الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الآخر والموسيقى والجسد في المتخيل الإسلامي

هادي اركون

2015 / 7 / 21
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني




يجد المسلم صعوبات جمة في قبول معطيات العصر ،وفي التعايش مع المختلفين وفي التفاعل ،ايجابيا ، مع ايقاع الحياة الاجتماعية .يعيش المسلم ،توترا نفسيا وذهنيا مستمرا ،سواء في البلدان الإسلامية أو في المهاجر ،لرفضه قبول كثير من التفاصيل الاجتماعية ،الدالة على خصوبة الحياة وصعوبة حصرها في أطر ثقافية ضيقة أو إحاطتها بسياجات دوغمائية حائلة دون التفاعل والتواهب والتجاذب بين المختلفين .
ترجع جذور هذه الصعوبات ،جزئيا ، إلى التقبل الأول للإسلام في وسط مشبع بمعتقدات أو تصورات ثقافية مرسخة في وجدان ومتخيل عرب شبه الجزيرة العربية و يهود ومسيحيي غرب أسيا.
وقد اخترنا التركيز ،على مخاوف ثلاثة لما تحمله من دلالات وما تنطوي عليه من حقائق لا بد من استحضارها في زمان التدعوش .
الآخر والتذكير بالغربة :
من الملاحظ أن الإسلام ،لا يقبل المعتقدات والفلسفات الأخرى ، ولا يؤمن بالتعايش مع المختلفين .وليست الذمة ،في الحقيقة ، إلا مرحلة انتقالية ، يرجى منها إقناع الكتابيين بالانقياد واعتناق الإسلام .لقد برز الإسلام في فضاءات ثقافية يهودية ومسيحية راسخة ، ووجدت صعوبات كبيرة في إثبات الذات ثقافيا.لقد تمكن من التغلب السياسي على الآخرين ،منذ خلافة عمر ،إلا أنه وجد عنتا كبيرا في التغلب الثقافي على ثقافات عرفت حتى في فترات أسلمتها كيف تنفذ إليه وتؤثر في أجزاء غير يسيرة من تركيبته العقدية .( حضور الإسرائيليات والمسيحيات في الحديث والتفسير وعلم الكلام.)
يعيش المسلم كل اختلاف فكري أو فلسفي أو جمالي مع معتقده ،كتهديد عقدي ،يمسه في الصميم .وهذا ما يدفعه إلى التكتل ،من أجل المنافحة عن معتقده ، وتضييق الخناق على أصحاب الأفكار المخالفة له ، أو استعداء السلطات ضد حاملي تلك الأفكار مهما كانت متسامحة أو سلمية( التضييف على الفلاسفة وعلى البهائيين مثلا) .
فكل فكرة مخالفة ، تهديد وجودي ،لا يمكن السكوت عنه ؛ولذلك ينبرى المسلمون ،إلى خلق الجمعيات أو التكتل في مجموعات ،منفصلة عن المجتمعات ، تجنبا لمخاطر الاختلاط بأصحاب الأفكار المخالفة للفكر آو الأخلاق الإسلامية كما يحدث في المهاجر الأوروبية .
ولا عبرة هنا ، بالتسامح المعلن ، في برهات معينة ميزتها ضعف اللحمة الإسلامية كما في بعض فترات عصر الانحطاط أو الخضوع لضغط ثقافي أو حضاري لا سبيل إلى تجاوزه كما في الفترة الاستعمارية أو في بداية الهجرة إلى المهاجر الغربية.
يعيد حضور الآخر المسلم إلى وضعه الأول ،أي إلى وضع الباحث عن الشرعية في وسط تسيدت فيه المعتقدات اليهودية والمسيحية والثقافة الآرامية –السريانية .فما إن يحضر الآخر ، حتى يعود سؤال شرعية النظر الإسلامي إلى الواجهة.
كانت الفكرة الإسلامية إصلاحية- استصلاحية بالأساس (العودة إلى الإبراهيمية ) .وكان من الصعب على شعوب تشربت أفكارا تأسيسية ،أن تقبل أفكارا تأويلية ،تعيد ترتيب أوراق سابقة وفق مقتضيات قومية عربية وشخصية متعلقة بالنبي الجديد .لم يتم تجاوز هذا الوضع الفكري ،إلا بالسياسة والعمل الحربي .فالسياسة ،ليست عنصرا رئيسيا في تنظيم الحياة الإسلامية فقط ، بل هي عنصر حاسم في غلبة الفكرية الإسلامية نفسها .فلولا السياسة لما تمكن الإسلام ،من تجاوز وضعه الفكري الأولي ،في مجتمعات عرفت معتقدات تأسيسية لا يمكن تجاوزها ،في عرف الشعوب الشرقية إلا بأفكار تأسيسية بديلة .
إن حضور الآخر ،بمثابة إرجاع الإسلام إلى وضعية ما قبل السياسة أي إلى وضعية البحث عن الشرعية الفكرية وسط معتقدات مكرسة مؤسسيا منذ قرون .
ثمة غربة فكرية ،تؤسس الوعي الإسلامي ، وتتحكم في أفعاله واستراتيجيته ،المبنية على المجادلة والحجاج العقدي والهجوم الرمزي أو المادي على المخالفين ،العقديين أو الفكريين .فالمنافحة هي مداراة لوضع أصلي محكومة بمستتبعات الافتقار إلى أفكار تأسيسية وسط ثقافات وضعت اللبنات الأساسية للخطاب النبوي .
الموسيقى ومنع البحث الجمالي :
عاش الوسط الإسلامي دائما علاقة متوترة بالفن وبالأخص بالموسيقى ؛ ومن تجليات ذلك ،تحرج كثير من الفنانين قديما وحديثا ، من ممارسة الفن وانتهاء بعضهم إلى الاعتزال والانقطاع إلى الزهد أو إلى العبادة .فلئن أمكن التخلي عن بعض العادات ( لحم الخنزير وتقاليد الفروسية القديمة ) ،لوجود بدائل ،فإن التخلي عن الموسيقى ،لم يكن ممكنا ،رغم تلويح الدعاة والشيوخ بموسيقى القرآن كبديل فني .
تم التعامل مع الموسيقى ، في الدوائر الإسلامية ولا سيما المؤسسات الفقهية الرسمية ،كضرورة لا مناص منها ؛ولم يحملها هذا التعلق الشعبي القلق ،بالإيقاعات والألحان والطرب ،على إعادة النظر في وضعية الفنون ، وإعادة تمحيص النصوص المعتمدة في الحظر والتحريم .
ومن الضروري التأكيد على أن الإصلاحية الإسلامية لم تقدم ، معالجات عميقة في هذا الإطار ؛وحين ضعف حضورها الفكري والسياسي ، عاد خطاب التحريم ليحتل الساحة الإسلامية ،واضطر كثير من الفنانين إلى الاعتزال أو إلى الانخراط في سيرورة أسلمة الفنون (الأنشودة والالتزام بالمضامين العقدية ).
وقد تمكنت السلفية الصاعدة ،من استقطاب فنانين(شادية و منى عبد الغني وعبد الهادي بلخياط وفضل شاكر وسوزان عطية وياسمين الخيام ....... ) ،وإدراجهم في مساراتها الفكرية –السياسية ،باسم التوبة والعودة إلى الله.
وكما تذم السلفيات البحث الفكري والعلمي والتاريخي ، باسم اكتمال الحقيقة التداولية ،فإنها تذم البحث الجمالي ،باسم إعجاز البيان القرآني . وحين تنتفي الموسيقى ، لا تبقى إلا الأنشودة أو الترتيل (عبد الرحمن السديس وعبد الرحمن الحذيفي وماهر المعقيلي .... ) الخالي حتى من النفحات الموسيقية المعهودة في التجويد المصري (عبد الباسط عبد الصمد ومحمد رفعت وصديق المنشاوي ومحمود خليل الحصري ...... الخ).
يعيش المسلم العادي ،تمزقا نفسيا ناتجا عن محبته للموسيقى وإيمانه بكراهتها أو بتحريمها ؛ويزداد التخرج مع التقدم في العمر ،ومن الملاحظ ، أن كثيرا من المفتونين بالموسيقى في شبابهم ،ينقطعون عنها جزئيا أو كليا في كهولتهم ،لأسباب دينية معلنة أو غير معلنة.
ومن الملاحظ أن إعادة أسلمة الفنانين ،كانت من مهام الدعاة الإسلاميين منذ السبعينات.ومن اللافت للنظر ، تركيز عبد الحميد كشك ،على تسفيه أغاني أم كلثوم ،لما لتلك الأغاني من تأثير في الوجدان المصري آنذاك.وحيث إن الإصلاحية الإسلامية ، لم تقدم تأصيلات أو اجتهادات للفنون ،تمكنت السلفيات الصاعدة من استقطاب كثير من الفنانين ،وإحاطة الموسيقى بسياج الكراهة أو التحريم في الوجدان الجمعي .
ليست الموسيقى لهوا أو لغوا أو مقدمة للحرية الجنسية في المتخيل الإسلامي فقط ، بل هي منافسة للقرآن باعتباره نصا جامعا لكل الخصائص والجماليات. لقد جب القرآن كل الجماليات الممكنة في الذهنية الإسلامية .فكما جب الإسلام ما قبله ،فإن القرآن بوصفه نصا أدبيا بيانيا جماليا ، جب كل الجماليات ما تقدم منها وما تأخر .
وتنوسيت في معرض التحريم ،المزايا الاستشفائية للموسيقى ،المثبتة علميا ،والمبرهنة فلسفيا منذ قرون .
(قال أفلاطون :من حزن فليسمع الأصوات الحسنة ،فإن النفس إذا حزنت خمدت نارها ،فإذا سمعت ما يطربها ويسرها اشتعل منها ما خمدت وما زالت ملوك فارس تلهى المحزون بالسماع ،وتعلل به المريض ،وتشغله عن التفكير ،ومنهم أخذت العرب حتى قال ابن غيلة الشيباني :
وسماع مسمعة يعللنا حتى ننام تناوم العجم ) 1-
ورغم كل المحاذير ،لا يمكن الحظر التام للموسيقى حتى في أشذ البيئات سلفية وأرثوذكسية ؛وهذا ما يسبب توترا نفسيا كبيرا لكثير من المتمسكين بتمامية الشريعة.وكأن المكبوت الجمالي ،لا ينفك عن الإطلالة من سجف النسيان ، بين الفينة والفينة ،معلنا صعوبة اجتثاث هذا الجانب من الوجدان.
يضطر المسلم العادي ،إذن ،إلى البحث عن تسوية بين محبته للموسيقى والغناء والتجاوب مع خطاب التحريم أو إلى التأثم كلما استمتع إلى نغمة أو استهواه الطرب.
لا يمكن التوفيق في الحقيقة ، بين خطاب العبودية وخطاب الحرية ؛فالموسيقى ،بحث وتجاوز جماليان ،لآفاق الكائن ونشدان لممكن جمالي أعلى .ولذلك فهي بحث جمالي ، لا ينتهي مثل كل بحث عن الحقيقة .
(فالفنان الموسيقي مثلا يخلق لنفسه عالما خاصا من الأصوات المتآلفة ،عن طريق الآلات الموسيقية ،التي تصدر عنها أصوات لا وجود لمثلها في الطبيعة . ويتحرر بذلك من قيود الصوت الطبيعي ،الذي هو عادة خشن محدود ، يسير على وتيرة واحدة ، لكي يخلق لنفسه عالما كاملا من الأصوات المتآلفة ،ذات الإمكانات الهائلة ، ويتحرك في هذا العالم بحرية تامة يتجاوز فيها كل ما تقدمه إليه الطبيعة . ) 2-
فكما تحول النظرة السلبية إلى الآخر ، دون السعي إلى الاكتمال ،باعتبار الآخر جزءا من الذات ،فإن النظرة السلبية ، إلى الموسيقى تحول دون استقصاء الممكنات الجمالية والبحث عن سبل أكثر جمالية لتثوير الحس الجمالي وتعميق روابط الإنسان المسلم بالحقائق الجمالية .
الجسد والجنسانية :
يخضع الجسد الأنثوي لتقنينات وتحديدات صارمة ،في التشريعات الإسلامية ؛لا يقبل الجسد إلا إذا غيب ،وإذا ادمج ضمن جنسانية إنجابية مقننة تقنينا دقيقا .أما إن انفلت من تلك التحديدات ،فإنه يصير لا عنصر افتتان فقط ، بل عنصر فوضى واختلال .ليس الحجاب و النقاب غطاءين فحسب ، ،بل هو علامتان على تطويع الجسد للمقصد الفكري ،القاضي بتخصيص مكانة محددة للأنوثة داخل الفضاء الإسلامي .
إن ربط الأنوثة بالاختلال والفوضى ،من لوازم ميثات شرقية قديمة ؛وهي ميثات ناتجة عن خبرات وجودية وفكرية محدودة وقاصرة عن الإحاطة بحقائق ودقائق السلوك الإنساني.
فكلما برز الجسد الأنثوي ،وطالب بحقه في الحياة خارج الجنسانية الشرعية ، إلا واهتز الكيان الإسلامي ،واستعاد لا شعوريا وضعيته الأولى ،وضعية الغرابة الوجودية .فكما يمثل غير المسلم ، الآخر الخارجي ،فإن الأنثى ،تمثل آخر الذات ، ومن هنا خطورتها .وكما هناك ذمية ، مخصصة للكتابيين ،فإن ثمة ذمية أنثوية ،للنساء،اسمها القيمومة.
وهكذا اقترن الاختلال في المتخيل الإسلامي بالسفور أو بالتحرر الجنسي .والحال أن الحداثة كل لا يقبل التبعيض ،ولذلك فلا يمكن إبعاد الجنس والجسد عن النظرة الحداثية وعن المنجزات العلمية.يرتهن الجنس في المجتمع الحديث ،بالقانون من حيث تنظيم العلاقات وحفظ الحقوق ،وبالعلم من حيث الفهم والتطبيب وتطوير أو تثوير الممكنات .
وعليه ،فلا مجال لتقديس أو لتبخيس الجسد الأنثوي والنظر إليه استنادا إلى موروثات وميثات قديمة ،لا يمكن فهما إلا بالعودة إلى التاريخ والى الانثروبولوجيا ,
فكما أنار العلم كثير من عتمات الكون والطبيعة ،فإنه أنار كثير من عتمات الجسد الإنساني والسلوك الجنسي.فلا مجال إذن ، لاستثناء الجنس من النظرة العلمية ، ومن تقريراتها كما يعتقد المحافظون من كل النحل و الملل .
يمكن للمسلم أن يتقبل كل الاختلالات ،إلا تحرر الجسد الأنثوي والجنسانية الحرة ؛إذ ذاك يتأهب بكل قوة ،للاستنكار والاحتجاج أو ممارسة العنف الرمزي والمادي.
ومن الملاحظ أن تعميم الحجاب ومحاربة العلاقات الجنسية الحرة ،من أولويات كل الحركات الإسلامية.
إلا أن المفارقة تكمن فيما يلي : ففيما يخشى المسلم الجسد الأنثوي ، فإنه يؤثث متخيله بالجنس في العاجل والآجل على السواء.فداعش ،تعد بملك اليمين في الدنيا وبالحور العين في الآخرة .ولا تخلو حياة القياديين الإسلاميين من الفصائل الأخرى ، من التعدد ومن العلاقات المشرعنة ( الزواج العرفي وزواج المسيار وزواج الفرند)،أي من التمتع الحسي بالأنوثة المرذولة في المتخيل والذهنية .
الإحالات :
-1[الابشبهي –المستطرف في كل فن مستظرف ،اعتنى به : إبراهيم امين محمد ، المكتبة التوفيقية ، القاهرة .ص.437]
-2 [فؤاد زكريا ،آفاق الفلسفة ، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر ،الإسكندرية ، مصر ،الطبعة الأولى 2007،ص.382]

هادي اركون








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مسيحيو السودان.. فصول من انتهاكات الحرب المنسية


.. الخلود بين الدين والعلم




.. شاهد: طائفة السامريين اليهودية تقيم شعائر عيد الفصح على جبل


.. الاحتجاجات الأميركية على حرب غزة تثير -انقسامات وتساؤلات- بي




.. - الطلاب يحاصرونني ويهددونني-..أميركية من أصول يهودية تتصل ب