الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ديكارت يشك في الوجود

حسام المنفي

2015 / 8 / 21
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


لقد ظل المنطق الأرسطي الذي يعتمد على القياس سائدا ومتسيدا في أوروبا وعند الفلاسفة العرب طوال العصر الوسيط ، حتى جاء الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (1596 - 1650) في مطلع العصر الحديث ليثور ويعترض على المنهج الأرسطي القديم الذي يعتمد على القياس كما ذكرنا سابقا لأن القياس الذي يعتمد على استخلاص النتيجة من قضايا مسلمة من قبل لا يقدم أية إضافة جديدة في مجال المعرفة إلا أنه يصلح في شرح وتحليل وتمحيص ما نعرف من الأمور لا أن نتعلم تلك الأمور ولا أنجد حقائق جديدة لم نكن نعرفها.
والمنهج الجديد الذي وضعه ديكارت يستلهم المناهج التي تستعملها الرياضيات، وهو يعتمد على عمليتين ذهنيتين على الأصالة : "الحدس" "والإستنباط" والحدس هو الإدراك الذهني المباشر لقيقة مستكفيه بذاتها وتفرض ذاتها إطلاقا : مثال ذلك أني كائن مفكر ، وأن المثلث ذو ثلاثة أضلاع ، أو أن الكل أكبر من الجزء ، أو أن العدد 3 أصغر من العدد 5 . أما الإستنباط فهو الحركة المتصلة غير المنقطعة ، حركة فكر يدرك كل شيء ببداهة . وهو يدرك الرابطة الضرورية التي تربط بين حقيقتين وجدناهما بالحدس(1) . مثال ذلك أن 2+2 =4 ، أو عندما نستنبط أن قطتتنا الصغيرة داخل غرفة من الغرف دون أن نراها داخل هذه الغرفة فعليا لأن صوت موائها مثلا صادرا من نفس اتجاه الغرفة ، أو حينما أراك متجها إلى مكتب العمل ففي هذه اللحظة سأستنبط من سلوكك هذا أنك تبحث عن عمل ما(2) .
ولقد وضع ديكارت أربع قواعد لمنهجه الجديد ضمن كتابه مقال في المنهج والذي يهمنا في هذا المقال هي القاعدة الأولى يقول : أن لا أتقبل شيئا قط على أنه حق ما لم أتبين بالبداهة أنه كذلك بمعنى أن أتجنب التعجل والسبق إلى الحكم ، وأن لا أدخل في أحكامي إلا ما يعرض لذهني بقدر من الوضوح والتميز لا يدع لي سببا لوضعه موضع شك(3) . معنى هذا أنني لابد بصفتي كائن مفكر وأتميز عن باقي المخلوقات بأنني أمتلك عقلا يدرك ويفكر ويستدل ويستنتج ... إلخ أن لا أقبل أية فكرة مهما بلغة من القداسة مبلغا إلا إذا كانت هذه الفكرة واضحة وبديهية ولا تتعارض مع منطق العقل أو منهج العلم ، ولا تتعارض أيضا مع القيم الأخلاقية والجمالية والإنسانيةالتي نسترشد بها في حياتنا . وكما قال د. عثمان أمين في مقدمة كتاب مقال عن المنهج معلقا على الفقرة السابقة : منذ اليوم يصبح العقل وحده صاحب السلطان ، وهذا هو الرفض الصريح لسلطة القدماء ، وهو الوداع الأخير للعصر الوسيط ، وهو الإعلان على رؤوس الأشهاد لحقوق الفكر الحر الجريء(4) .
ولم يكتفي ديكارت بما خوله للعقل من سلطة شبه مطلقة في مجال المعرفة بل ذهب أبعد من ذلك بكثير ، حيث استنبط ديكارت وجوده هو نفسه ووجود العالم الخارجي من الفكر ذاته ، أي أن الوجود الخارجي يعتمد على الفكر اعتمادا كليا ولولا الفكر ما كان الوجود فالفكر عند ديكارت يسبق الوجود ومتقدما عليه وأشرف منه منزلة ، بل إن ديكارت أخرج من شكه هذا في الوجود أنه كائن مفكر أي إذا كنا نشك في حواسنا التي تمدنا بكل معارفنا عن العالم الخارجي فاليقين الوحيد الذي أستطيع من خلاله إثبات وجودي هو أنني كائن مفكر فعملية الفكر هذه أستطيع أن أدركها إدراكا مباشرا عن طريق الحدس ، وعلى حد قول د. عثمان أمين أن ديكارت قد أخرج من الشك نفسه هذا اليقين : أنا قائم (أو موجود) باعتباري كائنا مفكرا .أنظر ماذا قال وهو يمارس شكه في وجود العالم الخارجي "إننا نعرفه بحواسنا والحواس عرضة للخطأ ، والإحساس الذي لدينا في اليقظة يشبه الحلم الذي يكون لنا في النوم(5) " ويستطرد قغائلا " وسرعان ما انتبهت بعد ذلك إلى أنني حينما أردت أن أفكر في أن كل شيء زائف فلابد بالضرورة أن أكون ، أنا الذي أفكر ، ولما انتبهت إلى هذه الحقيقة "أفكر" فأنا إن موجود ،هي من المتانة والوثوق بحيث أن أشد افتراضات الشكاك لا تقوى على تزعزعها ، حكمت أنني أستطيع مطمئنا أن أتقبلها على المبدأ الأول للفلسفة التي كنت أطلبها(6) .
==========================================
(1) رينيه ديكارت "عن المنهج العلمي ص17" تقديم د. عثمان أمين .
(2) أكثر الأمثلة المذكورة في المقال نحن الذين سقناها لتبسيط الفكرة قدر المستطاع، فإن كان بها خلل أو عيب ما فنحن وحدنا المسؤلون عنه .
(3) رينيه ديكارت "عن المنهج العلمي ص18" تقديم د. عثمان أمين .
(4) نفس المرجع .
(5) المرجع نفسه ص23 .
(6) نفس المرجع .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نتنياهو يقول إنه يرغب في إبرام صفقة بغزة -بأي ثمن-.. ما يقصد


.. أردوغان: أحيي نساء غزة اللواتي يسطرن ملحمة عظيمة من التضحية




.. مشاهد جديدة توثق قصفا إسرائيليا على طهران


.. ما أسباب ترحيل طهران لمئات الآلاف الأفغان إلى بلادهم؟




.. جهاز مكافحة الإرهاب في إقليم كردستان: إسقاط مسيّرة مفخخة قرب