الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


علاقة السلطة بالمعرفة في أوروبا: من الصدام إلى الاحتواء

بوناب كمال

2015 / 7 / 5
التربية والتعليم والبحث العلمي


في سنة 1894 حُكم في باريس على ضابط فرنسي ، من أصل يهودي، اسمه " ألفريد دريفوس" بالنفي إلى غويانا بتهمة التجسس، ولأن عائلته لم تستسغ الحكم فقد تمكنت من أن تثبت زيف الوثائق التي أدين بسببها، فاتجهوا إلى الرأي العام الفرنسي يستنهضونه للمطالبة بإعادة المحاكمة.
تجندت شخصيات مرموقة من عالم الفكر والأدب في فرنسا لتناصر قضية دريفوس يتقدمهم إميل زولا الذي اشتهر بمقالة " أنا أتهم ! رسالة إلى رئيس الجمهورية" J’accuse ! lettre au président de la république رفقة أناتول فرانس، مارسيل بروست، ليون بلوم، وأصدروا في 14 جانفي 1898 بيان المثقفين Manifeste des intellectuels نشرته جريدة لورور L’aurore.
بعد صراع طويل مع تيارات متنافسة تمت إعادة المحاكمة، وصدر قرار تخفيض الحكم إلى عشر سنوات، لتلغيه محكمة النقض بعد ذلك ويطلق سراح الضابط.
كان لهذه الحادثة أثر بالغ في الحياة الفكرية والسياسية الفرنسية، ولا تزال أصداءها تترد في الكتابات المعاصرة، فمنذ تلك اللحظة أصبحت فرنسا تعتبر المرجعية التاريخية والسياسية لمقولة " المثقفين " Les intellectuels
قبل هذه الحادثة شهدت فرنسا صداما أكثر ضراوة بين السلطة / المعرفة، ففي عام 1815 كان المفكر "دو تراسي" أول من استخدم مصطلح " الأيديولوجيا" في كتابه " عناصر الأيديولوجيا" The elements of Ideology ، وكان أمل دو تراسي وزملاءه من الطبقة الوسطى الذين كونوا " الجمعية الوطنية الفرنسية" أن تؤدي الأيديولوجيا أو العلم الخاص بنطاق معرفي معين إلى إصلاحات جذرية في المؤسسات والفكر الفرنسي، غير أن نابليون بونابرت أكسب هذا المصطلح معان سلبية حين وظفه للسخرية من منتسبي شعبة " العلوم الأخلاقية والسياسية" في معهد فرنسا، وكلهم من مستنيري دو تراسي، وأسماهم تهكما بـ " جماعة الأيديولوجيين" بهدف التقليل من شأن أفكارهم التي كانت تعارض تطلعاته الاستعمارية الإمبريالية. إلا أن " مدام دي ستال" نحتت مقولة جديدة ترد بها على نابليون وهي الأيديوفوبيا " Ideophobia " أي " الخوف من الأفكار"، ردا على نابليون وعلى كل حاكم مستبد يضيق بسلطة الفكر و وظيفة النقد الذي يؤديه.
إن إفرازات عصر العولمة، وظهور الشركات التجارية الخاصة القوية شبه المستقلة وغير المنتمية إلى وطن معين، والتي تتصرف على أساس أنها الفاعل الاقتصادي / السياسي الجديد والرئيسي في هذا الكوكب، أعاد قضية " المثقفين" إلى الواجهة في أوروبا، وبمعني أدق قضية المواقف العضوية ، بتعبير غرامشي Gramsci، للمثقفين الأوروبيين وأدائهم إزاء المكافآت الرمزية والمادية التي تمنحها سواء المؤسسات القومية التقليدية أو المؤسسات الجديدة الخاصة والرأسمالية.
لقد وجدت أوروبا نفسها أمام ضرورة إعادة ضبط وتشكيل خارطة الجماعات المعرفية نظرا للآثار التدميرية التي مست أداء الجامعات والمؤسسات المهنية، وتجلى ذلك في الاعتراف الرسمي الذي قام به رؤساء أعرق الجامعات الأوروبية في أثناء الاحتفال بالعيد الـ 900 لتأسيس جامعة ألما ماتر ستوديوروم Alma Mater Studiorum الذي عقد في بولندا عام 1988، من أن النظام الجامعي قد فقد احتكاره التاريخي للبحث العلمي والتعليم العالي، وفي أثناء انعقاد الجمعية العمومية لاتحاد الجامعات الأوروبية في برلين 1998 ذهب هؤلاء الرؤساء إلى حد إعلان أن هذه الجامعات سوف تفقد على الأرجح دورها كموجه للثقافة.
من أجل رد الاعتبار للعنصر المثقف بما يخدم توجهات السلطة عمدت دول الاتحاد الأوروبي إلى تبني آليات عديدة تضمن منافسة المزايا الجوهرية لمراكز البحث التابعة للشركات الخاصة، مزايا تعتمد بالأساس على الاهتمام غير المسبوق بالرأسمال البشري الثقافي الأوروبي، عبر الحد من " وسواس التخصص والتقنية" والتشجيع على " العودة إلى المواهب" وكذا تبني الاتحاد الأوروبي مجموعة من الإجراءات القانونية الحاسمة، والتي يمثل فيها القرار رقم 48 / 89 حجر الزاوية، وهو القرار الخاص بالاعتراف المتبادل بشهادات التعليم العالي، أين يرمي هذا القرار في الموضع الأول إلى الحفاظ على ثروة رأس المال البشري التي تجعل من أوروبا نموذجا فريدا.

المراجع:
ـ محمد عابد الجابري " المثقفون في الحضارة العربية: محنة بن حنبل ونكبة بن رشد"
ـ أمين حافظ السعدني " أزمة الأيديولوجيات السياسية"
ـ Lorena Parini : « états et mondialisation : stratégies et rôles








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - بيئة معرفية قاحلة
محمد البدري ( 2018 / 7 / 22 - 10:03 )
اي محاولة لانتاج معرفة، بغض النظر هي علمية أو ادبية، لن تجد بيئة سياسية او اجتماعية لتنمو وتزدهر فيها طالما ان الثقافة العربية / الاسلامية هي السائدة والتي ترعاها نظم الحكم ويتداولها الجمهور كنوع من التخدير المعرفي والثقافي, فابن رشد وغيره كثيرين كانوا ضحية هذه الثقافة. وايا كان ما قيل من هؤلاء المثقفين وكان صحيحا فله جذوره الضاربة لهدم تلك الثقافة القاتلة

تحياتي

اخر الافلام

.. -تكتل- الجزائر وتونس وليبيا.. من المستفيد الأكبر؟ | المسائي


.. مصائد تحاكي رائحة الإنسان، تعقيم البعوض أو تعديل جيناته..بعض




.. الاستعدادات على قدم وساق لاستقبال الألعاب الأولمبية في فرنسا


.. إسرائيل تعلن عزمها على اجتياح رفح.. ما الهدف؟ • فرانس 24




.. وضع كارثي في غزة ومناشدات دولية لثني إسرائيل عن اجتياح رفح