيد وممارستها الإنسانية.

وهذه أعلاه حلولية جزئية قد تكون عناصرها غير حقيقية حقا، لكنها رحمة سماحية بالخليقة والفطرة للإنسان كي يشحن عزمه وحماسه، قدما نحو تحقيق الغاية من وجوده الإنساني، داخلا فيها تحقيق آماله وأهدافه.
أما الحلولية الشاملة فهي داخلة في نسق العلمانية الشاملة.

فالعلمانية الشاملة تنكر فكرة التوحيد الإلهي من أساسها، ومرجعية الشيء عندها هو الشيء نفسه؛ حيث لا توجد مرجعيات فوقية أو كلية خارج حدود الزمان والمكان بالمعنى الإنساني، وهنا تظهر أزمة الإنسان في ظلال العلمانية الشاملة؛ فهي فضلا عن إنكار فكرة التوحيد واعتبارها مسالة خرافية، تنظر هذه العلمانية الشاملة إلى تركيبية الإنسان ومحاولاته التوليدية في الخيال والتهويم الجزئي ضمن المساحة المتروكة التي تحدثنا عنها سابقا، على أنها هي الأخرى محض خرافة ثانية.

ولا يبقى بعد ذلك سوى سطح مستو لا ينتهي ولا أفق له، ينظر إليه من بعيد أملا وتطلعا.
ولذلك تضطر العلمانية الشاملة إلى الحلولية الشاملة التي ليس لها أي سند حقيقي وواقعي لا في القيم ولا في الممارسة، لأجل تبرير مشاريعها الاستعمارية والاستيطانية ونهب الثروات وممارسة جرائم الإبادة وجرائم ضد الإنسانية، أخرى من خلال ديباجات واعتذاريات لاعقلانية ولا أخلاقية وعنصرية في آن معا من مثل: شعب الله المختار، وبان العرب والفلسطينيين مجرد حشرات وصراصير وأفاعي، وبان فلسطين خالية من السكان، وغيرها كثير.

إن العلمانية الشاملة والحلولية الشاملة لمن أراد أن يسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية، ما هي إلا الإلحاد بعينه والكفر بذاته والتسويغ بعظيم كل كذب، ما دام أن المصلحة هي المقياس، واللذة والمنفعة وتحققهما هما المعيار بأي وسيلة ومهما كان ثمن ذلك وتبعاته، دون اعتبار لإله أو إنسان أو موجه من دين وقيم وغيرها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عواطف الأسدي: رجال الدين مرتبطون بالنظام ويستفيدون منه


.. المسلمون في النرويج يؤدون صلاة عيد الأضحى المبارك




.. هل الأديان والأساطير موجودة في داخلنا قبل ظهورها في الواقع ؟


.. الأب الروحي لـAI جيفري هنتون يحذر: الذكاء الاصطناعي سيتغلب ع




.. استهداف المقاومة الإسلامية بمسيّرة موقع بياض بليدا التابع لل