الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وكان الشيطان معي .. بدايتي في البحث عن الذات

الشربيني عاشور

2005 / 10 / 16
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


ماتت أختي طفلة في الصف السادس الابتدائي .. كنت آنذاك قد نجحت في الشهادة الإعدادية واستعد للالتحاق بالمدرسة الثانوية العامة .. خرجت أختي لشراء الجريدة وأثناء مرورها بجوار سور لمصنع الزيوت والصابون انهار السور عليها ومزقها تمزيقا .. وضرب أهل الشارع على بيتنا حصارا أبي وأمي رحمهما الله وأعمامي حتى لا نذهب إلى موقع الحادثة ونشاهد المنظر المرعب الذي صارت عليه هذه الطفلة .


ولأنني كنت صغيرا فقد استطعت الإفلات من ذلك الحصار وعدوت إلى مكان الحادث حيث قدر لي أن أرى أختي وقد خرج مخها من رأسها كما خرجت عينها اليسرى من مكانها وكان ذارعها الأيسر مكسورا وقد وضعوها على الأرض انتظارا لقدوم الإسعاف .. جثوت عليها مذهولا .. كانت تحدق في بعينها اليمنى دون ن تصرخ ولم يكن يبدو عليها الألم سوى أنها قالت توجعا عندما جاء رجال الإسعاف لحملها : ذراعي .. ذراعي .


لم أنس هذا المشهد طيلة حياتي .. وماتت أختي في المستشفى وأقام والدي سرادقا للعزاء وفي الليل غادر الجميع إلى منازلهم وذهبت والدتي لتنام مع شقيقاتي الأخريات أما أنا فذهبت للنوم مع والدي . المهم أنني لم أنم كان لدي سؤال يؤرقني .. وعندما التفت وجدت أبي جالسا يدخن .. قال لي : حاول أن تنام . قلت له لدي سؤال : مش إحنا بنقول ( بسم الله الرحمن الرحيم ) يعني ربنا رحمن رحيم .
قال نعم ..
قلت إذا كان الله رحمانا رحيما فلماذا قتل أختي بهذه الطريقة البشعة رغم أنها طفلة لم ترتكب ذنبا ولم تفعل ما يوجب قتلها بهذه الطريقة .

وعرف أبي أنني ذهبت لمكان الحادث ووصفت له كيف كان وضعها . فأخذ يبكي لكنه قال لي : أنت رأيتها بهذه الطريقة ومع ذلك لم تكن تتألم . قلت : نعم . قال : إن البشاعة لنا في الظاهر أما هي فان رحمة الله شملتها بأن رفع عنها الألم . كأنها لا تشعر بشيء وهذا من الرحمة . مثلما كان سيدنا إبراهيم والنار محيطة به والناس ترى ذلك مهولا . لكن إبراهيم لا يشعر بذلك لأن الله الرحمن الرحيم جعلها بردا وسلاما عليه

هذا تحليل أبي رحمه الله رغم أنه كان رجلا لا يقرأ الكتب وانما يستمع فقط للقرآن الكريم ويعمل عقله فيه .



المهم أن هذه الحادثة فتحت عقلي البكر آنذاك على التساؤل ووجدتني أغيب عن أصحابي والتزم البيت في حالة نفسية مزرية خاصة أن أختي كانت تليني في الترتيب العائلي . وعندما اشتدت حالة عزلتي صار أبي مهموما بي وبما يحدث لي من عزلة وانكفاء وقراءة في الكتب الدينية التي كنت أجدها عند جدي .



وكان أبي يصلي في مسجد الجمعية الشريعة والناس تعرفه هناك ولما كان مهموما بما يعتريني من تغيير . اقترب من إحدى الجماعات التي كانت تتحلق بالمسجد وقص على نفر منهم قصتي وأعرب عن خوفه من ذهاب عقلي أو أن أمرض نفسيا فطلبوا منه أن يأتوا إلى البيت لزيارتي .

لم يخبرني أبي عن شيء من ذلك لكنني فوجئت ذات يوم بضيوف يطرقون بابنا وكانوا أكثر من عشرة أفراد كلهم بجلابيب بيضاء ولحى إلا واحد فقط . وكان حديث لا أذكره الآن غير أنهم اصطحبوني معهم إلى المسجد وشيئا فشيئا صرت واحدا منهم . أطلقوا عليه البكاء من كثرة بكائي في الصلاة وفي قراءة القرآن .

ودخلت المدرسة الثانوية ملتحيا ولم أعرف غير غرفتي وكتبي ــ وأغلبها كتب في الدين ــ والمسجد حيث الجماعة والصلاة وحلقات الذكر والتلاوة .


أشياء كثيرة حدثت لكني لم أفقد عقلي كما كانوا يعتقدون .. كانت الأسئلة تنهمر علي في كل ما أقرأ وكانت روحي تزداد شفافية . كنت أشعر بحب الله .. أحبه جدا .. ولكني لاحظت أن الله لا يذكر في الغالبية العظمى من جلسات الجماعة كانت كل أحاديثهم النبي قال .. النبي فعل .. النبي سوى .. مع ما يرادف ذلك من الصلاة والتسليم عليه .

ولأنني كنت أصغرهم سنا والطالب الوحيد بينهم أما هم فكانوا ضباطا محالين إلى التقاعد ومهندسين زراعيين أو موظفين في السكك الحديدية فلم أكن أجرؤ على الاعتراض .. إلى أن تشجعت يوما فقلت لهم : أليس الله هو الأحق بالذكر .. لماذا لا تقول إلا النبي قال والنبي فعل .. رغم أن النبي لا ينطق عن الهوى أي أن ما قاله هو كلام الله ولم يأت بشيء من عنده . إنني أراكم لا تذكرون الله إلا قليلا . وتقتربون من تأليه النبي أو إحلاله محل الله . وكان جوابهم أن النبي حبيب الله ومن أحبه فقد أحب الله .


ولم يدخل الكلام عقلي .. كنت أشعر بأن ربي هو كل شيء ، وأن حبي يجب أن يتوجه إليه أولا .. ثم لما يحبه من البشر والأفعال . واحتفظت بعقلي وأفكاري وكنت أدونها لأنني في هذه الفترة نشأت لدي الرغبة في الكتابة . ولم أكن أفعل شيئا سوى القراءة والكتابة والصلاة والتساؤل ثم التساؤل ومحاولة الوصول إلى إجابات عقلية تستند للمنقول مما أقرأ .


ودخلت معهم الاعتكاف في المسجد في العشرة الأواخر من رمضان . وهنا حدثت القطيعة التي لم تنته .



في الاعتكاف كلفوني بإعداد الفول للإفطار وغسل الأواني بعد أن ننتهي . كل واحد كانت لديه مهمة وهذه كانت مهمتي . وذات يوم جاءني أميرهم وكان يحبني ويقربني منه إذا جلست في الحلقة بعيدا عنه ناداني وأجلسني عن يمينه . وقال لي : عندما ينضج الفول نادني عليَ كي أقول لك أن تضع الصلصة . وذهب .

بينما اشتغل عقلي . أنادي عليه لكي يقول لي ضع الصلصة على الفول !! لماذا لا أضعها أنا مباشرة عندما ينضج الفول . ولأنني لا أحترم غير عقلي وما يمليه عليًَ لم أنده عليه ووضعت الصلصة بنفسي . وكانت الكارثة . إذ سألني بعد أن انتهى كل شيء .. هل نضج الفول ؟ قلت نعم ووضعت عليه الصلصة . فصرخ في وجهي ألم أقل لك .. ألم .. ألم .. وهنا غضبت فأخرجت ربع جنيه من جيبي والقيته إليه وقلت له . احضر فولا آخر وكلف من ينادي عليك لكي تقول له أن يضع الصلصة !!


كنت في هذه الأثناء أقول في الليل لتلاوة القرآن وكنت مشغولا بفكرة الموت ولا أجد في نفسي أي رهبة منه .. لدرجة أنني كنت أحيانا أنام في الخشبة ( النعش ) التي يحملون فيها الموتى والتي يضعونها في مكان بجانب ( الميضة ) حيث يتوضأ الناس .


وعندما حدث ما حدث مع الأمير وجدت الجماعة وقد بدأت بالإعراض عني إلا نفر منهم كان يلومني برفق ويشرح لي أنه إنما أراد بذلك أن يعودني على الطاعة التي هي أساس في الجماعة . وبعد يومين من ذلك الحدث . وقفت أصلي وسط المسجد كانت الساعة تقترب من الثانية بعد منتصف الليل والجميع نيام والمسجد مغلق علينا . وكنت عندما أفعل ذلك أغيب تماما ولا أدري إلا بما يقولونه ليَ من أن بكائي أيقظهم . وفعلا استيقظ الأمير وبعد أن أنهيت صلاتي قبلني وقال لي إن بكائي وترتيلي هزه . وطلب مني ثانية أن أكون إلى جواره في الصلاة وفي حلقة التلاوة .


ووقفت إلى جواره في صلاة الفجر . وعند الدعاء رفعت يدي وعيني تضرعا .. فإذا بالأمير يلكزني بكوعه في جنبي ونحن في الصلاة مرة ومرتين ولم أفهم . وبعد أن أنهينا الصلاة وختمناها قال لي : لا ترفع يديك أو عينيك أثناء الدعاء ؟ قلت لماذا ؟ قال : حتى لا يرسل الله إليك ملكين برمحين فيعميانك !! قلت : ملكين برمحين يعمياني وأنا أصلي وأتضرع إلى الله .. من قال ذلك ؟ قال : هذا ليس كلامي وانما هو كلام النبي . قلت : لا أصدق أن النبي يقول كلاما مثل ذلك ! فتركني .


وفي حلقة التلاوة فوجئت به يقول للجماعة .. ما حدث بيني وبينه في الصلاة .. قال وهذا دليلي وأخرج كتابا لا اذكره الآن . وقال لي اقرأ . وقرأت الحديث . فعلا موجود في الكتاب . ومنسوب إلى النبي . وعندها قال لي : ماذا تقول إذن ؟ قلت : هذا كلام لا يوافق عقلي . أن اصلي لربي وأتضرع إليه رافعا كفي وبصري إلى السماء فيعميني . قال : لا يوافق عقلك حتى وان كان قائله محمد بن عبد الله . قلت : حتى وان كان قائله محمد بن عبد الله . فصرخ في الجماعة قائلا : اتركوه فان الشيطان معه . وهنا صارت جلبة وضجيج واستنكار من الجميع . وتأييد لأن الشيطان معي فما كان مني إلا أن رددت ساخرا : كيف يكون الشيطان معي .. وبنص كتبكم أن الشياطين لا تدخل المساجد .


وغادرتهم إلى غير رجعة .. وفشلت كل محاولاتهم في إرجاعي فقد كان هذا الموقف داعيا للاعتداد بفكري وكان خروجي منهم داعيا آخر للانفتاح على الفلسفة والتاريخ والأدب وكل الكتب التي تغذي عقلي ولا تحصرني في نطاقهم الضيق .

لكنهم لم يسكتوا عني فقد شوهوا صورتي حتى في أجيال متعاقبة ممن يردون عليهم : كانوا يستشهدون بورعي وأخلاقي ثم يعقبون بكيفية تمكن الشيطان مني . لدرجة أن أحدهم إذا قابلني في الجانب الأيمن من الطريق كان يهرول إلى الجانب الأيسر كناية عن أنه صادف شيطانا !


قصتي معهم لم تنته ففي كلية الآداب قسم اللغة العربية .. كانت لي حكاية أخرى أبسطها أن وقف أحدهم في المدرج عام 1981 يهتف بأعلى صوته للدكتور عبد السلام الحريري أستاذ التاريخ الإسلامي : يا دكتور بيننا في هذا المدرج شخص كافر من اتباع طه حسين ومرجليوث ينبغي أن نجتمع عليه نحن جماعة المسلمين وأن نقتله ! ولم يكن يقصد إلا أنا !! وهو موضوع مقال آخر .

المهم كان اعتمادي على عقلي فيما أقرأه سببا كبيرا في معاناتي كما أسلفت مع هذه الجماعة التي دخلتها قضاء وقدرا بل في حياتي جميعا والى الآن .

كنت أؤمن بأن أي دين في العالم هو ما يوافق العقل ويطمئن إليه القلب . مع قناعتي بالصلة الوثيقة بين العقل كأداة لإنتاج المعرفة من جهة وتلقيها من جهة أخرى وبين القلب الذي يتحرك من خلال إشارات العقل فيطمئن و يهنأ أو يحار ويقلق .

والعقل في نظري هو السيد لأن العاطفة نفسها تنشأ وتتأثر بما يعطيه إليها العقل من إشارات ، فارتكاب الإنسان للخطأ وإدراكه للعاقبة مسألة عقلية تتحول إلي شعور بالقلق أو الخوف عقب إدراك العقل لخطورتها .

ولذلك أعملت عقلي في كل ما قرأته و رغم ما كانوا يقولونه من أن العقل قاصر عن إدراك كل شيء إلا أنني كنت مقتنعا ومازالت بأن العقل الذي أودعه الله تعالى في الإنسان وجعله أمانة رفضت الجبال أن تحملها هو الوسيلة الوحيدة التي اختارها الله تعالى لكي يتخاطب من خلالها مع بني آدم بل وكي يستطيع الإنسان أن يتواصل من خلالها مع خالقه هذا العقل قادر على تفسير وتوصيف كل شيء حتى عندما يقف عاجزا فهو يدرك عجزه وإدراك العجز إدراك أي أنه معرفة أيضا !

لكن هذا العقل يحتاج إلى تزكية أن يزكي الإنسان نفسه والتزكية نفسها فكرة عقلية ومنهج يختاره الإنسان في التعامل مع شهواته وغرائزه واستنزافه الاجتماعي ليرتقي بذاته حتى تنفتح أمامه أفاق المعرفة والتساؤل وكنت أجد أن القرآن الكريم يلح على استخدام العقل من خلال الحث على التفكر والتأمل والتبصر بدءا من النفس وانطلاقا إلي الكون الفسيح من حولنا .

وكنت أنظر إلي الآية القرآنية ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) من خلال تفسير واحد وهو أن يعبدون تعني يعرفون وبالتالي فان المعرفة الحقة هي أساس العبادة الحقة . وفي نظري أنه لا قيمة لعبادة لا تقوم على المعرفة العقلية لأن المعرفة العقلية وحدها تعني الاقتناع الذي يؤدي بدوره إلى القناعة بما يصل إليه الإنسان من فكر وما يمارسه من شعائر

وهنا يمكن اختصار الفكرة في تلك العبارة الشهيرة التي صاغها عباس محمود العقاد وجعلها ( التفكير فريضة إسلامية ) . نعم هو فريضة منصوص عليها بحث القرآن الدائم على التفكر والتأمل والبصر والنظر وكلها آليات للعقل وللمعرفة .

وبالتالي فان العجز عن استخدام العقل مسئولية العاجز أولا أنه لم يزك نفسه ومسئولية الظروف البيئية المحيطة ( اجتماعية واقتصادية وسياسية ) التي لا تتيح له فرص التزكية ووجود هذا العاجز ليس فيه أي أدانه للعقل وهنا تحضرني تلك العبارة الفلسفية ( العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس )

لذلك أعملت عقلي مبكرا .. ومن شواهد هذا الإعمال أنني كنت أسمع البعض يردد مقولة منسوبة للنبي ( بارك الله في الرجل المشعر ولا بورك في المرأة المشعرة ) فكنت أتساءل وما ذنب المرأة المشعرة هل خلقت لنفسها الشعر في جسدها .. انه الله الذي خلقها هكذا فما ذنبها .. إنه لو أتيح لها أن تختار خلقتها لاختارت أحسن ما يكون الخلق .. إن لعنتها على هذا النحو لا تستقيم والعدل الإلهي الذي لا شك فيه فالله العادل لا ينتج إلا عدلا .. ثم كيف يقول النبي مثل هذه الأحاديث إذا كنت أنا هذا الصبي أستطيع تفنيدها فمن الأولى أن النبي لا يقولها .

في هذه الأثناء لم أكن أعرف التلفيق والتزوير والانتحال الذي تعرضت له أقوال النبي على مر العصور بدوافع سياسية أو اجتماعية كما سيتبين لي بعد ذلك من معرفتي بكيفية تدوين الأحاديث والخلفيات السياسية التي وقفت وراء الفرق الإسلامية عقب مقتل الإمام علي . لكنها كانت بداية رحلتي في البحث عن الذات وفي العقيدة والحياة التي ستمتد إلى أن يشاء الله .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تأييد حكم حبس راشد الغنوشي زعيم الإخوان في تونس 3 سنوات


.. محل نقاش | محطات مهمة في حياة شيخ الإسلام ابن تيمية.. تعرف ع




.. مقتل مسؤول الجماعية الإسلامية شرحبيل السيد في غارة إسرائيلية


.. دار الإفتاء الليبية يصدر فتوى -للجهاد ضد فاغنر- في ليبيا




.. 161-Al-Baqarah