الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَام [2]

كمال الجزولي

2015 / 7 / 8
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَام [2]
مَائَةُ عامٍ مِنْ عُزْلَةِ الدُّرُوسِ المُهْدَرَة
(مَبْحَثٌ فِي قِيمَةِ الاعْتِبَارِ التَّارِيخِي)

بقلم/ كمال الجزولي

"إلى رُوحِ جَدِّي لأمِّي مُحَمَّد وَدْ عَبْدَ الكَريمْ الأَنصَـاري الذي
عَاشَ لأكـثَرَ مِن نِصـفِ قَرْنٍ بَعْدَ (كَرَرِي)، راكِـلاً الدُّنيا بِمَا
فِيهَا، ومُتَرَقِّباً القِيامَةَ، فِي كُلِّ مَـرَّةٍ، يَومَ الجُّمُعَةِ القَادِمَةْ"!

***

"أؤكِّدُ لِمَوْلايَ أنَّنَا إذا وقَفْنَا لِلْجَّيْشِ الذي حَارَبَنَا فِي
أتْبَرَة، لأَهْلَكَنَا لا مَحَالَة. وأُمْ دُرْمَانُ لَيْسَتْ بِلادَنَا"!
ـ الأميـر التَّعايشـي الزَّاكـي عثمـان فـي
مجلس الشُّـورى الأخير قبل المعـركـة ـ

اخْتَزَلتْ الأُوتُوقْرَاطِيَّة مُجْمَلَ طَاقَاتِ الفِعْلِ الثَّوْرِي عِنْدَ
الجَّمَاهِيرِ إلى مَحْضِ طَاعَةٍ قَسْرِيَّة لِعَصَبِيَّتِها الضَّيِّقَة!

كَيْفَ تَحَوَّلَ أَمْرُ الفِدَاءِ فِي شَان الله أيَّامَ الثَّوْرَةِ إِلى مُجَرَّدِ
ثَمَنٍ مَخْبُوءٍ فِي مُلابَسَـاتِ اللَّبَنِ والعَصِـيْدَة أيَّامَ الدَّوْلَةِ؟!

(5)
لم يكن سيِّدى الخليفة ود تور شين مغالياً حين صبَّ جام غضبه على رأس الأمير التَّعايشي الزَّاكي عثمان الذي جاء من واقعة الأتبرة ليبدي استخذاءً فضائحيَّاً في مجلس الشُّورى الأخير قبل المعركة:
ـ ".. وأمدرمان، يا مولاي، ليست بلادنا حتى نقف فيها، وندافع عنها، فالأَولى بنا أن نأخذ رجالنا، وأسلحتنا، ونرحل إلى كردفان، فإذا لحقنا جيش الحكومة إليها، وهو لا يفعل ذلك إلا بعد استعداد كثير وزمن طويل، هجرناها إلى "شكا"، وهى دارنا، فإذا جاءنا إليها قـاتلناه، ودافعــنا عـن وطـننا، حـتَّى انتصـرنا أو مـتنا"! (ن شـقـيـر؛ تاريـخ السُّـودان، ص 925).
نعم ، لم يكن الخليفة مغالياً حين استشاط غضباً على هذا الارتداد الجَّهير من "السُّودان" إلى "شكا"، من وُسع الوطن إلى ضيق القبيلة، فأصدر أمره الفوري لمن على يمين الزَّاكي:
ـ "شيِّلو ام اضان"!
أي ألطمه على صفحة وجهه، ففعل. ثم لمن على يساره:
ـ "وأنت أيضاً"
ففعل. ثمَّ أمر به، فجرُّوه إلى سجن "السَّاير"، وكبَّلوه بالحديد، وسيِّدي الخليفة يضرب كفَّاً بكفٍّ مستعجباً:
ـ "يا سـبحان الله، يسـتقبح عبد الله ود سعد الفرار، ويقاوم جيشاً ضخماً كجيش محمود بثلاثمائة رجل لأجل حِلة واحدة، ونحن رجال المهديَّة وأنصارها نجبن عن حرب جيش الكفرة المخذول لأجل السُّودان كله؟! أنا سأحارب حتَّى أنتصر أو يُقتل جيشي كله، فأجلس على فروتي، عند قبَّة المهدي، وأسلم أمري إلى الله!" (المصدر نفسه).
وفى الحقيقة فإن قول الزَّاكي عثمان الذي أغضب خليفة المهدي كلَّ ذلك الغضب، بتعبيره الأخرق البشع حول المسألة "الوطنيَّة"، تضمَّن أيضاً تعبيرات أخرى ربَّما كانت أفدح بشاعة، وخراقة، وإغضاباً حول المسألة "الاجتماعيَّة":
ـ "واعلـم يا مولاى أننا لم ننس ما كنَّا عليه قبل أن خصَّك الله سبحانه بالخلافة. فقد كان أعظم رجل منَّا يملك بقرة أو بقرتين، يرعاهما في البادية في النَّهار، ويأتي بهما في المساء فيحلبهما، فيشتري بنصف لبنهما عيشاً يصنعه عصيدة ويجعل عليه باقي اللبن مُلاحاً فيأكله هو وزوجته وأولاده. ولكن من حين اجتماعنا بك أطعمتنا مما تأكل أنت، وأكل أولادنا مما يأكل أولادك، ولبست نساؤنا مما تلبس نساؤك، وصار كلُّ من حضر فى هذا المجلس كملك في بيته وفي النَّاس، فليس بكثير عليك إذا نصرناك وفديناك بدمائنا. ولكن، يا مولاي، إذا هوى قصرك هذا علينا، في هذه السَّاعة، فما الذي نفعله بحكم السَّليقة والطبع، أنقف حتى يسقط علينا ويهلكنا، أم نفرُّ من وجه الخطر؟! وأنا أؤكد لمولاي أن الجَّيش الذي حاربنا في الأتبرة لا طاقة لنا على حربه هنا، فإذا وقفنا له تغلَّب علينا وأهلكنا لا محالة. وأمدرمان ليست بلادنا .. الخ"(المصدر نفسه).
وبصرف النظر عن غضبة الخليفة وحنقه فإن زوبعة من التَّساؤلات لا بُدَّ تثور هنا: عن أيَّة "عصيدة" كان الأمير الزَّاكي يلغو؟! أليس عن ذات "بيت المال" الذي استبشع الإمام المهدي عليه السَّلام، أوان حياته، من أمينه أحمد ود سليمان أن يشغل به أهله الأشراف؟! وما هو خبر تلك "الجَّماعة"، من دون النَّاس، التي عناها بقوله إنها تغيَّر حالها في كنف الخليفة، فـ "أكلت" مِمَّا يأكل هو وأولاده، و"لبست" نساؤها مِمَّا تلبس نساؤه؟! أفلا يشير بذلك إلى "الحزب التعايشي" الذي انبجس كالدمِّل في خاصرة (الثَّورة) و(الدَّولة)؟! وأيُّ "مجلس" ذاك الذي صار كلُّ من حضره "ملكاً" في "النَّاس"؟! أهو شئ آخر غير "الأوتوقراطيَّة" تختزل مجمل طاقات الفعل الثَّوري عند الجَّماهير إلى محض طاعة قسريَّة لعصبيَّتها الضَّيِّقة؟! وكيف تحوَّل أمر "الفداء" و"النُّصرة" من بذل بلا منٍّ ولا أذى عند الكادحين "في شان الله"، إلى مجرَّد "ثمن" مخبوء في ملابسات "اللبن والعصيدة" عند النُّخبة العشائريَّة المتحلقة حول مركز الحكم، لا تستنكف، إذا حَزَبَ الأمر، أن تقايض به ولاءها للخليفة، بلا أدنى استحياء، وفى عين مجلس شوراه: "ليس بكثير عليك إذا نصرناك وفديناك"؟! وعموماً، هل كان الزَّاكي عثمان يمثل "عنزة" المهديَّة "الفاردة"، أم الانعكاس الحي، الأكثر اكتمالاً وصراحة، لتخثُّر الأحوال في دولة أولئك الأجداد العظماء، أواخر عهدها، وتحت الخيوط الأخيرة لشمسها الغاربة على مشارف القرن العشرين، مِمَّا جعل الشُّكوك تساور عثمان شيخ الدِّين حتَّى في جاهزيَّة "أولاد العرب" من "الرَّاية الزَّرقاء"، الذين لم يكن من الممكن الشَّكُّ فيهم في ما مضى، فيستمسك في مجلس الحرب بقيادة "الملازميَّة" حين أحسَّ برغبة إبراهيم الخليل في تولى قيادتهم:
ـ "أرباعى أنا ما بدِّيها، البمسك العرب ديل في الليل منو"؟
وهى ذات الشُّكوك التي دفعت، مع الفارق، بمقاتلين أشاوس في قامة على دينار وموسى مادبو للانفصال عن ميدان المعركة حين حمى وطيسها (ع زلفو ؛ كرري، ص 410 ـ 419 ـ 420)، وبرجال مخلصين مثل بابكر بدري ومختار محمد العامل وغيرهم ليولوها ظهورهم ".. فأصدقك أنى الذي كنت أتعرَّض للوابورات، ولا أبالى بلقاء الجَّيش، والذي كنت هاجرت لفتح حلفا من ضمن تسعة رجال فقط، صرت اليوم أدعك وجهي في الرَّمـلة كـأنـي إذا دخـل رأسـي فـي الرَّمـلة لا أمـوت!" (ب بدري؛ تاريـخ حـيـاتى، ج 1 "1279 ـ 1316 هـ"، ص 180).
بعض أهميَّة هذه التَّساؤلات كامن، ولا ريب، في إلحاح الحاجة التي بحت منها الحناجر، لإعادة كتابة تاريخنا بمنهج التَّحليل العلمي الذي يتَّسم بالأمانة والشَّجاعة في مواجهة الحقائق الباردة، لا برؤيتها من خلال أبخرة العاطفة السَّاخنة التي لا تؤدِّى سوى إلى تزييفها أو، في أفضل الأحوال، إلى التَّغافل وغضِّ الطرف عنها، بدعوى "حب الأوطان"! فليس في إهدار الحقيقة، أو لفلفتها في طوايا العاطفة السَّاذجة، أيُّ قدر من "الحب"! بل إن من مقتضيات "حبِّنا" لأجدادنا أن نتبصَّر تاريخهم، كي نتأهَّل لاقتفائه بالانتباهة الواجبة، صعوداً إلى المراقي التي تاقوا إليها، لا أن ننبطح عليه، لنبقى أبد الدَّهر بين حفر الغفلة، فلكأن التَّاريخ يبدأ كلَّ صباح من صفر كبير! وما أثمن ما فاتنا، بسبب ذلك، من دروس وعِبَر!

(6)
لا تثريب علينا إن ركنَّا باطمئنان إلى الإفادات الموثَّقة للأنصاري الجَّليل الشَّيخ بابكر بدري، عليه رحمة الله ورضوانه، حول العلاقات السِّياسيَّة، والحراك الاجتماعي، في إطار "المهديَّة الدَّولة"، على أخريات أيَّامها، بوجه عام، وفى حاضرتها "أم درمان"، بوجه مخصوص. فهو، أولاً، من أبناء المهديَّة الأوفياء الذين فجَّروا ثورتها، وشادوا دولتها، قبل أن تقدَّر لهم الشَّهادة على انكسارها الفاجع المدوِّي في كرري. وهو، ثانياً، من الثِّقات المشهود لهم بسعة الأفق، وحضور الذَّاكرة، وعمق الإدراك لقيمة التَّاريخ، وعدل الشَّهادة ولو على النَّفس. وفى كتابه القيِّم "تاريخ حياتي" لم يشأ هذا الجدُّ الدَّارس المتأمِّل أن يجنح لأسلوب التفجُّع الكاسد من حادثات الدَّهر، ولو فعل لما لامَه أحد، أو التَّباهي الكذوب بالوقائع الملفَّقة، ولو صدر عنه منها شئ لما وجد مَن يغالطه، بل جابَه الحقائق، حلوها ومُرَّها، باستقامة نادرة، وإحساس بأمانة الرِّواية والتَّدوين فريد. وعَرَضَ لحقائق عصره بما يضمن لكلِّ من ألقى السَّمع وهو شهيد أن يتبيَّن خيوطه البيضاء من السَّوداء، وبما يعينه، أيَّما إعانة، على جلاء العِبْرة وحسن الاعتبار بالمهديَّة: العوامل التي هيَّأت لصعود "ثورتها"، والعوامل التي أفضت لانكسار "دولتها". ولم يفت الشَّيخ الجَّليل أن يؤكد على أن فكرته من وراء ذلك هي أن "حوادث التَّاريخ تكتب للاقتداء بها حسناً وقبيحاً"، وأن "أصدق التَّاريخ ما كتب في زمانه، وصَدَق فيه كاتبه، وصَدَّقه معاصروه في ما روى"، فهذا باب في الاستنارة لم تحُلْ أنصاريَّة الشَّيخ الصَّميمة دون طرقه.
وفي ما يلي ننقل قيضاً من فيض شـهادته لله ورسوله وللوطن حول بعض هذه الوقائع الجَّديرة بالتَّأمُّل المتمكِّث، في سياق البحث الموضوعي في تاريخ تكمن عظمة أبطاله وصُنَّاعه في كونهم بشراً غالبوا، جهد طاقتهم، بل فوق طاقتهم أحياناً، شرط محدوديَّتهم البشريَّة، في ظروف محليَّة وإقليميَّة ودوليَّة بالغة التَّعقيد، فغلبوها مرَّات، وغلبتهم مرَّات. وليس من الحكمة، بل إنه لمن فساد التَّدبير، يقيناً، والظلم لأسلافنا العظماء، ولأنفسنا، ولتاريخنا الوطني، أن نظلَّ "نتغنَّى" بالانتصارات المجيدة وحدها، مسقطين من حساباتنا، بالكليَّة، دروس الهزائم الكبيرة، فبالاستصحاب الرَّاشد، فقط، لهذين الضِّدَّين معاً، يمكن تفجير الوعي المطلوب بالمغازي العميقة لذلك التاريخ.

(7)
تنتسب الواقعة الأولى إلى مناخ النهوض الثَّوري الذي عبرت فيه جحافل الثُّوار أمواج "الأَبْيَض" الهادئ، عند نقطة اقترانها بأمواج "الأزرق" الهدَّار تعلو وتهبط فوق الشطِّ، كما صدر المصارع، لتنداح، بتهاليل نصرها المؤزَّر، من معسكر "أبو سعد" لتنقِّي شوارع الخرطوم من دنس "الترك" بماء الثَّورة وثلجها وبردها؛ يقول الشَّيخ بابكر:
ـ "عندما صدر الأمر للأنصار بحجز المنازل .. حجزنا أنا ومحمد مصطفى منزل رجل يدعى محمد علي بك وصوص، أظنُّه تاجراً أصْوَلياً، فوجدنا فيه الزَّبيب، ودقيق القمح، والسَّمن، واللحم المقدَّد، وجوَّالات الذُّرة، ولم نجد به أحداً، فلم نمس شيئاً .. حتى يصدر الأمر من ولد النِّجومي عن المهدي عليه السَّلام .. وفعلاً لم يصدر الإذن إلا ضحى الثُّلاثاء، حيث خبزنا من الدَّقيق قُرَّاصة أَدَمْناها بالزَّيت، تقشفاً، مع وجود السَّمن والعسل. ثمَّ فكرت في أن صاحب هذا المنزل يجب أن يكون عنده من النُّقود والحُلي الشَّىء الكثير. فأخذنا في البحث .. فلم نجد شيئاً، حتى استعنَّا بجيراننا الذين أخبرونا أنهم يخبئون حُليَّهم في البئر أو المستراح. فأنزلنا محمد مصطفى .. فوجدنا حُلىَّ المرأة شيئاً كثيراً كان من الذَّهب. فأخرجناه، وربطناه في بشكير، وحملناه معاً إلى بيت المال. فوالله ما كنَّا نفرِّق بينه وبين الجَّنائز التي كنَّا نمرُّ عليها، حتى أوصلناه لبيت المال، ولم يخطر ببال أحدنا أنَّه يحمل مالاً فيه الغناء لمدَّة الحياة لو اختلسه. أنظر لهذه التَّعليمات (يعني الدَّوافع الذَّاتيَّة لا الأوامر - الكاتب) التي تصرف شابَّاً مثلنا عمره 23 سنة، وله زوجة، ومن له زوج يرجو له أولاد، ولكن رجاءنا لما عند الله صرفنا عنه"(نفسه، ص 37).
(نواصل)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصر: وزيران جديدان للدفاع والخارجية في تغييرات الحكومة


.. والدة ضابط إسرائيلي قُتل في غزة تستلم جثمان ابنها




.. الناخبون الإيرانيون يبدأون التصويت في الجولة الثانية من الان


.. مسؤول بالجيش الإسرائيلي: قيادة الجيش مستعدة لقبول أي صفقة مع




.. ما هو فيلق أفريقيا الذى يرث مجموعة فاغنر الروسية؟