الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هيكل هبوط القمر – رواية (3)

حمودي زيارة

2015 / 7 / 20
الادب والفن


أفترت أسارير شلير بالفرح، رمت بيديها الى الهواء، وبدأت تخفق بهما، بتموجات راقصة. اذ طلاوة الفرح وشحت قوامها، بعد أن كادت تهب نضارة طلاوتها الى تجاعيد توجعات آلام بقرة الملاك. خرج أهل القرية من بيوتهم الى جهة الصوت، حيث قض منامهم صرخات فرح شلير. ومالبث أن كساهم الليل سواده، حتى وجدوها بصفاقة تتشرنق بسواد الليل على دبيب قفزات ساخرة. تواظب على الذهول الذي تجلى لها، من رؤية بريق الملاك الذي تباين كنهار في عتمة الليل. ركضت بخطوات مترنحة نحو البقرة، تعلقت بها بأصابع واهنة، مسدت بطنها مثلما كانت تفعل قبل مجئ الملاك. لطعت البقرة وجنة نيركز، كيما تشاركها الفرحة. بقين يركلن الليل، بحركات أشبه بمس من الجنون..

***

أغلب أهل القرية في توافق تام، بأن البقرة أنتشلها الملاك من غفوة أكفان الموت، وقبضة الامراض. ولهذا كان هبوطه، وأدركوا بأن موتها، ستكون فيه نهاية القرية. عندها تطاول الفرح في النواصي، وأخذت البقرة من جديد تتهادى بغنج في الطرقات. حيث أصبحت تعويذة خضراء ترفل بالخير. هذا مما جعل الأنتشاء يسود أفاق القرية. ويتسلق مروج تعرجات الجبل، وأكنان الطيور. في الحقيقة، كان أهل القرية، يعرفون بأنهم في خطر، طالما البقرة في عادية المرض. لهذا نهش الغيظ سكون مسارب أيامهم. عندما حزت انشوطة الربقة، تغضن رقبتها العريضة، حيث رقدت ترسف بالوجع في باحة المراح، فترة طويلة من الزمن، دون أن تبارحه الى أحتفال المراعي مع قطعان القرية، إذ هرس العناء والوهن ريّ العافية فيها. وتبعاً لقدسية هبوط الملاك، التي طارت في الأجواء، وطالت القرى البعيدة، فعليه تشرفت القرية بأرتداء ضوء السماء، على أيقاع موسيقى الليل التي عزفت بعذوبة في الطرقات. عندئذ طفحت مسحة من السرور توشم وجوه أهل القرية مثل نسمة جذلى. الضجة التي نحتت أيقونة زجاجية في مخيلة القرية، وأشعلت مجامر البخور في خوالجهم. دعت بعض أهل القرية أن يقصوا أثر بقرة الملاك للحصول على رشح من بولها أو تكلس من براز السرجين. حيث يستخدم البول، لتوخي التبرك ولغسل أجساد النساء العاقرات في أوقات متفاوتة، طمعاً بالشفاء، والسرجين يجفف ويحرق في المواقد بعد أن يرمى فيها، كتل بيضاء من البخور، حيث تخلد أجساد النساء الغضة تتطوح في غمرات دفقات البخور، وتأخذ بعفوية، تتسلل الى حنايا تهاويم غضارة الأجساد، بعد أن تحتضن الثياب في وسط أهدابها رماد الموقد، وتبقى شبقية الأجساد ترتشف مويجات نفثات بخور الملاك الكامنة في إحتراق السرجين. وتغوي تنهدات البخور التي تربت بهيام على آسارير الجسد الذائب في الغواية. وبدورها تدب الأذهان تتبختر تتراقص على خيال بركة البخور، تحلم أن تفوز بثواب روح الملاك

***

تنتصب عيون القرية، تحملق بتوسل الى تخاطر بقرة الملاك في غبار الطرق، في لوثة ودهشة، مغطاة برداء خفيف يخفي دبرها، بعدما بدأت تتماثل من رسيس صراعها مع المرض. تظهر مع نيركز في معظم الأوقات في بواكير الصباح ما أن يحين وقت ذهابها مع القطعان الى المراعي والبرية الخضراء. كانت نيركز بفرحٍ طافح توثق خطواتها مع أقدام البقرة، وتأخذ بتسلق ظهرها، تتراقص حولها، تتعلق برقبتها، تهرول أمامها كما حملها الوديع. وعندما تشرع بقضم الأعشاب، كانت نيركز في نفس الوقت تلتقط أنساغ طرية وتأكلها. لهذه الآصرة الحميمة التي نشأت بينهما، أصبحت لمعظم أهل القرية، راية الهيكل التي تبعث الأنشراح، والهدوء الطري في نزواتهم. ومقصف متجول ينقد الغبطة لمجالس السمر، التي تنتشر في السفوح والسهول، في سدف الليالي.

***

برز خليط من الخرافات والتهاويل والرؤى في أذهان أهل القرية التي أخذت تنسج بدون شعور حول بقرة الملاك، بعد حادثة الهبوط المباركة، حيث ظهر بوضوح في سحنات الوجوه، وقارعات الدروب، مما تمكنت في التمادي بالسيطرة على تقاليدهم التي تكونت ببطئ من مدارج حياتهم، الى درجة التعصب والعناد، والشجار، فعليه ولد إعتقاد بأن من الجحد والجدف أن تنبز بكلمات نابية او وقحة تتناول فيها الروح الكريمة التي تغور في أعماق أحشاء بقرة الملاك. هذا الإعتقاد تماثل كأيقونة مقدسة في معظم بيوت القرية. وفي يوم الأثنين المقدس من كل إسبوع، تستلقي رائحة المباخر على فقاعات الهواء المتطايرة، التي تضج بها القرية، وتأخذ تشاكس الأنفاس. بحيث بات من الخطر، التهكم والسخرية منه. وفي حال شابت بعض الكلمات، نوع من السخرية على بقرة الملاك، سرعان ما تنشب مشادة ضاجة او أحياناً عراك محتدم.

***

بيدار الذي كان جندي في الدرك التركي، حيث طرد من الخدمة، بعد أن أتهم بسرقة السلاح وبيعه لمقاتلي الجبل. سجن لمدة سنة، وبعدها طرد دون أن يحظى براتب، رغم خدمته الطويلة. كان يقول دائماً، أن قلوب الأتراك مثل علبة الأمواس. نظم مع بعض من الأشخاص، رابطة أو مثلما كان يسميها طالب كتيبة، تتكون من الأشخاص الذين يقرون بالتجلي الناقع في جوانح البقرة. تقوم على رعاية وتنظيف البقرة وكسوتها وغسلها إن أقتضت الحاجة في كل صباح من يوم الإثنين، لأن الملاك تجلى لها في ذلك اليوم، مسوغ من أجل الحصول على البركة والعافية، أو ربما تجعل من حياتهم ليلة مقمرة في مديات سهول يانعة. فعليه أنكبوا بتشيد هيكل من الطين والحصران والحجر، ليكون مقراً لهم ومزار أيضاً من أجل أن يجتمعوا فيه للمشاورة وتوزيع الواجبات بينهم. أختار بيدار والعبيد أن يطلقوا على الملاك الذي ظهر في الهزيع الأول من ليل يوم الأثنين ملاك الليل. مكان الهيكل نصب حيث ظهر الملاك في ذلك اليوم، متسلقاً متن النهر. وما أن أكتمل بناء الهيكل الذي تعلو بابه مجموعة من قطع السيراميك ذات اللون الأخضر، وراية سوداء تزينها دائرة بيضاء، دلالة على لفظ القمر للملاك في تجاويف الليل. قرروا أن يختاروا شخص للملاك، ليكون قريباً الى جوار البقرة. الشرط في الأختيار أن يكون الشخص مقبول بطواعية من قبل بقرة الملاك، وفي عروقه سلافة عشبة ليالي البدر، وبالطبع هذا الشرط يتماهى مع نيركز دون غيرها، لهذا أختيرت أن تكون قرينة البقرة، كشخص الملاك.

***

ما كان من طالب الا أن غرز نصال تهكمه، في احداق حادثة هبوط الملاك، التي فاضت في الاماكن كالمطر، منذ الوهلة الأولى لأنه يدرك من دون شك ستأول الأمور الى الشحناء حيث كان في صغره يشاهد أمه تتباغض مع أبيه حول الفوارق العقائدية. أنكب بأصرار يمزق أوراق دفتر سخريته، جاهداً على دسها في زيت ظنونهم. تتعابث أوراقه مع قصص الخرافة التي شرعت تنتشر في مدارات القرية، تحرض فيهم الأنكار. وبصلابة الحجر ردم أفكاره بحيث لم يساوم قصص الخرافة التي فقأت العيون كدخان المواقد، بل نشأ ينكر، بكل ما أخذ يردده أهل القرية وبالذات العبيد، حول فكرة هبوط الملاك الى القرية، رغم أن القرية ما فتأت ترقد في مدافن العدم، وقاع حضيض الحياة، دون أن يبادر لها الأفق بسكب رحيقه على معاطن الفاقة التي تكاد أن تنخر تورق ربيع الحياة. ثابر بدقة في تناول عقائدهم الشعبية بتهكم ساخر، ومزاح فاجر، يروج عما يعتمل في دواخله، من أستخفاف وأستهزاء. في أغلب أحاديثه مع بيمان، يستمر، يلغط زاعقاً :
- ليس ثمة بارقة افتنان او جُذوة عبق، ممكن أن تستدرج الملاك لبقعة منسية ومغمورة كقريتنا التي لم تشهد على عمر تاريخها أن تجلى في دروبها مسؤول أو شخصية معروفة.
القرية نشبت في طينها الذي نادم الحزن في كنف الجبل من دون أن ترسم خارطة حدودها على الأرض. الحكاية بالنسبة الى طالب تبقى خرافة لا تملك من الحقيقة، سوى إنها كانت نادرة جميلة تستهوي الاشداق بحيث استحوذت على معظم مجالس القرية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي


.. تسجيل سابق للأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن يلقي فيه أبيات من




.. الفنانة غادة عبد الرازق العيدية وكحك العيد وحشونى وبحن لذكري


.. خلال مشهد من -نيللى وشريهان-.. ظهور خاص للفنانة هند صبرى واب




.. حزن على مواقع التواصل بعد رحيل الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحس