الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


- الشك -

حسام المنفي

2015 / 8 / 23
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يقول الجرجاني في تعريفاته " الشك هو التردد بين نقيضين دون الترجيح لأحدهما على الأخر ، وفعل الشك هو ما استوى طرفاه وهو الوقوف بين الشيئين لا يميل القلب إلى أحدهما " (1) أي أن الشاك هنا يتوقف عادة عن الحكم على صحة أي النقيضين ويتردد بينهما . ,وإذا كانت محاولات التفكير الجاد التي يقوم بها المرء تهدف دائما إلى الوصول أو الأقتراب من الحقيقة على قدر استطاعتنا فإنه (أي الشخص المفكر ) لا يستطيع الشروع في عملية التفكير من الأساس إلا إذا اجتاز مرحلة الريبة وانتابته حالة من الشك تسبق عملية التفكير ذاتها . أي أن كل محاولات التفكير التي تهدف للوصول إلى جانب من جوانب الحقيقة لابد أن يسبقها حالة من الحيرة أوالريبة أوالشك ، وإن لم يكن كذلك فقل لي لماذا نفكر ونتأمل في الأساس إذا كنا لم نشك ونرتاب في موضوع معين أوفكرة محددة أو معتقد بعينه ما دمنا موقنين أننا على دراية تامة من هذه الفكرة أو هذا المعتقد ، فإن الشك هو الذي يدفعنا دائما إلى الشروع في عملية التفكير ، ومن دون الشك لن يكون ثمة تفكير أو تأمل أو تدبر من جانب الذوات المفكرة .
ولكن السؤال الذي يراود الجميع بما فيهم صاحب هذه السطور هو : هل هذه القاعدة تنسحب أيضا على كل التصورات والأفكار والمعتقدات بما فيها المعتقدات الدينية أو الموروثات الشعبية أو القيم المستمدة من العرف ...إلخ أقول لك دون أدنى تردد أن كل هذه الأفكار والمعتقدات لكي نستطيع ان نميز بين السقيم والصحيح منها لابد أن تخضع هي أيضا للشك إذا كنا نريد أن نفكر ونتأمل وننتقد كذوات مفكرة تتميز عن باقي الموجودات الأخرى بملكة العقل ، أما إذا رأيت أن تتنازل بكامل إرادتك عن عقل وضميرك ووجدانك ، وتقبل ما يملى عليك من معتقدات وأفكار من قبل أي سلطة دينية كانت أو سياسية أو اجتماعية دون أن تشك وترتاب ومن ثم تفكر فهذ اختيارك ولا أحد يستطيع أن يجادلك في هذا الأمر لأن الإحساس بالعزة والكرامة والثقة بالنفس لابد أن ينبع من داخل الإنسان نفسه لا أن يستمده من خارج ذاته ، و في اعتقادي أن الشخص الذي يقبل أن ينقاد فكريا لغيره مهما اصطبغ هذا الغير بصبغة مقدسة فأنت في هذه الحالة تفرط في إنسانيتك أي تتنازل عن حقق الأصيل في أن تفكر وتتأمل وتعمل عقلك في ما يعرض عليه من قضايا . يقول د. مصطفى النشار(2) : إن تشككك هو عمل تمارس فيه حريتك الفكرية إزاء ما يطرح على عقلك من أراء وأفكار ومعتقدات ، وحريتك الفكرية هذه هي عين ذاتك الواعية وهي ممارسة للإرادة والإختيار العقلي إزاء أي أفكار تطرح عليك . ويقول د. توفيق الطويل : وبهذا تنتفي السلطة في كل صورها مصدرا للحقيقة ، لأن الحقائق لا تمليها سلطة علمية - كمشاهير المفكرين - ولا دينية - تتمثل في المؤسسات الدينية - ولا اجتماعية - تتمثل في العرف الإجتماعي وتقاليده - ولا سياسية - يفرضها حاكم مستبد - لأن كل يقين في المعرفة مسبوق بشك يستهدف التمحيص ويمهد لليقين(3) .
====================
بروتاجوراس يشك في وجود الألهة .
==================
كان بروتاجوراس (500 - 410 ق.م ) من أعلام التنوير في عصره ، وكان رائدا للحركة السوفسطائية التي ازدهرت في النصف الثاني من القرن الخامس ق.م والنصف الأول من القرن الرابع ق.م . ولا شك أن بروتاجوراس يمثل منعطفا خطيرا في تاريخ الفكر اليوناني لأنه غير مجرى اهتمام الفلسفة الذي كان ينصب في البحث في مشكلات وقضايا الطبيعة إلى البحث في مشكلات وقضايا الإنسان : حقيقته وكيف يعرف ؟ وماذا يعرف؟ وكيف يسلك؟ وأحصل حضارته؟ . وقد كان لبروتاجوراس نظرية في المعرفة ترتكز على الحواس ، وتعتبر أن الإنسان هو مقياس الحقيقة أي أن الحقيقة أو المعرفة نسبية بطبيعة الحال وأنه لا توجد حقائق مطلقة وأن الحقائق تتغير بتغير الإزمان و الأشخاص وبتغير الظروف التي تحيط بالشخص نفسه وبتغير إحساس ومشاعر الفرد من وقت لأخر وتبعا لحالته النفسية والجسدية والمزاجية يقول : إن الإنسان مقياس الأشياء جميعها ، فهو مقياس مايوجد منها ، ومقياس ما لا يوجد منها(4) .
وإذا كان الإنسان مقياس كل شيء فمن الطبيعي أن فكرة الألوهية نفسها قد خضعت لهذا المنظور أو المعيار النسبي للحقيقة ، أي أن وجود الألهة أصبح وجودا نسبيا لا مطلقا ، يتحدد طبقا لإختلاف الناس وثقافتهم والبيئة التي نشؤا فيها والمجتمعات التي استمدوا منها قيمهم يقول " لا أستطيع أن أعلم أن الألهة موجودة أو غير موجودة ، ولا هيأتها ما هي لأن أمورا كثيرة تحول بيني وبين هذه المعرفة منها غموض الموضوع وقصر الحياة(5) " ويقول د. مصطفى النشار : ومع ذلك فقد كان هذا القول عن الألهة رغم غرابته متسقا مع نظرية بروتاجوراس عن المعرفة فما دام الإنسان الفرد بحواسه هو معيار وجود الأشياء جميعا ، فمسألة وجود الألهة إذن ينبغ أن تخضع لهذه النسبية ولنفس المعيار ، وما دامت الحواس غير قادرة على إدراك هذا النوع من الوجود (أعني وجود الألهة ) فالموضوع إذن "غامض" . كما أن حياة الإنسان قصيرة لدرجة أنه لا يمكنه أن يأمل في أن تقع الألهة في نطاق خبراته الحسية ذات يوم(6) .
==================
الشك عند بعض مفكري المعتزلة .
==================
من المعروف أن أكثر مذهب من مذاهب علم الكلام الإسلامي كان يحترم العقل ويمجد المنطق وينبذ الخرافات ويؤسس الأخلاق على أسس ومناهج عقلية لا نقلية هو مذهب المعتزلة الذي لم يعد له أثرا كبيرا على فكر المسلمين في الأونة الأخيرة ، وفي اعتقادي أن تاريخ العرب والمسلمين كان سيتغير تماما لو كان قد كتب لهذا المذهب الإنتشار والدوام أو بعنى أدق لو أن عامة المسلمين تقبلوه واستساغوه وارتضوا مبادءه نسقا فكريا لهم بدلا من المذهب الأشعري . وسنقوم بعرض أراء بعض مفكري المعتزلة في منهج الشك يقول إبراهيم النظام وهو أحد رواد المذهب المعتزلي " لم يكن يقينا قط حتى صار فيه شك ، ولم ينتقل أحد من اعتقاد إلى اعتقاد حتى يكون بينهما شك " (7) . ويقول الجاحظ وهو أيضا من رواد المعتزلة الكبار وكان أستاذا للنظام : تعلم الشك في المشكوك فيه تعلما ، فلو لم يكن ذلك إلا تعرف التوقف ثم التثبت ، لقد كان ذلك بما يحتاج إليه . والعوام أقل شكوكا من الخواص لأنهم لا يتوقفون عن التصديق ولا يرتابون بأنفسهم ، فليس عندهم إلا الإقدام على التصديق المجرد أو التكذيب المجرد(8) . وكان أبو هشام البصري يرى أن الشك ضروري لكل معرفة ، فجاهر بأن أول واجب يلزم المكلف هو الشك ، لأن النظر إذا لم يسبقه شك كان تحصيل حاصل(9) . وفي الحقية نحن لا نستطيع أن نغض الطرف عن رأي الإمام الغزالي في هذا الصدد رغم اختلافنا معه في أمور عدة لا يسع المقام لطرحها يقول : فمن لم يشك لم ينظر ، ومن لم ينظر لم يبصر ، ومن لم يبصر بقى في العمى والضلال ، نعوذ بالله من ذلك(10) .
=============
ديكارت يشك في الوجود .
=============
لقد ظل المنطق الأرسطي الذي يعتمد على القياس سائدا ومتسيدا في أوروبا وعند الفلاسفة العرب طوال العصر الوسيط ، حتى جاء الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (1596 - 1650) في مطلع العصر الحديث ليثور ويعترض على المنهج الأرسطي القديم الذي يعتمد على القياس كما ذكرنا سابقا لأن القياس الذي يعتمد على استخلاص النتيجة من قضايا مسلمة من قبل لا يقدم أية إضافة جديدة في مجال المعرفة إلا أنه يصلح في شرح وتحليل وتمحيص ما نعرف من الأمور لا أن نتعلم تلك الأمور ولا أنجد حقائق جديدة لم نكن نعرفها.
والمنهج الجديد الذي وضعه ديكارت يستلهم المناهج التي تستعملها الرياضيات، وهو يعتمد على عمليتين ذهنيتين على الأصالة : "الحدس" "والإستنباط" والحدس هو الإدراك الذهني المباشر لقيقة مستكفيه بذاتها وتفرض ذاتها إطلاقا : مثال ذلك أني كائن مفكر ، وأن المثلث ذو ثلاثة أضلاع ، أو أن الكل أكبر من الجزء ، أو أن العدد 3 أصغر من العدد 5 . أما الإستنباط فهو الحركة المتصلة غير المنقطعة ، حركة فكر يدرك كل شيء ببداهة . وهو يدرك الرابطة الضرورية التي تربط بين حقيقتين وجدناهما بالحدس(11) . مثال ذلك أن 2+2 =4 ، أو عندما نستنبط أن قطتتنا الصغيرة داخل غرفة من الغرف دون أن نراها داخل هذه الغرفة فعليا لأن صوت موائها مثلا صادرا من نفس اتجاه الغرفة ، أو حينما أراك متجها إلى مكتب العمل ففي هذه اللحظة سأستنبط من سلوكك هذا أنك تبحث عن عمل ما(12) .
ولقد وضع ديكارت أربع قواعد لمنهجه الجديد ضمن كتابه مقال في المنهج والذي يهمنا في هذا المقال هي القاعدة الأولى يقول : أن لا أتقبل شيئا قط على أنه حق ما لم أتبين بالبداهة أنه كذلك بمعنى أن أتجنب التعجل والسبق إلى الحكم ، وأن لا أدخل في أحكامي إلا ما يعرض لذهني بقدر من الوضوح والتميز لا يدع لي سببا لوضعه موضع شك(13) . معنى هذا أنني لابد بصفتي كائن مفكر وأتميز عن باقي المخلوقات بأنني أمتلك عقلا يدرك ويفكر ويستدل ويستنتج ... إلخ أن لا أقبل أية فكرة مهما بلغة من القداسة مبلغا إلا إذا كانت هذه الفكرة واضحة وبديهية ولا تتعارض مع منطق العقل أو مناهج العلوم ، ولا تتعارض أيضا مع القيم الأخلاقية والجمالية والإنسانيةالتي نسترشد بها في حياتنا . وكما قال د. عثمان أمين في مقدمة كتاب مقال عن المنهج معلقا على الفقرة السابقة : منذ اليوم يصبح العقل وحده صاحب السلطان ، وهذا هو الرفض الصريح لسلطة القدماء ، وهو الوداع الأخير للعصر الوسيط ، وهو الإعلان على رؤوس الأشهاد لحقوق الفكر الحر الجريء(14) .
ولم يكتفي ديكارت بما خوله للعقل من سلطة شبه مطلقة في مجال المعرفة بل ذهب أبعد من ذلك بكثير ، حيث استنبط ديكارت وجوده هو نفسه ووجود العالم الخارجي من الفكر ذاته ، أي أن الوجود الخارجي يعتمد على الفكر اعتمادا كليا ولولا الفكر ما كان الوجود فالفكر عند ديكارت يسبق الوجود ومتقدما عليه وأشرف منه منزلة ، بل إن ديكارت أخرج من شكه هذا في الوجود أنه كائن مفكر أي إذا كنا نشك في حواسنا التي تمدنا بكل معارفنا عن العالم الخارجي فاليقين الوحيد الذي أستطيع من خلاله إثبات وجودي هو أنني كائن مفكر فعملية الفكر هذه أستطيع أن أدركها إدراكا مباشرا عن طريق الحدس ، وعلى حد قول د. عثمان أمين أن ديكارت قد أخرج من الشك نفسه هذا اليقين : أنا قائم (أو موجود) باعتباري كائنا مفكرا .أنظر ماذا قال وهو يمارس شكه في وجود العالم الخارجي "إننا نعرفه بحواسنا والحواس عرضة للخطأ ، والإحساس الذي لدينا في اليقظة يشبه الحلم الذي يكون لنا في النوم(15) " ويستطرد قغائلا " وسرعان ما انتبهت بعد ذلك إلى أنني حينما أردت أن أفكر في أن كل شيء زائف فلابد بالضرورة أن أكون ، أنا الذي أفكر ، ولما انتبهت إلى هذه الحقيقة "أفكر" فأنا إن موجود ،هي من المتانة والوثوق بحيث أن أشد افتراضات الشكاك لا تقوى على تزعزعها ، حكمت أنني أستطيع مطمئنا أن أتقبلها على المبدأ الأول للفلسفة التي كنت أطلبها(16) .
========================================
(1) د. لطفي بركات أحمد " المعجم التربوي في الأصول الفكرية والثقافية والتربية ص43 " .
(2) د. مصطفى النشار " التفكير الفلسفي ص90 " .
(3) د. توفيق الطويل " في تراثنا العربي الإسلامي ص11 " .
(4) د. مصطفى النشار " تاريخ الفلسفة اليونانية من منظور شرقي ص352 " .
(5) د. نفس المصدر ص355 .
(6) المصدر نفسه .
(7) د. توفيق الطويل " في تراثنا العربي الإسلامي ص11 " .
(8) نفس المصدر ص12 .
(9) نفس المصدر .
(10) د. زكي نجيب محمود " المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري ص329" .
(11) رينيه ديكارت "عن المنهج العلمي ص17" تقديم د. عثمان أمين .
(12) أكثر الأمثلة المذكورة في المقال نحن الذين سقناها لتبسيط الفكرة قدر المستطاع، فإن كان بها خلل أو عيب ما فنحن وحدنا المسؤلون عنه .
(13) رينيه ديكارت "عن المنهج العلمي ص18" تقديم د. عثمان أمين .
(14) نفس المرجع .
(15) المرجع نفسه ص23 .
(16) نفس المرجع .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شاهد كيف تحولت رحلة فلسطينيين لشمال غزة إلى كابوس


.. قتلوها وهي نائمة.. غضب في العراق بعد مقتل التيكتوكر -فيروز أ




.. دخول أول دفعة من المساعدات الإنسانية إلى خانيونس جنوبي قطاع


.. على وقع التصعيد مع إسرائيل .. طهران تراجع عقيدتها النووية |#




.. هل تتخلى حركة حماس عن سلاحها والتبعية لطهران وتلتحق بمعسكر ا