الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفيزياء الحديثة وتجديد الخطاب الديني

مهدي بندق

2015 / 8 / 22
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع



يتصور البعض أن العلم الحديث ليس له أن يبشر بنتائج تتجاوز فكر أرسطو – على المستوى الفلسفيّ – من حيث تأكيد المعلم الأول على رسوخ مبدأ السببية ، بما يعني أن كل أفعال البشر وغيرهم من المخلوقات خاضعة لجبرية مطلقةAbsolute Determination وبما يعني أيضاً قدم المادة واستغراقها، وآية ذلك - بحسب قول هذا البعض - أن البيولوجيا والفسيولوجيا المعاصرتين تعتبران الوعي Consciousnessوظيفة من وظائف المخ ، وهو تصور يعد تحديثاً Modernizing لما بيّنه أبيقور من أن ثنائية المادة / الروح لا يمكن إثباتها تجريبيا ً بالدليل " المادي " وهو قول صحيح وإن قاد أبيقور بعد ذلك إلى باطل حين مضي إلى إنكار الروح ، فالذين يطلبون دليلا ً ماديا ً على وجود شئ غير مادي إنما يمارسون نوعا ً من العنت والمصادرة على المطلوب أي تحصيل حاصل .
ومع ذلك ، وبعيدا ً عن أصحاب الفلسفات المادية الخالية من الروح أمثال أرسطو وأبيقور وجون لوك الزاعمين أن ما قالوه هو الكلمة النهائية في الموضوع ؛ فإن العلم التجريبي لم يتوقف لحظة عن البحث في طبيعة الكون الذي نعيش فيه ، بما في ذلك هذا الكيان الباحث نفسه والمسمى " العقل " . فكانت أهم النتائج البحثية ذات الاعتبار الإقرار بأن الكون وإن صُنع من خامة واحدة إلا أنه لا يمكن اختزاله إلى مادة Matter خالصة أو إلى عقل Reason خالص . فهذه الخامة لها طبيعتان : مادية صلدة ، وروحية غير ملموسة . وتكاد الفيزياء الحديثة أن تلمح إلى هذا المعنى باعترافها بالطبيعة المزدوجة لظاهرة الضوء كما سبق وأشرتُ . وحين يبرهن علم النيرولوجيا على أن انقداح الضوء على خلايانا العصبوية الحاملة لطول الموجة هو ما يترجم في المخ إلى صورة للشئ الموجود بالخارج ؛ فإنه – أعني علم النيرولوجيا – ليعجز عن تفسير الأثر النفسي والوجداني لهذه المعالجة العصبوية المخية، وإلا فليقل لنا من أين تأتي إذن مشاعر البهجة أو الدهشة أو الحزن ؟
هنا نرى أن جون سيريل الذي هو أكثر فلاسفة العلم تمسكاً بنظرية الخامة الواحدة ، يقف مبهوتاً أمام وجود الفجوة Chasm بين ما هو مادي صرف وما هو وجداني ، حتى أنه أعلن رفضه للقول بأن الشعور ليس أكثر من ظاهرة مصاحبة للمادة . وهكذا فإن سيريل الذي ألقي الضوء على المشكلة ولم يجد حلا ً نهائيا لها ، قد أبقى الباب مفتوحا ً على مصراعيه لمزيد من البحث والاستقصاء ، ليس أمام علماء البيولوجي والفسيولوجي والنيرولوجي فحسب ، بل ولفلاسفة الجمال وربما أيضا ً للقديسين والمتصوفة والشعراء .
في هذا الاتجاه يدفع العالم الفيزيائي ورئيس " Queens Collage " بول كنجهورن مؤكداً أننا شخصيات " مستديمة " Permanenteتملك نفوسا روحية هي التي تؤدي أدوار التواصل بيننا وبين الآخرين ، ومحال أن نكون مجرد وسائل مادية لإطلاق الأحاديث ، كما لو كنا أجهزة حواسيب متطورة بُرمجت لتجيب على الأسئلة ! ولهذا فكنجهورن يلقي بالقفاز متحديا ً :
فمن إذن المتحدث ؟!
وأنا أوافقه على ما طرحه بهذه الصيغة الاستنكارية ، فنحن لسنا مجرد حواسب أو أبواق ، بل كائنات بشرية تملك حرية أن تتحدث أو تصمت . ولكنني أمضي لما هو أبعد من سؤاله ، الذي قد يُفهم منه أن تكون " الأنا " إجابته الناجزة ، أعود لأسأل عمن يكون المتحدث الحقيقي ؟
إننا نرى على شاشة التليفزيون مثلا ً – بطريق البث المباشر – رئيس الدولة يوجه لنا خطاباً هاماً . ونحن نسلّم بأنه تحدث إلينا فعلا ً ، وفي الواقع لقد تحدثت إلينا صورته ، أما هو بذاته فموجود خارج الشاشة . هكذا أنا حين أحدثك .. صورة تكلم صورة . وليس في الأمر خداع من أي نوع ، بل حقيقة وان كانت نسبية ، فأنا صورة حقيقية لأصل خارج المشهد الفعلي ، ولو كنت أنا أصلا لذاتي لكنت خالقا ً لنفسي ، وهذا باطل واضح .
بهذا الإدراك ، ومستعيرا ً ابن عربي أقول : إن المتحدث على الأصالة هو الخالق ، ونحن - صور وجوده - نتحدث بحرية هي ملك لنا بحسبانها منحة من خالق كلي القدرة [ ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين ] ولأن هذا الخالق حر حرية مطلقة فلقد صار منطقيا ً أن تكون لمخلوقاته (= صُوَرِه ) نفس القدرة على التصرف بحرية وإن كانت حرية نسبية جراء حلولها في أبدان ، أبدان هي بلا ريب محكومة بقانون السببية ، القانون الذي يطبق على العالم المادي كله بما فيه أجهزة البدن بدء من عضلة القلب وانتهاء بالمخ مرورا ً بالجهاز العصبي والعضلات والأعضاء الحيوية و....الخ
فماذا عن الجانب المقابل من الفجوة ؟ ماذا عن الوعي ؟
إن علوم البيولوجيا والفسيولوجيا والنيرولوجيا لتقف جميعا عاجزة عن تحديد مصدره ، ذلك أن الوعي هو السر الذي يتأبى على البدن أن يفض مغاليقه ، السر الذي تتعطل السببية إزاءه ، فهو فضاء الحرية ، والسبيل الأوحد إلى المعرفة الحقة . أين مكانه ؟ إنه بلا مكان وأيضا ً بلا زمان ، فالكون الذي نعيش فيه ذو طبيعة مزدوجة : الأولي مكانية / زمانية ، أما الثانية فتعلو على التحدد حيث عالم الأزل Immemorial الذي لا يطاله الفناء كما يقول المتصوفة . ولأن الطبيعتين مرتبطتان ارتباطا ً وثيقا ً فلقد نرى البدن يتوق إلي الخلود مثل صاحبه الوعي ، وله الحق في ذلك ( بحكم الغيرة والجيرة ) فيطمح الناس إلى البقاء بأجسامهم بعد الموت .. فهل ثمة إمكانية لتحقيق المراد ؟
ليس من إمكانية لتحقيق هذا المطلب " الحيويّ " غير الإيمان بإله رحيم . وهو ما يقتضي انتهاج منهج إيماني كليّ لا تعكر عليه أسئلة من قبيل : أي الأديان أولى بالإتباع أو ما هو الدين الأصح ...الخ ، ذلك أنه قد صار معلوماً في ظل الديمقراطية المحاذية للنسبية – فلسفة العصر – أن الثقافة المحلية التي ينشأ عليها المرء وإن كانت تكفيه وترضيه إلا أنها غير مخولة في أن تميز نفسها إزاء ثقافة الآخرين أو أن تُبدي العداء تجاه المخالفين في الدين والعقيدة ( بجانب الجنس واللغة ... الخ ) من حيث برهنت العلوم الاجتماعية على أنه لا يوجد في مجال العقائد معيار موضوعي واحد يمكن اعتباره " المرجعية " ( بألف ولام العهد ) كما هو الحال في ميدان العلم .
أما من جانب المنهج العلمي التجريبي فإن الباحثين لن يجدوا برهاناً " علمياً " على وجود إله ولكن من ناحية أخرى – وهي منهجية أيضاً - فإن الباحث " العلمي " لن يعثر أبداً على برهان ينفي وجود الإله ، حيث تظل قضية وجود الإله قائمة في ساحة الفرض المنتظر الإثبات .
هكذا يبقى الإيمان مسألة ذاتية خالصة ، والذاتية هنا لا سبيل إلى نكرانها إلا بإنكار الحرية الإنسانية نفسها . وقد عبر عن هذه الحقيقة القرآنُ بقوله : من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر . فنفهم أن المقصود بالإيمان هنا : العقيدة أياً كان اسمها ما دامت تشير إلى ما هو أبعد من " الأنا " المحدودة بالزمان والمكان والبدن ، وهو المعنى الذي عاش به طيلة حياته مؤسسُ طريقة المولوية مولانا الشيخ جلال الدين الرومي من تسامح كامل مع النصارى واليهود حتى أنه حين مات طفق هؤلاء وأولئك يقرؤون على روحه أسفاراً من التوراة والإنجيل ! وهو نفس المعنى الذي عبر عنه ابن عربي في شعر له يقول :
قد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة ٍ فمرعى لغزلان وديــــــــرٌ لرهبانِ
وبيتٌ لأوثانٍ وكعبة طائـــــــــــــفٍ وألواحُ توراة ومصحــــــــــفُ قرآنِ
أدين بدين الحب أنّى توجهـتْ ركائبُه فالحب دينــــــــــي وإيمـاني
وانطلاقاً من هذا الموقف السمح فأنت لا يمكنك لوم اليهود لتحوصلهم حول " المسيا " أي المسيح المنتظر ( وهو غير يسوع النصراني ) الذي سيحقق لهم الخلاص من المآسي والشرور ، حتى أنهم اعتبروا ما حاق بهم في المحرقة الكبرى ( الهولوكست ) على يد النازيين في الحرب العالمية الثانية بشارةً بقرب عودة المخلّص المنتظر .
أيضا ً ليس لك أن تعترض حين تبشر المسيحية بالقيامة في شخص يسوع الذي عاد من الموت بعد أيام ثلاثة بشهادة والدته – حسب إنجيل يوحنا – لأن المسيحية بذلك التبشير تكشف عن ديانة ترسّخُ فكرة البعث معتبرةً أن من يجترح هذه الفكرة لن يكون – من وجهة نظرها - سوى شخص دنيوي مغرور ضيق الأفق ، فتتركه لشأنه دون إعلان منها للحرب عليه .
أما الإسلام فله أن يتقدم الصفوف بحسبانه خاتم النبوات وأنه يذهب بالتصور الإيمانيّ إلى ما هو أبعد ، فهو يشير بوضوح كامل إلى قيامة كل فرد بذاته في الصورة التي تناسبه والتي يستحقها فعليا ً بناء على ما قدمت يداه في المرحلة المنصرمة ( الدنيا ) .
ومن هنا يسقط حق غير المسلمين في الاستخفاف بالإسلام ، ولكن لا جناح عليهم إن لم يعتنقوه أو أعرضوا عنه بحكم ثقافتهم الموروثة ، قناعة منهم بعقائدهم الذاتية – فتلك حريتهم - وبالمقابل لا يصح للمسلمين أن يتعالوا عليهم بحجة أنهم – أي المستخفين والمعرضين – كفار لأنهم لا يريدون تفهّم كيف أن الإسلام يقدم رؤيةً أوسع تتسق ومتطلبات الوعي الذي يحمل مستقبله في داخله مثلما تكون الفراشةُ محمولةً في بطن دودة القز .
بهذه الرؤية الأوسع لحرية العقائد والأديان التي تتفق جميعاً في الغايات والمقاصد ؛ تكتمل الدائرتان الوجودية والمعرفية . وعندئذ – وليس قبل ذلك - يمكن للخطاب الديني ( الإسلامي أو المسيحي أو غيرهما ) أن يجدد نفسه ، لكي يتعامل بجدية مع قضايا الواقع التاريخيّ المحدد ، والتي هي شكل نسبيّ من أشكال الحياة الكونية غير المحدودة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - لن ؟
نصر نصر ( 2015 / 8 / 22 - 13:43 )
تقول سيادتك:
أما من جانب المنهج العلمي التجريبي فإن الباحثين لن يجدوا برهاناً - علمياً - على وجود إله ولكن من ناحية أخرى – وهي منهجية أيضاً - فإن الباحث - العلمي - لن يعثر أبداً على برهان ينفي وجود الإله ..
هذه ليست لغة علمية.. العلم لا يتنبأ يا أستاذ.
أنت تتمسح بالعلم من أجل قضية الدين الخاسرة.. عصا موسي الثعبانية .. نوح المعمر 950 عام.. البراق.. العودة من القبر.. و القائمة تطول يا من تتشدق بالعلم و العقل..
ثم تقول: ومن هنا يسقط حق غير المسلمين في الاستخفاف بالإسلام.. وبالمقابل لا يصح للمسلمين أن يتعالوا عليهم..
نعم ينبغي لكل مختل أن يحترم حقوق إختلال الآخر.
تحياتى.


2 - ثورة الكم
محمد سرتي ( 2015 / 8 / 22 - 21:42 )
استاذنا الكريم مهدي بندق
لعل الثورة الكونية القادمة والتي ستغير شكل الحياة على الأرض هي ثورة فيزياء الكم
إنها اللغة العالمية التي ربما سيتحدث بها من الآن فصاعداً -بالإضافة للفيزيائيين والمهندسين- الفلاسفة وعلماء الاجتماع والسياسيين ورجال الدين والدعاة والوعاظ والمصلحين إلى آخره

اخر الافلام

.. !ماسك يحذر من حرب أهلية


.. هل تمنح المحكمة العليا الأمريكية الحصانة القضائية لترامب؟




.. رصيف غزة العائم.. المواصفات والمهام | #الظهيرة


.. القوات الأميركية تبدأ تشييد رصيف بحري عائم قبالة ساحل غزة |




.. أمريكا.. ربط طلاب جامعة نورث وسترن أذرعهم لحماية خيامهم من ا