الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وهم تحرر الإنتلجنسيا .. منطق النقض

موسى راكان موسى

2015 / 7 / 6
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


تقديم :

بعد أن تناولت مؤلف الدكتور علي الديري ((خارج الطائفة)) ضمن سلسلة بدأتها بعنوان وهم تحرر الإنتلجنسيا , تحيّرت في إكمالها بتناول مواضيع أخرى , خاصة و إن من بين النقد الذي وصلني أن النقد لم يكن واضحا , كما أن العرض حوى بعض التعقيد و الحشو . فقررت المضي بموضوع بعده أقرر أأمضي في السلسلة أم لا , و قد ملت إلى تناول ما يرتبط بالأسس أو الأصول الفكرية ذاتها كالمنطق , خصوصا و أن موقعنا المميز ((الحوار المتمدن)) قد اشتغلت و اشتعلت فيه معارك اختلفت أطرافها بين إقرار دور المنطق في العلوم و آخر ينفيه [الديالكتيك أعني] . و لا أنكر أن موضوع الكتابة في الديالكتيك أغواني , إلا أن وقوعي صدفة على مؤلف ((نقض المنطق)) لشيخ الإسلام بن تيمية إستفزني . لم أنوِ صراحة أن أتناول المؤلف خصوصا بعدما إطلعت على فهرسة المؤلف التي أضحكتني أكثر مما إستفزتني , و قراءة عجلى على الفصل المعنون ب ((المنطق و فساده و إشتماله على دعاوى باطله)) جعلت من ضحكي يشتد . لم أقم لشيخ الإسلام بن تيمية وزنا (صراحة) , كما أن مؤلفه و كأنما جاء ليؤكد أمرا في نفسي لا أكثر و لا أقل .

لكن بعد نظر في الواقع و تدبر , تراءت لي أهمية تناول مؤلف شيخ الإسلام بن تيمية ((نقض المنطق)) , بل إن هذه الأهمية لا تكف إلا تزداد . كبداية دهشت أمام من يصنف بن تيمية فيلسوفا , و لم تقل تلك الدهشة أمام أساتذة كبار في تخصصاتهم حين يعتبرونه كذلك بل و يتطرف بهم الوصف . يجانب ذلك أن الحاضر العربي ثملان بابن تيمية , فهو حاضر في كثير من المشاهد الحياتية و الإعلامية , و لا يخفى حضوره الطاغي دينيا . و جانب ذلك كله تصريح أحد دعاة المعتزلة الجدد إشادة بابن تيمية في مؤلفه الذي يتناول المنطق و رده على المنطقيين , حتى أنه وصف ابن تيمية بالمعتزلي في مؤلفه المذكور ! .

فقررت أن أتناول بن تيمية و أعلنت ذلك , حتى أن لي زميل يتبنى السلفية سخر من قرار تناولي لابن تيمية و فاض به المقام مدحا بابن تيمية . و كنت لأسأله هل قرأ كتاب بن تيمية في نقض المنطق , إلا أن إجابته على سؤال هل قرأ أي مؤلف لابن تيمية حالت دون أن أسأله , فقد أجاب بالنفي ! . و حدث ذات الأمر مع آخر فاض به المقام مدحا بابن تيمية , و كان مثل زميلي الأول .

ارتكزت في تناولي هذا على مؤلف رئيسي لابن تيمية , و هو ((نقض المنطق)) , حيث وجدته أكثر من غيره مما تناول المنطق كمنطق ببعض الإتصال والوضوح , و الجدير بالذكر أن إسم المؤلف لم يقره ابن تيمية نفسه , و ما يهمنا فيه المقدمة , و من الفصل الموضوع تحت عنوان ((المنطق و فساده و إشتماله على دعاوى باطلة)) , حتى الفصل الموضوع تحت عنوان ((جميع ما يأمر به المنطق من العلوم و الأخلاق لا تكفي في النجاة من عذاب الله و لا تحصيل نعيم الآخرة)) . و توسعت لأحيط بموضوع المنطق عند بن تيمية , فوصلت لثلاثة مؤلفات [إلكترونية] :
1) مؤلف بعنوان ((الرد على المنطقيين)) و المسمى أيضا ((نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق أهل اليونان)) . و يعطينا الإسم الثاني دلالة واضحة عن المؤلف , إذ هو صراحة يتجنب المواجهة المباشرة , و يتحول إلى نصيحة . و يقع المؤلف في حوالي 588 صفحة , و ما يهمنا فيه ما وضع تحت عنوان ((ملخص أصول المنطق و اصطلاحاته)) .
2) مؤلف بعنوان ((منطق بن تيمية و منهجه الفكري)) , و المؤلف ناقص إذ يبدأ بالباب الأول , و كل ما يمكن معرفته عنه أنه صادر عن المكتب الإسلامي . و يقع المؤلف في حوالي 400 صفحة , و ما يهمنا فيه ما وضع تحت عنوان ((تمهيد – نقد المنطق الأرسطي)) , و المؤلف كان أكثر من المؤلفين السابقين تواضعا .
3) مؤلف بعنوان ((المنطق عند بن تيمية)) , و هو للدكتورة عفاف الغمرى . و يقع المؤلف في حوالي 370 صفحة , و يهمنا فيه مقدمة الدكتورة و ما وضع تحت عنوان ((نقد بن تيمية لمنطق أرسطو)) . و هو الأكثر وضوحا و صراحة و أيضا تواضعا .


العجيب في طريقة بن تيمية في التفلسف _مداراة لمن يصنفه كفيلسوف_ أنه بالشكل يتفلسف , لكنه بالفعل (أو الجوهر) لا يتفلسف , إذ هو صراحة ينطلق من القرآن و السنة (وتجمع المؤلفات السابقة على ذلك) . و رغم أنه يمارس نقدا (أو نقضا) للمنطق , فهو إذ بممارسة ذلك إنما يتمنطق ليس إلا . فإن كان تركيزنا على المنطق ككل دون قضايا و تفاصيل , فتناولنا سيقتصر على منطق بن تيمية تجاه المنطق ككل دون قضايا و تفاصيل . و من ذلك عنونت هذا الجزء من السلسلة بعنوان ((منطق النقض عند بن تيمية)) .


لا أزعم أني لا أحمل في داخلي شيئا تجاه بن تيمية قبل الشروع في تناول مؤلفه , بل أني لا أزال أخشى أن يبذر مني مدح لابن تيمية لا يستحقه تحت ضغط الإدعاء بالموضوعية و المصداقية .

لا يخفى الواقع الذي عاش فيه بن تيمية على أحد , و إذ الذي جاء به بن تيمية إنما يرتبط بالواقع , و لهذا وجد صداه و إمتداده . ما جاء به بن تيمية في ذاك الزمان ثوري , و بالمثل الذي جاء به محمد بن عبدالواهاب في زمانه ثوري . مع العلم أن كلاهما لم يأتيا بشيء من عندهما . فما جاءا به هو ما كان يُحتاج له [فكرا] في محاربة سالبي الأموال , و مقارعة مشرعني الفساد , و مصارعة مروجي الأفيون الديني , على المستوى العملي أكثر من النظري فيه . صحيح أن ما جاءا به هو ثوري , لكنه مؤقت , فما أن ينتهي زمانه حتى تتطلب الحاجة تجاوزه , إذ به يصبح محافظا أي عائقا , ما لم يحوِ في ذاته شرط الديمومة الثورية , أي التغيير الدائم في ذاته .

و لأن ما جاء به بن تيمية كان على المستوى العملي أكثر من النظري فيه , كان الإهتمام بما جاء به في الفقه و العقيدة أكثر من الإهتمام بما جاء به في المنطق و الفلسفة [للدقة ما جاء به لنفي المنطق و الفلسفة] . بل إن ما جاء به بن تيمية في المنطق و الفلسفة [نفيا لهما] كاد يخفى للأبد لولا جهود فردية . و لعل في ظهور هذه المؤلفات في الوقت الراهن ما يدفع الفكر و العقل خارج إطار البلادة المتفشية , و إني في ذلك أتوسم الخير .


العرض :

في إطار الصراع الديني و المذهبي القائم (و الذي يخفي في ذاته الصراع الطبقي) , أراد بن تيمية بعد أن انتصر فقيها و عقائديا أن ينفي أي طريق أخرى ممكنة للإنتصار . فما كان منه إلا أن وجه نفسه للمنطق الأرسطي , بعدما أدرك أن معظم الفرق و الديانات الأخرى المتواجدة في الساحة آنذاك تتسلح به , فقام بمحاولة النيل من المنطق _و تجدر الإشارة إلى أن هناك من سبق ابن تيمية في النيل من المنطق (السهروردي مثلا) , بل إن بن تيمية يأخذ منهم في ذلك لينصر مذهبه . فابن تيمية كما أنه لم يأت بجديد كفقه و عقيدة , فهو كذلك أيضا في نفيه للمنطق و الفلسفة , لكن يحسب له تقديم ذلك في شكل جديد (أو مجدد) و لغة جديدة (أو مجددة)_ .

و يمكن تخليص نقد بن تيمية للمنطق على شكل نقاط :

(1) "ذم علماء المسلمين و أئمة الدين المنطق و أهله" . و هذه النقطة متهافتة .

(2) "و أما العلوم المورثة عن الأنبياء صرفا , و إن كان الفقه و أصوله متصلا بذلك فهي أجل و أعظم من أن يظن أن لأهلها إلتفات إلى المنطق , إذ ليس في القرون الثلاثة من هذه الأمة _التي هي خير أمة أخرجت للناس_ و أفضلها القرون الثلاثة : من كان يلتفت إلى المنطق أو يعرج عليه , مع أنهم في تحقيق العلوم و كمالها بالغاية التي لا يدرك أحد شأوها , كانوا أعمق الناس علما , و أقلهم تكلفا , و أبرهم قلوبا" . و هذه النقطة متهافتة كذلك .

(3) "لا تجد أحدا من أهل الأرض حقق علما من العلوم و صار إماما فيه مستعينا بصناعة المنطق , لا من العلوم الدينية و لا من غيرها" . و هذه كذلك متهافتة .

(4) "أن أصحاب المنطق نفسهم لا يلتزمون قوانين المنطق في كل علومهم , بل يعرضون عنها , لأسباب : (طولها) , (عدم فائدتها) , (فسادها) , (عدم تميزها و ما فيها من الإجمال و الإشتباه)" . و ابن تيمية هنا يعرض بالمنطق من خلال أصحاب المنطق , و حسبنا أن نعلم غلط ذلك حين التعريض بالدين من خلال أصحاب الدين , فنفسهم ينكرون ذلك و يعتبرونه من الغلط . أما أسباب الإعراض , و التي هي سمة قوانين المنطق , فهي باطلة من الوجه الذي قدمت من خلاله : أي أصحاب المنطق لا المنطق ذاته .

(5) "لا يحصل لكثير منهم من هذه الطريق القياسية ما يستفيد به الإيمان الواجب , فيكون كافرا زنديقا منافقا جاهلا ضالا مضلا , ظلوما كفورا , و يكون من أكابر أعداء الرسل - و ربما حصل لبعضهم إيمان و لكن يحصل أيضا منها نفاق , فيكون فيه إيمان و نفاق – و يكون مرتدا : ردة كفر أو ردة نفاق" . و ما يجذبنا في هذه النقطة المتهافتة هو كيف إستطاع ابن تيمية ولوج القلوب و دواخل النفوس , فمعلوم أن الإيمان أمر داخلي , و كذلك هو النفاق . لا , بل كيف إستطاع ابن تيمية أن يجعل كلاهما معا في ذات الجوف ؟! .

(6) "و أما زعمهم : أن البديهة و الفطرة قد تحكم بما يتبين لها بالقياس فساده : فهذا غلط . لأن القياس لا بد له من مقدمات بديهية فطرية . فإن جوّز أن تكون المقدمات الفطرية البديهية غلطا من غير تبيين غلطها إلا بالقياس , لكانت المقدمات الفطرية قد تعارضت بنفسها . و مقتضى القياس الذي مقدماته فطرية . فليس رد هذه المقدمات الفطرية لأجل تلك بأولى من العكس , بل الغلط فيما تقل مقدماته أولى فما يعلم بالقياس و بمقدمات فطرية : أقرب إلى الغلط مما يعلم بمجرد الفطرة" . أما البديهة و الفطرة فقد بان بطلان كلاهما كأساس وفق المنظور الديني بما قد تم تقديمه وفق المنظور العلمي . أما قوله "و مقتضى القياس الذي مقدماته فطرية" , فالأصح : و مقتضى القياس الذي مقدماته علمية . و ما يريده ابن تيمية , هو أن يبيّن أصلانية الفطرة و تقدمها على القياس (أي المنطق) , بالتالي فالفطرة أصح و أسلم , و القياس نابع منها و لا يصح إلا بموافقتها . و لا تخفى غاية ذلك الفقهية و العقدية المستدرعة بالفطرة , و قد بان أن هذا الدرع ليس إلا وهم .

و في ذات النقطة "المعاني فطرية عقلية لا تحتاج إلى وضع خاص , بخلاف قوالبها التي هي الألفاظ , فإنها تتنوع , فمتى تعلموا أكمل الصور و القوالب للمعاني مع الفطرة الصحيحة كان ذلك أكمل و أنفع و أعون على تحقيق العلوم من صناعة إصطلاحية في أمور فطرية عقلية لا يحتاج فيها إلى إصطلاح خاص" . إن المعاني لا ينتجها العقل بل إنها تتأتى من المعاينة أو التفاعل . و لولا أن المعاين أو المتفاعل معه له سمة ثبات (و لو ثبات نسبي) , لكان التنوع تجاوز التنوع في الألفاظ إلى التنوع في المعاني . بل إن التغيير الحاصل (حتى البسيط منه) في المعاين أو في التفاعل هو ما ينتج لنا الإختلاف في المعاني (بغض النظر عن درجة الإختلاف) , و في الترجمات ما نجد ذلك بوضوح .

(7) "القياس ينعقد في النفس بدون تعلم هذه الصناعة , كما ينطق العربي بالعربية بدون النحو , و كما يقرض الشاعر الشعر بدون معرفة العروض" . يلجأ ابن تيمية للمماثلة هنا لنفي تعلم المنطق , و المماثلة باطلة , إذ يختلف المنطق عن النحو , و كذلك عن العروض . و لو أردنا السير مع ابن تيمية في مماثلته لصح قولنا : أن ناطق العربية العالم بالنحو أفضل ممن ينطقها بلا علم له بالنحو , و كذلك الشاعر العارف بالعروض أفضل من الشاعر الجاهل بالعروض .

(8) "المعلوم أن الأمور الدقيقة سواء أكانت حق أو باطل , إيمانا أو كفرا لا تعلم إلا بذكاء و فطنة" . و هنا نتفق مع ابن تيمية , إذ المنطق لا يعدو كونه أداة , كالسيف لصاحبه في القتال , فتكون المهارة و القدرة عاملا حاسما . لكن أن يقتصر الأمر وحده على المهارة و القدرة لهو ضرب من العبث , فأيا تكن مهارة الفارس , فهو دون سيفه في أرض المعارك مجرد عابث . و إن المرء مع نفسه ليختلف عن المرء مع غيره , فالذكاء و الفطنة المقصودة من طرف ابن تيمية تقتصر على الجانب الذي يكون فيه المرء مع غيره , فالمرء مع نفسه بجانب الذكاء و الفطنة يلتزم الصدق و الأمانة (أي في المحاججات) .

(9) "الرد على الزعم ( أنه آلة قانونية تمنع مراعاتها الذهن أن يزل في فكره ) , إذ قد يتضمن من العلم ما يحصل بدونه : بطلان قول ( ليس إلى ذلك العلم لسائر بني آدم طريق إلا بمثل القياس المنطقي )" . و هذه النقطة دون غيرها تحمل في نقد المنطق الكثير من الصحة , و في ذات محور النقطة , "من كان من أهل المنطق من يحقق شيء في العلم فذلك لصحة المادة و الأدلة التي ينظر فيها , و صحة ذهنه و إدراكه , لا لأجل المنطق" , إذا , "من الحق ما لا يوزن بميزان منطقكم" .

و يعطينا ابن تيمية نفسه علة ذلك , "الأمور الكلية الذهنية ليست هي الحقائق الخارجية , و لا هي أيضا علما بالحقائق الخارجية , إذ لكل موجود حقيقة يتميز بها عن غيره , هو بها هو , و تلك ليست كلية , فالعلم بالأمر المشترك لا يكون علما بها فلا يكون في القياس المنطقي علم تحقيقه بشيء من الأشياء و هو المطلوب" . نفهم أن العلم المقصود هو العلم الطبيعي , و هو ما تشير إليه الحقائق الخارجية .

ابن تيمية لم يذهب لإستخراج منطق العلم , منطق المادة , منطق الحقائق الخارجية , بل إكتفى بالنيل من المنطق بجعله بمواجهة العلم (المادة – الحقائق الخارجية) . و نجد أنفسنا نميل إلى كون هذه النقطة منقولة أكثر من كونها نتيجة تفلسف ابن تيمية نفسه .

و لربما _و هذا ما نراه ضعيفا_ لم يغب منطق المادة على ابن تيمية , لكن منعه إعتقاده بالعلم الإلهي من إستخراجه , حيث هو نفسه رغم قوله بالقياس التمثيلي و الشمولي و إنتصاره لهما (مع أنهما يعتبران من أشكال المنطق البسيطة , إلا أنهما يمثلان طريقة {الفتوة} أو {الحكم الشرعي}) , إلا أنه يقول بإستبعادهما حين يكون الموضوع العلم الإلهي .

و مما سبق يستنتج ابن تيمية , "فإن كانت صناعتهم بين معلوم لا يحتاج فيها إلى القياس المنطقي , و بين ما لا يمكنهم أن يستعملوا فيه القياس المنطقي : كان عديم الفائدة في علومهم – بل كان فيه من شغل القلب عن العلوم و الأعمال النافعة ما ضر كثيرا من الناس , كما سد على كثير منهم طريق العلم , و أوقعتهم في أودية الضلال و الجهل , فما الظن بغير علومهم من العلوم التي لا تحد للأولين و الآخرين" . ما يمنع ابن تيمية من أن يستخرج منطق العلم , و يكتفي بالنيل من المنطق عبر مواجهته بالمادة (منطق المادة بطريقة غير مباشرة و غامضة) , هو إنطلاقه من القرآن و السنة , لا جوهر ممارسة التفلسف . لهذا فهو في نيله من المنطق لا يدرك منطقه , بل لا يدرك منطق المادة أو العلم .

يعجز ابن تيمية عن إدراك المنطق بإختياره أن يكون عاجزا , ليخدم الفقه و العقيدة (و هذا العجز قد خدم كثيرا في إطار الصراع الطبقي الكائن حينه – فقد أمّن هذا الفكر العاجز النمط الكائن في المنطقة , بل أمده بعمر جديد , ببعثه من جديد بتأكيد المركزية) .

(10) "من يلزم نفسه بالمنطق و أن ينظر في علومه به و يناظر به إلا و هو فاسد النظر و المناظرة , كثير العجز عن تحقيق علم و بيانه" . و يتحاذق ابن تيمية فيذكر بعض فوائد المنطق ! , "القائل (المنطق فرض كفاية , و من ليس له به خبرة فليس له ثقة بشيء من علومه) فهو في غاية الفساد , و أحسن ما يحمل عليه أن يكون قد كان في غاية الجهالة و الضلالة , و قد فقد أسباب الهدى كلها , فلم يجد ما يرده عن تلك الجهالات إلا بعض ما في المنطق من الأمور التي هي صحيحة" , "فائدة المنطق : ما يحصل به لبعض الناس من شحذ ذهن , أو رجوع عن باطل أو تعبير عن حق , فإنما هو لكونه كان في أسوأ حال , لا لما في صناعة المنطق من الكمال" , و يقدم مثالا عجيبا على ذلك "أن المشرك إذا تمجس , و المجوسي إذا تهود : حسنت حاله بالنسبة إلى ما كان فيه من قبل" . فابن تيمية يتقلب بنا في النيل من المنطق بين تماثل باطل و تناقض مغلوط , تقلب السمكة خارج المياه . و ليس آخر حججه في هذا المحور للنيل من المنطق "أن هذه الصناعة قليلة المنفعة عظيمة الحشو" , و كأن المنطق يخط فلسفة بذاته ! .

(11) "فإن علومهم التي جعلوا هذه الصناعة ميزانا لها : لا يكاد ينتفع بهذه الصناعة المنطقية في هذه العلوم إلا قليل : العلوم الرياضية – و ما يصح من العلوم الطبيعية [الكلية و الطبية]" . هذه العلوم لها منطقها أيضا , بل و الجدير بالذكر أن العلوم الرياضية بمنطقها الرياضي إنما هي أسمى أشكال المنطق الصوري (الأرسطي) الذي كلف ابن تيمية نفسه عناء النيل منه ! , "أصح النظرية _و هي المدخل إلى الحق_ هي الأمور الحسابية الرياضية" .

(12) و يتناول ابن تيمية المنطق في الجانب العملي , "و أما العملية : فإصلاح الخلق و المنزل و المدينة . و لا ريب أن في ذلك من نوع العلوم و الأعمال الذي يتميزون بها عن جهال بني آدم الذين ليس لهم كتاب منزل و لا نبي مرسل ما يستحقون به التقدم على ذلك . و فيه من منفعة صلاح الدنيا و عمارتها ما هو داخل في ضمن ما جاءت به الرسل – و فيها أيضا من قول الحق و إتباعه و الأمر بالعدل و النهي عن الفساد : ما هو داخل في ضمن ما جاءت به الرسل – فهم بالنسبة إلى جهال الأمم كبادية الترك و نحوهم أمثل إذا خلوا عن ضلالتهم فأما مع ضلالتهم فقد يكون الباقون على الفطرة من جهال بني آدم أمثل منهم . فأما أضل أهل الملل _مثل جهال النصارى و سامرة اليهود_ فهم أعلم منهم و أهدى و أحكم و أتبع للحق" . و ابن تيمية و إن كان يبدو و كأنه يمدح المنطق في الجانب العملي , إلا أن مدحه كما يبدو لكل بسيط نظر يحدده المنطلق الذي ينطلق منه ابن تيمية , الفقه و العقيدة . و على أساس , "أن المشرك إذا تمجس , و المجوسي إذا تهود : حسنت حاله بالنسبة إلى ما كان فيه من قبل" , يسير كذلك في مدحه للمنطق , و تحديد درجة أهله , إلا أنه مدح حذر , فقد سبق و أكد أصلانية الفطرة , لذا فهو لا يستبعد تقدم "جهال الأمم كبادية الترك و نحوهم" بالفطرة .

و لابن تيمية قول يستحق النظر في الجانب العملي :
" أن الأمور العملية الخلقية قل أن ينتفع فيها بصناعة المنطق . إذ القضايا الكلية الموجبة _و إن كانت توجد في الأمور العملية_ لكن أهل السياسة و لأهلهم و لملكهم إنما ينالون تلك الآراء الكلية من أمور لا يحتاجون فيها إلى المنطق , و متى حصل ذلك الرأي كان الإنتفاع به بالعمل" .
"ثم الأمور العملية لا تقف على رأي كلي , بل متى علم الإنسان إنتفاعه بعمل عمله , و أي عمل تضرر به تركه . و هذا قد يعمله بالحس الظاهر أو الباطن لا يقف ذلك على رأي كلي" .
"فعلم أن أكثر الأمور العملية لا يصح إستعمال المنطق فيها . و لهذا كان المؤدبون لنفوسهم و لأهلهم , السائسون لملكهم لا يزنون آراءهم بالصناعة المنطقية , إلا أن يكون شيئا يسيرا , و الغالب على من يسلكه : التوقف و التعطيل . و لو كان أصحاب هذه الآراء تقف معرفتهم بها و إستعمالهم لها على وزنها بهذه الصناعة لكان تضررهم بذلك أضعاف إنتفاعهم به , مع أن جميع ما بأمرون به من العلوم و الأخلاق و الأعمال لا تكفي في النجاة من عذاب الله , فضلا عن أن يكون محصلا لنعيم الآخرة" .

إن كان ابن تيمية وفقا لما خطه في نقد (أو نقض) المنطق قد سبق فرانسيس بيكون و جون ستيوارت ميل _حسب ما يعتقده البعض و يصر عليه_ , فهو بما يورده في الجانب العملي قد سبق ميكافيلي بل و وضع أسس البراجماتية , لكن بنكهة إسلامية ! .
و ذلك ما يدعم المركزية للنمط الكائن .


و في ختام العرض , أود التذكير بضرورة وضع ابن تيمية و ما قدمه من فكر في إطاره التاريخي , لفهم إرتباط الفكر بالواقع , الظروف الواقعة . و كذلك إلى أن ابن تيمية في كل ما قدمه لم يكن إلا مجدد , لم يأت بجديد , و الجديد إنما هو الشكل الذي قدم فيه ما قدمه بما يرتبط بالواقع الإجتماعي (الملتبس بالديني و المذهبي) , من بساطة و روح عملية . و المنطق الذي يستعمله ابن تيمية في نقد المنطق هو منطق فقيه لا فيلسوف . كما أن مؤلفاته في ذلك ليست بمواجهة مباشرة مع الفلاسفة أو المتكلمين , بل هي أقرب لأن تكون نصائح لمؤمنين مثله , و هذا ما يحمله كتابه ((الرد على المنطقيين)) من عنوان آخر يبدأ ب ((نصيحة أهل الإيمان)) .

و لا عجب أن نجد من يتمترس بنفس نقاط ابن تيمية في نقد المنطق (أو نقضه) , بل إني لا أجد حرج من تسمية ابن تيمية بشيخ الإسلام , فتقريبا كل رجال دين الإسلام _بغض النظر عن طوائفهم المتنافرة و المتعددة_ يأخذون بذات النقاط (و إن لم تكن خالصة لابن تيمية) , و تقريبا جميعهم يتفقون معه في قوله "لا يصح نسبة وجوب المنطق إلى شريعة الإسلام بأي وجه من الوجوه , و القائل بوجوبه هو من الغلاة و الجهال" .

تمنطق شيخ الإسلام لينال من المنطق , دون أن يدري أنه إنما يتمنطق , فصح قوله فيه هو "من تمنطق , تزندق" ! .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل تحرك تصريحات بايدن جمود مفاوضات الهدنة في غزة؟| #غرفة_الأ


.. ممثلة كندية تتضامن مع غزة خلال تسلمها جائزة




.. كيف سترد حماس على بيان الوسطاء الذي يدعوها وإسرائيل لقبول ال


.. غزيون يستخدمون مخلفات جيش الاحتلال العسكرية بعد انقطاع الغاز




.. صحيفة الغارديان: خطاب بايدن كان مصمما للضغط على إسرائيل