الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مفهوم الروح في المجتمع العراقي

محمد لفته محل

2015 / 7 / 8
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الروح فكرة قديمة شغلت الإنسان منذ البدء فإنسان النياندرتال كان يدفن موتاه وفق تقاليد معينة تشف عن الاعتقاد بفكرة الروح، فالجثث كانت تدفن في حفر كل على انفراد، وكانت تتوجه الجثث وفق محور شرق غرب، مع عناية خاصة بالرأس حيث تتم حمايته بأحجار كبيرة، وإحاطة الجسد في بعض الأحيان ببراعم وأزهار من أنواع منتقاة، وفي حالات عديدة تقديم قربان حيواني عند الدفن، مع تقديم هدايا جنائزية من أدوات أو عظام حيوانية منتقاة(1) وقد اعتقد الانثربولوجين الأوائل (سبنسر، جيلين، تايلور) أن الدين نشأ عن الاعتقاد بالأرواح(2)، والنظرية الارواحية (A NIMISM) فسرت نشوء فكرة الروح من تأمل الإنسان بظاهرة الأحلام حين يرى نفسه ليلا يقوم بنشاطات تماثل نشاط اليقظة، أعطاها صفة الحقيقة التي تساوي الواقع(3) ففرق ما بين الجسد والروح، أما عالم النفس (سيغموند فرويد) فيفترض أن نشوء فكرة الروح يعود إلى إحساس الإنسان بحركة الهواء الذي اقتبست منه صورة الروحانية، وذلك ما دامت الروح تأخذ اسمها من نفحة الهواء ويلاحظ (جورج طرابيشي) الصلة اللغوية بين الروح والريح، والنفس والنفَس (الشهيق والزفير)(4) أما عالم الاجتماع (أميل دوركهايم) فيفترض أن فكرة الروح مصدرها إدراك الفرد لنسبيته وخلود الجماعة(5) ونحن كمجتمع عراقي فان فكرة الروح ضاربة في تفكيرنا اجتماعيا ونعتبرها من أساسيات معتقداتنا الدينية، وتعتبر الروح من الأمور المعقدة التي يخوض فيها رجال الدين فقط لان علمها عند الله حصرا فهي تنتمي للمجال المقدس، وأنا هنا سأبحثها من منظور اجتماعي بحت بعيدا عن المجال الديني محاولا تكوين الصورة التي يفهم بها المجتمع العراقي الروح.
تمتاز الروح بمكانة أعلى من الجسد فهي محركه وهي الخالدة وهو الفاني، وهي تعود للرب والجسد يعود للأرض المدنسة، والروح من الله بل هي من نفسه فهو حين ينفخ في الأشياء تصبح حية، أي أنها نفس الله ولهذا أصبحت مقدسة وتعود له بعد وفاة الجسد، وكما يقول القرآن (أيتها النفس المطمئنة عودي إلى ربك) أو (انتقل إلى رحمة الله) أو كقولنا (الله اخذه) الخ والروح تسمى (نفس) كونها من نفس (زفير) الله، والروح تخرج من الأنف فيقال (شخره) الموت وتتوقف في البلعوم كآخر محطة لها وهي الغرغرة، والجسد يصبح نجسا بعد مغادرة الروح له، فيغسل قبل التكفين ويجب عدم ملامسته، وشكل الروح المتخيل هو غالبا كالصورة الشفافة المعكوسة على الزجاج بألوانها الباهتة بحيث يمكن رؤية الأشياء من ورائها، والروح تستطيع اختراق الأشياء والمكان والزمان، وقدرتها على التحليق بالهواء فهي كالهواء والضوء وهي سميت بالروح نسبة إلى الريح، ويمكن فهم هذه الخواص لكونها تنتمي لعالم المقدس النقيض للعالم الدنيوي، فمن الطبيعي أن لا تخضع لقوانينه لكونها من عالم نقيض لعالمه، وهي بهذا التوسط عبر الجسد تستطيع التواصل بين العالمين (المقدس والدنيوي)، والروح بعد خروجها من الجسد تصبح مصدر رعب وخوف وهلع للإنسان! لذلك تعزل جثث الأموات في أماكن بعيد عن مساكن البشر في المدافن، وتصبح الأرواح أكثر رعبا وشرا بالليل، وقد تتلبس الروح بأجساد الأحياء فتفتك بهم في شكل نوبات وتصرفات سلبية على صاحبها، ورؤية الأموات أحياء باليقظة تولد الجنون والهلع، لكن رؤية أرواح الأموات بالأحلام أمر طبيعي ونعطيه منزلة الحقيقة، وإذا تصادف وجود جثة مدفونة في بيت فان البيت تسكنه أرواح الموتى التي ستطرد أهل الدار أو تصيبهم بالجنون، والأرواح عادة ما تسكن البيوت المهجورة والنائية عن مسكن البشر، هذه التصورات الاجتماعية العامة للروح.
فمن أين اكتسبت الأرواح صفة الإرعاب والشر وهي طاهرة ومن نفس الله؟ ولماذا نخاف من رؤية الأموات أحياءا باليقظة حتى لو كانوا اعز الناس علينا؟ السنا نتمنى لهم طول العمر ونتمنى لو لم يموتوا؟ لماذا يصاب بالجنون الذي يرى الأموات أحياء أو الذي يرى الأرواح باليقظة؟ في حين لا يحدث ذلك أثناء رؤيتهم بالأحلام؟ ولماذا أي بيت يكون قريب من مدافن الأموات أو يكون بأرضه جثة مدفونة فان الأرواح تسكنه؟ ولماذا تسكن الأرواح البيوت القديمة المهجورة المعزولة وحدها؟.
إن أفضل جواب على هذه الأسئلة يكمن في تصورنا نحن كعراقيين عن مفهوم الموت حيث نتصوره كحالة تشبه النوم وكثيرا ما نقول (نومة أهل القبور) أو نضرب الأمثال (لو كان النوم مفيد لكان فاد أهل القبر) ونحن نطلق صفة (الرقاد) على النائم والميت على حد سواء، والدين يؤيد ذلك، ومن هذا التصور عن الموت واستخدام فرضية التحريف النوعي عندها ستصبح الأشياء مفسرة بسلاسة، وبما أن الموت كالنوم كما قلت في تصور العراقي، وعلى ضوء هذا التصور فان الأحلام هي الوسيلة الطبيعية التي يتواصل فيها الأحياء النيام مع الموتى/ النائمين، وبما أن النائم يستطيع الاستيقاظ، فان الميت كونه كالنائم يستطيع الاستيقاظ أيضا، من هنا كان الخوف من نهوض الأموات النائمين، فرؤية الأموات أحياء باليقظة فهذا ما يثير الرعب حتى لو كان من اعز ما نحب؟ علما أننا نعتبر الميت في الحالتين النوم واليقظة هو ذاته حقيقة! فيا ترى لماذا هذا الازدواج في التعامل مع أرواح الأموات؟ والجواب هو أن رؤية الميت باليقظة فهذا لكون الجسد أصبح نجسا بعد خروج الروح وعودتها له لا يرفع النجاسة عنه (الجسد)، فتتنجس الروح أيضا وتصبح شريرة وبلغة (التحريف النوعي) تتحيون أو تتشيطن فتضرب النواهي والممنوعات والمحرمات الإنسانية فتسلك سلوك الحيوان بأكل الإنسان، وهي حين تأكل الإنسان لا تقتله بل يصبح نجسا مثلها يلتهم الأحياء مثلها وهذا ما يخشاه المجتمع الذي يجب على أفراده أن يحتفظوا بطهارتهم حتى يتصلوا ويتواصلوا بينهم، والنجاسة هي التي تجعل الأفراد يرتكبون المحرمات، وهي حقيقة غير ظاهرة وغير معلنة بالتراث الديني والشعبي لكن كانت موجودة في التراث السومري فقد هددت الالهه (عشتار) الإله (آنو) بفتح بوابات العالم الأسفل فتخرج الأموات ليأكلوا الأحياء(6)، والإسلام يسمح بقيامة الأموات بذلك فقط في يوم القيامة، وجميع أفلام الرعب السينمائي تصور الأجساد التي قامت بعد موتها لونها ازرق شبه متفسخة تختلف عن شكل الأحياء، وتلتهم الأحياء كونها تحيونت مثلما يأكل الحيوان الإنسان وهذه التصورات السينمائية لها ميراث سلالي في لاشعور البشر وليست مجرد خيال فني، فإنسان النيادرتال كان يدفن موتاه بطريقة يضعهم في حفر وبوضع القرفصاء تمنع قيامهم حيث تثنى ركبتي الميت في حيز ضيق يمنعه من التمدد والخروج إلى عالم الأحياء(7)، لكن في مجتمعنا العراقي الحالي لا توجد لديه فكرة التهام الأموات للأحياء بل التلبس بهم لتأخذ أجسادهم منهم عوضا عن جسدها المفقود أو إصابتهم بالجنون وهذا سبب خوفنا من رؤية الأحبة أحياء باليقظة كونهم سيؤذوننا، لذلك يكون الكفن هو قيد يحول دون قيام الجسد من رقاده، حيث يلف بوثاق من أسفله حتى كتفيه يمنع أي حركه منه، مع حفرة عميقة تحول دون الخروج في حالة التخلص من الكفن، وتدفن في أماكن نائية عن مساكن البشر، فالتكفين هو وثاق والحفرة أشبه بالسجن التي كلها إجراءات تمنع قيام الأموات ولهذا ترمى ملابس الميت أو يمنع ارتدائها خوفا من عودة الميت لها، ومن هذا التصور عن قيام الأموات فان الأرواح حين تفشل بالقيام بسبب الاحترازات الموضوعة على الجثة، فإنها تهيم تبحث عن جسد تتلبس به للتعويض عن جسدها المدفون فتسكن في بيوت البشر القريبة على مدافنها أو في البيوت النائية المهجورة، وما تقديم الأضاحي للميت إلا هو استرضاء لروحه، لكن ليست كل الأضاحي استرضاء بل فيها من تبتغي التواصل بين الأحياء والأموات وإعانة الميت في العالم الآخر (النذر والثواب) وهذا هو المسكوت عنه في الروح في المجتمع العراقي والموجود أيضا في الدول العربية الأخرى لكني أتحدث للدقة عن مجتمعنا كوني مهتم بثقافته وتراثه.
ــــــــــــــــــ
1_ فراس السواح، دين الإنسان، منشورات علاء الدين، دمشق 1998 ، ص127.
2_ علي سامي النشار، نشأت الدين، النظريات التطورية والمؤلهة، دار النشر الثقافة بالإسكندرية، 1949، ص33.
3_ نفس المصدر، ص34.
4_ سيغموند فرويد، موسى والتوحيد، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر بيروت، ص158.
5_ فراس السواح، دين الإنسان، ص212.
6_فراس السواح، جلجامش، ملحمة الرافدين الخالدة، دراسة شاملة مع النصوص الكاملة وإعداد درامي، منشورات دار علاء الدين، الطبعة الثانية 2002، (الاقتباس من الهامش وليس المتن). ص169.
7_ فراس السواح، دين الإنسان، ص127.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد زيارة بوتين للصين.. هل سيتحقق حلم عالم متعدد الأقطاب؟


.. كيربي: لن نؤيد عملية عسكرية إسرائيلية في رفح وما يحدث عمليات




.. طلاب جامعة كامبريدج يرفضون التحدث إلى وزيرة الداخلية البريطا


.. وزيرة بريطانية سابقة تحاول استفزاز الطلبة المتضامنين مع غزة




.. استمرار المظاهرات في جورجيا رفضا لقانون العملاء الأجانب