الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجابري والتنوير

هادي اركون

2015 / 8 / 24
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني



لم يكن محمد عابد الجابري مثقفا تنويريا،ولم يهتم بالقضايا التنويرية ،طيلة مسيرته الثقافية والفكرية.
كان أقرب إلى المثقف الإصلاحي ،الباحث عن تجديد الثقافة التقليدية بالعودة إلى الأصول أو بعقد المصالحات بين البيان والبرهان أو بين النص المؤسس والحداثة الظافرة .
وهذا منحى مختلف عن منحى التنوير ،المنطوي على استشكال جذري لمصادر المعرفة ، ونقد شامل للمرسخ منها ،استنادا إلى قدرة العقل الإنساني على المعرفة وعلى الاستقصاء .
فالتنوير ،مساءلة عقلية للأصول ،وبناء مرجعيات في النظر والتمحيص والاستكشاف مستقلة عن العقل الشرعي. لا ينفصل التنوير عن نقد الراسخ وبناء الجديد المواكب لشروط النقد العقلي ،وللمستجدات العلمية .
لقد استبعد في كل مساره الفكري والثقافي ، أي نقد أو استشكال للأصول المؤسسة ،أو للعقائد الإيمانية ،وانحصرت أفكاره في استصلاح التراث الفكري الإسلامي ،وتنقيته من بعض الزوائد ولا سيما من التأثيرات العرفانية،وهي غنوصية أو هرمسية بالتحديد .
وفيما يستفيض في نقد العرفان الصوفي والشيعي وتشديد النكير على اللامعقول العقلي وعلى الأسماء العرفانية البارزة (الغزالي وابن عربي وابن سينا ... الخ) ،فإنه يكتفي بإعادة دعم البيان ،مع أن الموقف النقدي ،يقتضي إخضاع كل أنظمة الفكر لنفس النقد ،مادامت تصدر عن نفس الإبستيمية .
بل إن نقد البيان هو أساس كل نقد ،مادامت الأنظمة المعرفية الأكثر استغراقا في اعتباره في اللامعقول والأساطير ، تستند إليه في دعم شرعيتها وترسيخ وجودها في الثقافة والحضارة العربية –الإسلامية .
لقد استبعد أي نقد علمي ،للنصوص الإسلامية المؤسسة ،وانحصر تفكيره في نقد النصوص الثانوية ،وفي التوفيق بين المقررات الشرعية ومكتسبات الحداثة .وهذا موقف إصلاحي أو نهضوي ،مختلف كليا عن الموقف التنويري ،القائم على الاستشكال وعلى بناء مصادر عقلية مستقلة عن المصادر المتعالية .
ان للتنوير مهمة رئيسة ،هي استشكال النصوص والتجارب المرجعية ،وتناولها من منظور نقدي وتاريخي.فلا تنوير إذن ،دون التحرر من سلطة النصوص نفسها ،ومن تأثيرها النفساني أو الذهني أو الوجداني على المتلقين ؛و نقدها نقدا تاريخيا ومعرفيا ،يكشف عن ظروف تشكلها وبنائها وأطرها المعرفية وسياقاتها الثقافية والسياسية .
ان للاستصلاح أهدافا مخالفة للتنوير ولمقاصده التحريرية ؛يقوم الاستصلاح على إمكان تحيين وترهين وتجديد فهم النصوص والتجارب المرجعية وتكييف ذلك مع مطالب الحياة العصرية .ففيما يتوجه التنوير إلى تاريخية النصوص المؤسسة وإلى عوالمها الدلالية ومضامينها الأنثروبولوجية ،فإن الاستصلاح يكتفي بالتسليم بمقرراتها والتمييز بين الدلالات الممكنة والدلالات البعيدة استنادا إلى تصور قبلي لمقاصدها وأهدافها .
إن للنصوص المؤسسة ،سياقات وملابسات معرفية ، لا بد من الإلمام بها ، ومن سبرها ، لمعرفة مضامينها ودلالاتها،والوقوف على حدودها التاريخية ،استنادا إلى مناهج وطرائق جديدة .و لا يكفي للنهوض بمقتضيات هذه المهمة النقدية ،التعويل على مرسخات المجال التداولي العربي-الإسلامي ،بل لا بد من الانفتاح على المجالات التداولية السامية أو الشرقية عموما.و لا يكفي التركيز على المعلن والمفكر فيه ،بل لا بد من الاشتغال على المضمر و المسكوت عنه واللامفكر فيه ،في كل تناول يطال تشكل النصوص المؤسسة.
ينكر محمد عابد الجابري،امكانية النقد التاريخي واللغوي ،للنص القرآني ،بدعوى اختلاف السياق التوراتي –الإنجيلي عن السياق القرآني وحيثيات تلقي النصوص في الحضارة العربية –الإسلامية والحضارة الغربية.
(وإذن فليس هناك مجال لممارسة "النقد التاريخي"حول صحة النص القرآني ،ولا اعتقد أنه قد يكشف –إذا مورس بجدية ومن منظور تاريخي موضوعي –عن شيء آخر غير ما هو معروف.) -1
يصدر الجابري هنا ،عن موقف دوغمائي ،لا علاقة له بالروح العلمية ،ولا بالروح النقدية التي دفعت بعض المفكرين المعتزلة أو الصوفية أو الملاحدة ،إلى استشكال بنية أو مضامين النص القرآني .أما نقد الحديث كما مارسه المحدثون ،فلا علاقة له بالنقد التاريخي كما يعتقد صاحب نقد العقل العربي.ومن البين أن هذه الاستقالة النقدية المعلنة ، منافية لأبسط مقتضيات التنوير .فأقصى ما يمكن انجازه في اعتقاده ،هو الاشتغال على النقد التراثي واستثماره ،لخدمة القضايا الفكرية الراهنة .والحقيقة أن استقالة الجابري النقدية ، تكشف عن رهاب من النقد التاريخي،لا يتمكن مهما أكثر من المخارج من مداراته .
(يمكن أن نمارس النقد اللاهوتي من خلال القدماء ، يعني أن نستعيد –بشكل أو بآخر –الحوار الذي دار في تاريخنا الثقافي بين المتكلمين ،بعضهم مع بعض ، وما بينهم وبين الفلاسفة ،ونوظف هذا الحوار في قضايا عصرنا لإزالة بعض الضباب عن بعض قضايا وجعلها محل حوار .أما أن نقوم هكذا بهتك حرماتنا ،فلا يمكن .)- 2
والحقيقة أن التنوير يرتكز على تحديد دقيق للأولويات ؛فبما أن النصوص والتجارب المرجعية ، تتحكم في الأنظار وتوجه السلوك والسياسيات ،فمن الضروري الانكباب عليها قبل الانشغال بنصوص أو مرجعيات ليست لها نفس الأولوية .والحق أن الجابري ، انشغل كثيرا بأنظمة الفكر والنصوص الثواني ،بدعوى التجديد من الداخل والانتظام في التراث ،علما أن النصوص الثواني ليست إلا امتدادات ثقافية للنصوص المؤسسة . فهو يقوم بفصل النصوص والتجارب المؤسسة عن النصوص الثواني وعن العقل المكون ،والحال أن هذا الفصل غير ممكن ،بالنظر إلى تبلور المدونة الحديثية والنص السيري وبناء السير داخل المحيط الثقافي العباسي.
لا تعني ممارسة النقد التاريخي ،تطبيق منهجية سبينوزا أو فيورباخ على النص القرآني بحذافيرها ،بل الاستنارة بمناهج وطرق كل نقاد الكتاب المقدس في الكشف والاستكشاف ،دون نسيان التجدد المنهجي الحاصل في الدراسات التاريخية والأنثروبولوجية والأدبية .وقد حاول محمد اركون ،السير في هذا الاتجاه في كتابه (قراءات في القرآن) ،إلا أنه لم يتمكن من استتمامه لانشغاله بقضايا فكرية وثقافية أخرى .
يقتضي السياق العلمي إقامة علاقة وصل وفصل بين النصوص المؤسسة والنصوص الثواني ؛ولا يمكن استيفاء موجبات هذه العملية ،دون إقامة علاقة وصل وفصل بين النصوص المؤسسة الإسلامية والنصوص المؤسسة التوراتية والتلمودية والإنجيلية أولا والنصوص الهندوسية والبوذية والطاوية والكونفوشيوسية ثانيا .لا معنى للتنوير ،دون التعامل النقدي التاريخي-الأنثروبولوجي مع النصوص ،أيا كانت مكانتها وقدسيتها الاجتماعية .
(ولذلك أرى أن نقد التراث،اعني أنواع الفهم التي كونها المسلمون لأنفسهم عن دينهم وتاريخهم ، وثقافتهم ،هو ما يجب أن نشتغل به.أما بناء فهم جديد للنصوص الدينية ، فهذا ليس من مهمتي ،فلست مصلحا دينيا ولا صاحب دعوة ،ولا لدي رغبة في إنشاء "علم كلام"جديد. إن اتجاهي ومجال تحركي هو "نقد العقل" نقدا ايبيستيمولوجيا .) 3-
لا تحول الاستقالة النقدية ، هنا دون تنبي كثير من المقولات والمفاهيم الكلامية والفقهية ؛والحقيقة أن الجابري ،رام فصل البيان عن العرفان ،أي إقصاء التشيع والتصوف ،وإرجاع أزمات البيان إلى المؤثرات الغنوصية والهرمسية ،أي إلى الموروث الثقافي السابق للإسلام ،والربط بين البيان والبرهان .إن اختناقات العقل العربي ،راجعة- في اعتقاه- لا إلى حدود نصه المرجعي ،بل إلى محدودية عمل البيانيين ولا سيما اللغويين(تكوين العقل العربي ) وإلى المؤثرات الثقافية المقتبسة من الثقافات والحضارات القديمة في ميادين المعرفة والسياسة والأخلاق (رباعية نقد العقل العربي).
لقد وسم الجابري النص القرآني ومجمل التراثي البياني بالعقلانية؛والحال أنه يشترك مع العرفان في طرائف التفكير وبناء الدلالة وتنظيم الرموز.ويكفي تأمل سورة الكهف ،للوقوف على تناصها مع الموروث الثقافي القديم ،وبنائها للدلالات ،اعتمادا على قوة الترميز. لم يتمكن العرفان من النفاذ إلى العقل العربي منذ عصر أبي حامد الغزالي كما ظن ،إلا لأن النصوص المؤسسة ،ذات أساس عرفاني .فالرؤية البيانية للعالم رؤية عرفانية ،في الصميم .
كان مشروع الجابري في العمق تطويرا بوسائل وآليات أخرى لمشروع السلفية الجديدة بالمغرب ( علال الفاسي ومحمد الحجوي والدكالي ومحمدبن العربي العلوي ... الخ)؛وهذا ما يفسر دعوته إلى التجديد من الداخل وتطوير الموروث بالعودة إلى النصوص واستلهام بعض عناصر الحداثة .أما مساءلة الأسس المرجعية للعقل الإسلامي ،فأمر غير وارد إطلاقا في رؤيته الفكرية.فلئن انفتح على المناهج والآليات والمفاهيم الغربية ،فإنه أشاح عن منظورها الفكري واكتفى بالتمسك بالرؤية السنية السلفية ،المناهضة للتصوف والتشيع وللموروث الثقافي القديم ،بما في ذلك الموروث الأمازيغي .
لا يمكن إذن ،نقد العقل العربي ،دون نقد النصوص والتجارب المؤسسة ؛وقد راكمت النقدية الكتابية ،تجارب وخبرات ،لا يمكن إقصاؤها ،بدعوى اختلاف السياقات ؛كما لا يمكن استبعاد الانجازات الاسشتراقية في الدراسات القرآنية وفي نقد مناهج وأساليب المحدثين والفقهاء كما يعتقد الجابري ،بدعوى تمركزها العرقي .
إحالات :
1-(-محمد عابد الجابري ،في قضايا الدين والفكر ، فكر ونقد ، العدد9مايو1998،ص.7-)
2-(محمد عابد الجابري ،التراث والحداثة ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء ، بيروت ، الطبعة الأولى 1991،ص.260) .
3-(-محمد عابد الجابري ،في قضايا الدين والفكر ، فكر ونقد ، العدد9مايو1998،ص.8-9)

هادي اركون








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مسيحيو السودان.. فصول من انتهاكات الحرب المنسية


.. الخلود بين الدين والعلم




.. شاهد: طائفة السامريين اليهودية تقيم شعائر عيد الفصح على جبل


.. الاحتجاجات الأميركية على حرب غزة تثير -انقسامات وتساؤلات- بي




.. - الطلاب يحاصرونني ويهددونني-..أميركية من أصول يهودية تتصل ب