الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أركون والحدث القرآني

هادي اركون

2015 / 8 / 27
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


أركون والحدث القرآني
هادي اركون

دعا محمد أركون إلى نقد العقل الإسلامي ،وتطبيق النقد التاريخي –اللغوي على النصوص المؤسسة .وأنجز مجموعة من الدراسات ،في هذا الإطار ،حاول فيها إنارة كثير من الجوانب المسكوت عنها في النص القرآني وفي مناهج التفسير والتأويل المعتمدة لدى الأرثوذوكسية السنية والشيعية .
ففيما اكتفى نقاد العقل والتراث الإسلاميين (الجابري وحسن حنفي وحسين مروة ..)، بالاشتغال على المدونات الكلامية والفقهية والأصولية والفلسفية ،فإنه اعتبر الاشتغال النقدي على النص المؤسس ،مهمة أولية ،لا يمكن نقد العقل الإسلامي ولا المدونات الفرعية ،دون النهوض بمقتضياتها.
ويندرج مشروع نقد الحدث القرآني في سياق مشروع شامل يروم تغطية كل الجوانب ذات العلاقة بالظاهرة القرآنية وبالظاهرة الإسلامية.
(بمعنى آخر ،فإنه ينبغي علينا إعادة تشكيل علم الربوبية ، وعلم تيولوجيا الوحي ،وعلم تيولوجيا التاريخ،وتيولوجيا الأخلاق وفلسفة القانون ،إلخ ...ولكي ننجز كل هذا العمل بشكل مرض يلزمنا أولا تشكيل علم السنيات حديثة للغة العربية وتشكيل نظرية متماسكة للتأويل ،وتشكيل علم سيميائيات الخطاب الديني ، ثم تشكيل نظرية للرمز وانتربولوجيا سياسية مع نظرية متكاملة عن السيادة العليا(أو المشروعية العليا)،والسلطات السياسية التنفيذية والديالكتيك الذي يربط بينهما.)1-
لإحداث نقلة ابستمولوجية نوعية في الفكر الإسلامي ، لا بد في اعتقاده من الانكباب على تاريخ النص المؤسس ومكانته المعرفية وتأويله،بالاستناد إلى العدة المنهجية الحديثة وإلى منجزات العلوم الإنسانية والاجتماعية.فقد عمدت الأرثوذكسية الإسلامية ، إلى بلورة مدونات نصية رسمية ومغلقة(المصحف والحديث ) ،وفرضتها بالقوة ، وحددت آليات ومناهج للفهم والتأويل ،لا يمكن نقدها وتجاوزها وإلا عد التجاوز هرطقة أو تنكرا للأمة أو كفرا يستحق العقوبة .
لقد بلورت المدونات النصية الرسمية المعلقة (القرآن والحديث )،في سياقات معرفية وسياسية واجتماعية ، لا بد من استقصاء حيثياتها ،للكشف عن المسكوت عنه والمقصي والمضمر والمهمل عفوا أو قصدا أثناء بلورة تلك المدونات وفرضها على الأمة المتلقية .
من الضروري ،في اعتقاده ،مساءلة كثير من المقررات ،وعدم مراعاة المسلمات والبديهيات الكلامية والفقهية الرائجة حولها ، إن شئنا التحرر من السياجات الدوغمائية وتوسيع إطار المفكر فيه وتقليص مساحات اللامفكر فيه والمستحيل التفكير ، وتحرير العقل الإسلامي المكبل من مصادرات الفضاء العقلي القروسطي.
(1-المكانة المعرفية للوحي ؛
2-الشروط التي تمت فيها عملية نقله وتوصيله ؛
3-الشروط التي تمت فيها عملية تأويليه وتفسيره؛
4-شروط استقباله وتلقيه من قبل القراء أو المؤمنين ؛
5- الديالكتيك الكائن بين : الوحي ، والحقيقة ، والتاريخ. ) 2
تتمثل مهمة نقد العقل الإسلامي ،في الكشف عن تشكل منتجاته وبنائه للمعاني والرموز والعلامات ،و طرقه في تفضيل اختيار منهجي أو تأويلي على اختيار مضاد(تفضيل الحنابلة على المعتزلة والفقه على الفلسفة ...).
فلئن حاولت الأرثوذوكسيات ،حجب الشروط التاريخية لتشكل النص المؤسس ونقله ، فمن أولويات نقد العقل الإسلامي ، لدى أركون ، إنارة تلك الشروط والكشف عن ملابساتها .
ويشير في هذا الصدد إلى تدخل السلطة السياسية العباسية في نقاش لاهوتي – تقني حول المصاحف ولا سيما مصحف ابن مسعود .فكما حسمت السلطة السياسية ، النقاش الدائر بين المعتزلة والحنابلة وأهل السنة و الجماعة عموما ، حول مسألة خلق القرآن ،خاصة منذ القرارات القادرية ،فإن نفس السلطة حسمت الاختلاف حول القراءات والمصاحف.كما أشار إلى التضييق على ابن مقسم البغدادي العطار ومحاكمة و وجلد ابن شنبوذ البغدادي ،بدعوى مخالفة الإجماع واعتماد قراءات شاذة.
(إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فامضوا إلى ذكر الله ،وقرأ : وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا ،وقرأ : اليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك أية وقرأ : فلما خر تبينت الناس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا حولا في العذاب المهين وقرأ : والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى .... الخ ) 3-
ورغم تأكيده على غنى الإسلام الكلاسيكي وضراوة المناظرات حول تشكل النص المؤسس بين التيارات الفكرية ،فإنه لم يتوسع في استقصاء دفوعات كل فريق وفي الكشف عن كل الوسائل والماجريات المتبعة من قبل الفقهاء والعلماء ،لطي إشكالية اختلاف المصاحف وتعدد القراءات ومنزلة القرآن المعرفية بالقياس إلى النصوص العقلانية (المنظومة الأرسطية ).
لا بد في اعتقاد أركون من مراعاة المستجدات المنهجية ،في أي تناول تاريخي أو نقدي ،لتشكل النصوص المؤسسة.لم يعد واردا التمسك بالمنهجية الفيلولوجية التاريخانية ،كما مارسها الاستشراق الكلاسيكي ، بل لا بد من تطويرها بالاستناد إلى مناهج العلوم الاجتماعية والإنسانية .وهذا ما يفسر تفضيله للتاريخية والدراسات اللسانية والسيمائية ،ونقده للمنهجية الفيلولوجية والتاريخانية(برنار لويس وكلود كاهين.... الخ) . لا تكفي الرؤية الايجابية –الوضعية ،في الكشف عن تاريخية النص القرآني ،بل لا بد من تقويتها بالمناهج والمقاربات المستجدة في حقل العلوم الإنسانية والاجتماعية .وفي هذا السياق ،أثار مسألة الانتقال من القرآن الملفوظ إلى القرآن المكتوب أو ما سماه بالمدونة النصية الرسمية المغلقة ، وما يعتور ذلك الانتقال من تغيرات تفرضها طبيعة الكتابة نفسها .
اكتفى محمد أركون برسم الخطوط الكبرى للنقد التاريخي-اللغوي للنص المؤسس ،وأنجز بعض الدراسات اللسانية –السيميائة-الأنثروبولوجية في هذا السياق خصوصا في كتاب(قراءات في القرآن".وفي هذا الإطار طبق منهجيته النقدية على سورة الفاتحة و سورة الكهف،كما تناول سورة التوبة و سورة النساء . كما أجرى مقارنات منهجية ، بين الدراسات التراثية والدراسات الاستشراقية ،وأبرز خصوصيات منهجيته الجديدة .
(هذا في حين أن المقاربة المتبعة في قراءاتنا (التي ستجيء) تهضم وتتمثل في آن واحد الإلحاح أو البعد التيولوجي للمؤمنين والإلزام الفللوجي للمؤرخ الايجابي المهتم بالوقائع( ولكن ليس الوضعي) والمنظور التوضيحي لعالم الانتربولوجيا وبالضبط النقدي للفيلسوف .)4-
والحقيقة أنه لم يذهب بعيدا في هذا الاتجاه ،لأسباب منهجية وأخرى سياسية .فقد تميز مشروع اركون بطابعه البرنامجي ،المنطوي على إشارات منهجية ونظرية ومقترحات نقدية واضاءات تاريخية ؛كما تميز بانفتاحه الكبير على مستجدات العلوم الإنسانية.وقد انشغل كثيرا بالمناقشات العمومية والمطارحات ذات الطابع التنويري ،خاصة بعد بروز الأصوليات وتيار الصحوة الإسلامية .
رغم وعيه بغنى المدونات التراثية في هذا الاتجاه ولاشتغاله على" الإتقان في علوم القرآن " لجلال الدين للسيوطي في دراسته (حساب ختامي للدراسات القرآنية وآفاقها )،فإنه لم يقم باستقصاء مواد هذه المواد وتنظيمها وفرزها وتمحيصها ونقدها كما فعل نبيل فياض في "فروقات المصاحف"،بل اكتفى في الغالب بملاحظات منهجية حول الآليات المعتمدة في التسويغ والاستدلال ودعم فكر الأرثوذوكسية.
لقد انفتح أركون على العلوم الإنسانية ،بدون أدنى حذر ،مما أوقعه في تضخم منهجي أثر على تناوله للنص القرآني وللمتون التراثية.ففيما يقتضي السياق الثقافي –السياسي المعاصر ،التركيز على الوقائع ومقارنة النصوص والكشف عن المسكوت عنه ،ارتأى أركون الاحتفال بالمتخيل الاجتماعي والحقائق السوسيولوجية والطابع المجازي للقرآن.
فالهدف من الدراسة النقدية ،هو كشف تاريخية المجاز ،لا التغني بجمالياته .يروم المجاز إضفاء هالة متعالية على معان ومشاعر ذاتية وأفكار تاريخية ، فيما تعيده الدراسة التاريخية إلى منابعه التاريخية وإلى خلفياته الفكرية ومناخه الاجتماعي والنفسي والوجداني .
ففيما يقتضي السياق الثقافي الموسوم بصعود السلفيات ،التركيز على الحقائق التاريخية وعلى مقارنة النصوص والكشف عن آليات البيان والمجاز في إعلاء الوقائع والأحداث والمعارف الظرفية ،اختار أركون التأكيد على قوة وجمالية المجازات القرآنية للتشغيب على أساليب الأصوليين والفقهاء وعلى دور المتخيل والأساطير والرموز في تحريك التاريخ لتفسير قوة اللامعقول الديني وحضوره السياسي وخاصة بعد الثورة الإيرانية .
كان مشروع نزع الأسطرة ،أنسب ،بعد تعديله وتطويره ،وأقرب إلى تحقيق المطالب التنويرية .إلا أن أركون أشاح عن مشروع رودولف بولتمان ووصفه بالوضعانية والاختزالية .
لقد أخذ أركون على الاستشراق الكلاسيكي ،وضعانيته و تاريخانيته ،أي ميله إلى الاختزال وعدم الاحتفال بدور الرموز والخيال في تشكيل اللاوعي الجمعي ،وتحريك المبادرات التاريخية ورسم ظلال وآثار المعاني .
(ولكن التحليل اللغوي والسيميائي الدلالي الحديث يضيف شيئا آخر إلى منهجية النقد التاريخي الفيلولوجي المعروف.هذا الشيء هو التمييز بين المعنى والحقيقة والمشروعية من جهة ،وبين آثار المعنى وآثار الحقيقة وآثار المشروعية من جهة أخرى .) 5-
والواقع أن ثمة معقولية ثاوية وراء أكثر المبادرات لا عقلانية وأكثر الأفكار الاجتماعية ارتباطا بالمتخيل الديني .لقد قابل أركون الاختزال الاستشراقي بتضخيم مبالغ فيه للمتخيل والرموز والحقائق الأنتربولوجية.فبما أن المتخيل يتغذى بمعطيات مبلورة ، في سياقات تاريخية محددة ، فمن الممكن تعديل معطياته ،بالكشف عن نقص أو تعديل أو تحريف أو استعمال تلك المعطيات لأهداف شخصية أو إيديولوجية أو مادية أو سياسية(ظروف تدوين المصحف العثماني وإقصاء مصحف ابن مسعود وأبي بن كعب مثلا).
لا يمكن تحجيم المتخيل الديني إلا بالكشف عن تاريخية أسسه ومرجعياته ومعاييره ، لا بالاستغراق في جمالياته .ولئن أمكن نقد هذه المنحى في أوروبا ما بعد الأنوار ،فلا يمكن استبعاده من النظر ، في مجتمعات لم تعرف الأنوار بعد ولم تعرض نصوصها المؤسسة لنقد تاريخي وتمحيص لغوي صارمين .
فقبل الانكباب إذن ،على القراءة اللسانية –السيميائية –الانثروبولوجية ، لا بد من استخراج المواد الخاصة بتشكيل المصحف واختلاف المصاحف والقراءات ،وتنظيمها وفرزها ونقدها ،والعودة إلى المخطوطات الموجودة.كان من الضروري ،الاستفادة من النقد الاستشراقي ،(نولدكه وبلاشير وآرثر جيفري ... الخ) ،وتجاوز أخطائه وهناته المنهجية ،والاستغراق في الجمع والاستقصاء والمقابلة بين الروايات والنصوص والتقاليد المذهبية( النصوص الشيعية الناقدة للتقاليد النصية السنية مثلا) .كما يلزم البحث في تبلور المدونة النصية الرسمية الحديثية ،بالنظر إلى ارتباط المدونتين وتشابه الأساليب المعتمدة في تطويرهما وترسيمهما . والملاحظ أن أركون ،يكتفي بإشارات عابرة ، في هذا السياق ، رغم أن النقد التاريخي للحديث لا ينفصل عن النقد التاريخي للقرآن .
لم يكن بإمكان أركون إنجاز برنامجه الفكري ،لاتساعه الكبير ،ولصعوبات تنفيذه بسبب غياب دراسات تمهيدية كثيرة حول النص المؤسس ومحيطه الفكري والتاريخي والسياسي(دراسات تاريخية علمية حول تاريخ الشرق الأوسط في القرن السادس والسابع الميلاديين) .كان من الممكن استقصاء إفادات النصوص التفسيرية والتاريخية والكلامية حول تشكل النص المؤسس واختلاف المصاحف والظروف السياسية المحيطة بذلك التشكل والآليات المنهجية المعتمدة في الترسيم والتقعيد خلال العصر الأموي والعباسي .كما كان من الممكن كذلك الاشتغال على المخطوطات ولا سيما مخطوطات صنعاء ،للوقوف على الفوارق والاختلافات بينها .إلا أن الإيغال في التوضيحات المنهجية حال دون ،انجاز عمل تمهيدي لا مناص منه .
إحالات :
1- (محمد أركون –الإسلام الأخلاق والسياسة،مركز الإنماء القومي ، بيروت ،الطبعة الأولى 1990، ص.185) .
2-(محمد أركون –الإسلام الأخلاق والسياسة،مركز الإنماء القومي ، بيروت ،الطبعة الأولى 1990، ص.174) .
3-( ابن النديم ، الفهرست ، اعتنى به وعلق عليه : الشيخ إبراهيم رمضان ، دار المعرفة –بيروت لبنان ، الطبعة الثانية 1997،ص.50-51) .
4-(محمد أركون ،الفكر الإسلامي قراءة علمية ،مركز الإنماء القومي ، بيروت،1987،ص.264)
5-(محمد اركون،تحرير الوعي الإسلامي –نحو الخروج من السياجات الدوغمائية المغلقة ،ترجمة :هاشم صالح،دار الطليعة،بيروت،الطبعة الأولى :2011،ص.203).

هادي اركون








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اغتيال ضابط بالحرس الثوري في قلب إيران لعلاقته بهجوم المركز


.. مسيحيو السودان.. فصول من انتهاكات الحرب المنسية




.. الخلود بين الدين والعلم


.. شاهد: طائفة السامريين اليهودية تقيم شعائر عيد الفصح على جبل




.. الاحتجاجات الأميركية على حرب غزة تثير -انقسامات وتساؤلات- بي