الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الخوف من نقد المقدسات الدينية

عبدالعزيز عبدالله القناعي

2015 / 8 / 30
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


اوشاج
الخوف من نقد المقدسات الدينية

في محراب الكلمة والمعرفة والفلسفة والعلم، تكون التاريخ الانساني ليحمل الحضارات والفكر والمعرفة الي البشرية جمعاء دون تفرقة أو تمييز في الدين والجنس والعرق. فمنذ آلاف السنين خلقت الأديان وتكونت المشاريع النهضوية للشعوب والدول، منها ما نجح في التقدم، ومنها ما فشل واندثر، وبعضها مازال يصارع لتكوين هوية ومشروع حضاري ينطلق بها الي المستقبل.
لقد انشغل المؤرخون الأوروبيون في القرن التاسع عشر الذي يعتبر قرن التاريخ على إعادة كتابة تاريخ أوروبا وفلسفته من منظور تاريخاني ينطلق من أن الحقيقة ليست معطى جاهزا متعاليا، بل معطى تاريخي متغير، بمعني أنه يتطور مع التاريخ ومع الانسان ومدى توسع مدارك علمه وثقافته ومعرفته، ومعنى هذا أن الحقيقة في كل عصر هي أقرب الي الكمال منها من العصر الماضي، وأن الآتي أقرب الي الحقيقة من الراهن. ونتج عن ذلك أنه لما كانت أوروبا وحضارتها هي الحاضر، أي أنها العصر الحديث أو الأزمنة الحديثة وتعيش الحداثة والتنوير، فإن جميع العصور السابقة في تاريخ الانسانية هي عبارة عن مراحل قطعها التطور في مسيرة حضارية بلغت أوجها في أوروبا الحداثة، وهكذا يكون التاريخ قد أختار أوروبا لتكون قمة مساره وأوج تطوره الآن، وقائدة هذا المسار غدا.
وفي خضم التطور الحاصل في أوروبا والعالم المتقدم، نتساءل نحن العرب والمسلمين عن الدور التاريخي والحضاري الذي نريد تحقيقه أو الذي خسرناه. سنلاحظ أن القضايا الأساسية التي شكلت قوام فكر النهضة العربية في القرن الماضي ما زالت حية قائمة كمطالب وطموحات مع بداية القرن الحالي، فالوحدة العربية، والجامعة الاسلامية، والوقوف في وجه التدخل الاوروبي والأمريكي، وتحرير المرأة، ونشر التعليم، والأخذ بأكبر نصيب في الصناعة والتكنولوجيا، ومحاربة مظاهر التخلف في الفكر والسلوك، والوقوف في وجه الظلم والاستبداد، والمطالبة بالشورى أو الديمقراطية وغيرها من مطالبات النهضة.. هذه القضايا التي كانت تشكل في القرن الماضي قوام فكر النهضة وعنوان اليقظة للعرب والمسلمين، ما زالت مطروحة الي اليوم، وما زالت أهدافا ومطالب تنتظر التحقيق.
لكن السؤال المصيري ضمن التحولات التاريخية في العالم الغربي وضمن تعسر مشروع النهضة العربية والاسلامية، لم ينطلق من الأسباب الحقيقية للإخفاقات، بل اتخذ دوائر مغلقة من التفكير والاتهامات والابتعاد عن المسكوت عنه واللامفكر فيه في ثالوث التحريم العربي، وهو الدين والجنس والسياسة .. فقد انشغلت الشعوب العربية وغالبية النخب المثقفة بسؤال التجديد والإصلاح اكثر من انشغالها بالدين الاسلامي والأنظمة العربية ونظام المشيخة والقبيلة. لقد غاب سؤال كيف ننطلق من جديد، وحل مكان هذا السؤال تعديل وتجميل القبيح في تراثنا وانظمتنا وثقافتنا الدينية والاجتماعية.
إن التحولات التي نعيشها في العلم والمعرفة والفلسفة لا ينبغي لنا أن نرى فيها نهاية التاريخ الإسلامي، ولا أن نجعل منها مقبرة الأمل في التجديد والقفز على تخلف بنيتنا الدينية والسياسية .. فإن المراجعة النقدية ضرورة ملحة لاستعادة الأمل واستئناف المسيرة مع التاريخ الإنساني للمشاركة في صنعه والتأثير في مجراه .. فكلما تحركنا في اتجاهات متعددة ومختلفة في سبر أغوار الأزمات المتلاحقة، كلما نصنع مخاضات للعقل ورؤية ساطعة لمشاكلنا الداخلية، ننقلها الي الحاضر، والي أجيال متعطشة لمعرفة لماذا تخلف العرب والمسلمون وتقدم غيرهم. لقد آن الأوان ان نستعرض بصورة نقدية وأكثر شفافية وصراحة، الإجابة على أسئلة ليس متفق عليها في بعض الأحيان، وخاضعة في أحيان أخر لبنية العقل العربي والاسلامي المتوالد من التاريخ العربي وتاريخ الدين الإسلامي.
إن الشعور بفقدان الحرية، الأمل، السعادة، العدالة والمساواة، المستقبل ... عوامل نفسية أثرت على السلوك والتفكير العربي، وهي ما نعيشها في مجتمعاتنا رغم مساحة التنفيس البسيطة. ورغم تعدد الأسباب، إلا أن السمة الغالبة المنتجة لهذه الأنماط من التفكير هو سيطرة منظومة العادات والتقاليد والدين في حياة المواطن وعجزه عن الانطلاق خارج مدارك الثوابت الدينية. وليس اصدق من هذا الكلام الا ما قاله عالم الاجتماع العراقي علي الوردي "لو خير العرب بين دولتين دينية وعلمانية من سيختارون؟ لكانوا اختاروا الدولة الدينية وعاشوا في الدولة العلمانية"..هذه الإشكالية والأزمة المصيرية هي لب الصراع الفكري والسياسي، وهي التاريخ الذي كتب علينا بأن لا نتجاوزه أو نحدث نقلة نوعية في تفكيرنا تنقلنا الي العصر الحديث.
في الواقع، لقد استطاعت التيارات الإسلامية، بشقيها السني والشيعي، أن تملأ فراغات الجهل والخوف وفقدان الأمل بالدين والخصوصية وتعزيز الهوية الدينية، واستطاعت عبر تلبية الرغبات العاطفية للشعوب أن تقدم الشعارات والأوهام والمعجزات كسبيل أوحد لإنقاذ المجتمعات من الضلال والفشل. ولكن الشعوب لم تتساءل، ولم تخضع هذه التيارات الإسلامية للمساءلة والنقد، على اعتبار انها تمثل الله في الأرض، وأن الأوامر الإلهية لا يجب الاعتراض عليها، وأن شيوخ الدين لا يخطئون أو لا ينافقون أو لا ينصبون.. هذه الصورة المقدسة لرجل الدين أو الفقيه، تم تكرارها واستنساخها عبر عصور الإسلام منذ بداياته، ومنذ أن تم ادخال الدين بالسياسة، فاتخذ رجل الدين تلك القدسية وذلك التبجيل الخالي من النقد والشك بمنطلقاته ودوافعه، فبالأخير كل انسان يخضع لتغيير الأهواء ولضعف النفس البشرية أمام مغريات الحياة ولذة السلطة والمال والنساء..هذا العجز أو هذا الخوف من المحاسبة والتقويم، هو النقطة الأولي التي لم تمارسها الشعوب العربية كما مارستها الشعوب الأوروبية قبل قيام نهضتهم العلمية، وبالتالي تم القفز على التجديد الفكري والديني والسياسي في مجتمعاتنا، الي محاسبة الخطاب الناتج عن الدين وليس الدين نفسه او الكهنوت الإسلامي الذي يحمله ويستفيد منه.
وأمام هذا الخطأ الأول، قبعت الشعوب في دوامات التاريخ الإسلامي، وصراعات الفقهاء ورجال الدين من مختلف المذاهب والفرق الإسلامية، عاجزين عن مساءلتهم او الاقتراب من سلطتهم السياسية، وهذه السلطة السياسية بدورها كبرت وتوسعت وتوحشت، فهي في النهاية اصبحت تحمل طموحات وتوسعات وغايات كبرى، سهل مهمتها أن الشعوب مخدرة دينيا، وأن دمج الدين بالسياسة والدولة أثمر عن عجز فكري وكسل ثقافي وسكون علمي، وهو تماما ما ترغب به أي سلطة تستحوذ على الثروات والفضاء العام للمجتمع. وكنتيجة لفقدان أطر نظامية مجتمعية تفصل بين الدين والدولة، وبالتالي تمنع تداعيات استغلال الدين والطائفة في الحسابات الشخصية، ظللنا الي اليوم نجتر المآسي والحروب. وحتى نكون أكثر إنصافا لواقعنا، نجد أن مشاريع الحداثة والتنوير في الوطن العربي غائبة منذ زمن محمد علي باشا، وما تجارب التحديث والعلمنة الصورية اليوم إلا تغطية مادية يقابلها تبعية دينية وطغيان القبلية والطائفية والمكبوت الديني في المؤسسات الحكومية وديمقراطية بعض الدول، وهو ما يفقدنا كشعوب شروط التغيير الذاتية وهي الغائبة فعلا وواقعا عن منظومة العقل العربي. لقد كان لغياب التواصل الكوني مع الحضارة الإنسانية دورا بارزا في إبقاء منظومات التخلف والتبعية في الشرق الأوسط، وإن كانت بعض الدول الشرقية قد استطاعت بناء حضارتها وتقدمها وهي في محيط الجغرافيا الشرقية، كاليابان والصين نموذجا، إلا أن الدول العربية لم تصل الي الوعي التاريخي بضرورة الانتقال الي الحداثة وصنع تاريخها ونموذجها المتفرد، وهذا الانتقال، الفكري والصناعي، هو ما نقصد فيه غياب الشروط الذاتية العربية للتحول، بسبب عدم رغبة الشعوب بإحداث مثل هذا التغيير، إما خوفا من أنظمة استبدادية، أو للتمسك بالعادات والتقاليد والدين، وهي المنظومات الأشد منعا لإحداث التغيير في الوعي وبالتالي التماهي مع السيرورة التاريخية للشعوب والمجتمعات كما حدث مع اليابان والصين حينما اعتمدتا الطابع الشرقي ولكن مع التواصل الكوني الحضاري.
إن النخب العربية المثقفة تعاني من ضمور فلسفي في اللاوعي التاريخي، مما يجعلها، أي تلك النخب، تعيد الحفاظ على الوعي القائم، أو محاولة ايجاد الوسطية، وفق مفاهيم تبسط أزمات العقل العربي وإخفاقات التنمية، دون قدرتهم على نقد الآليات الدينية والسياسية التي تشرعن وتبقي على التخلف العربي والفشل والعجز في الانتقال الي عصر الحداثة وعلمنة الدول والمجتمعات العربية. فلا يمكن الحديث، بعد اشتداد الأزمات الطائفية وعجز الثورات العربية من إحداث التغيير المطلوب في الدول العربية، عن مشروع الحداثة والتنوير والعلمانية، إلا داخل الدين الاسلامي والعادات والتقاليد، فالمسألة في جوهرها هي الوعي بالزمان المتغير والرغبة في تملكه على أسس علمية عقلانية تقطع مع الماضي لتؤسس حضارة كونية تتماهي مع الإنسانية العالمية، وتبتعد عن أزمة تداخل الأزمنة كما يعيشها العرب حيث أصبحت الأصولية الدينية هي التقدم والماضي الديني هو التحضر والتراث الديني هو السلوك الانساني اليومي، مع إضافة بعض الرتوش والإصلاحات الشكلية للكذب على الوعي العربي، وخلق صورة، ما هي في الواقع إلا صورة تحمل تشوهات عقلية وانحطاط فكرى وتراجع أخلاقي.

د. عبدالعزيز عبدالله القناعي
[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الاسلام السياسي
عبدالعزيز القناعي ( 2015 / 8 / 30 - 09:57 )
عزيزتي كوثر

لاشك أن الاسلام السياسي بشقيه السني والشيعي من الاسباب الرئيسية لتخلفنا السياسي والاجتماعي، ولكن لكي نكون اكثر دقة وصراحة ومكاشفة علينا ان نسبر الأغوار اكثر..فمن غير المعقول ان نحاسب تيارات اسلامية سياسية من دون ان ننقد المصدر الفكرى الذي يعتمدون عليه وخصوصا حين يخبروننا بأن مرجعيتهم دينية مقدسة متعالية لا تخضع للنقد والمسائلة..هنا بالتحديد نقع في اشكالية الدين وتحوله الي السياسة وبالتالي فهو يعتبر المسؤول الاول في تردي اوضاعنا طالما لم يتم فصله عن الدولة.

تحياتي وشكرا على التعليق.


2 - ثقافه الاحتلاف
emad ( 2015 / 8 / 30 - 13:58 )
لاسف يجهل بنى عربان ثقافه الاحتلاف
كل من يختلف معى هو عدوى
وانا اعبد الله
عدوى هو عدو الله
عدو الله يجب قتله
هذه لاسف حياتنا
نحن شعوب ترفض التجديد
شعوب تقتفى اثر من قبلها
تمشى على درب السابقين
لا يهم اين يقود هذا الدرب
المهم اننا على درب السابقين


3 - الخوف من نقد المقدسات الدينية
شاكر شكور ( 2015 / 8 / 30 - 15:33 )
الفكر الإسلامي وشرائعه مستمدة من بيئة صحراوية لزمن الغزوات ولا ينفع تطبيقها إلا للزمان الذي وضعت هذه الشرائع فيه ، برأيي لا يمكن تطبيق مثال الصحوة الأوربية بعزل الدين عن الدولة على الدين الإسلامي لأن فكر هذا الدين لا يمكن ان يتتطاوع ضمن نظام علماني مثلا لأن الإسلام نفسه نظام سياسي ينافس اي نظام سياسي آخر يفرض عليه ، المسيحية في اوربا عزلت عن السياسة ونجحت التجربة لأن مفاهيم المسيحية ليست دستورية وحاكمية ارضية ، الإسلام يختلف لأنه شرائع تتدخل في كافة تفاصيل الحياة الأرضية ، الأسلام يستطيع اسلمة النظام العلماني لمجرد ان يسمع المسلم التحريض في خطبه سياسيه من خطب الجمعة ، الحل الوحيد برأيي هو تحريم الفكر الإسلامي دوليا لأن الإسلام هو نظام سياسي توسعي وهو ضد التقدم وضد الحضارة وضد الإنسان نفسه لأنه مبني على همجية الأحتلال الدائم للأرض ، تحياتي استاذ عبد العزيز


4 - الي عماد
عبدالعزيز القناعي ( 2015 / 8 / 30 - 20:16 )
نعم اتفق معك..نحن خلقنا من انفسنا اعداء لأنفسنا ومن ثم اتهمنا الآخر..خفنا وعجزنا عن مواجهة اسباب تخلفنا، ابتعدنا عن اصل ولب المشكله بالدوران حول مفاهيم سوء التطبيق ولم نفكر يوما ما بمساءلة التطبيق نفسه.

شكرا لمرورك والتعليق
تحياتي


5 - الي شاكر شكور
عبدالعزيز القناعي ( 2015 / 8 / 30 - 20:20 )
عزيزي شاكر احترم رأيك وهو بالتأكيد احد أوجه التحليل لسبب بقاء تخلف مجتمعاتنا دون وضع اليد على السبب الأساسي..يظل الدين مخدر ولكن ضمن اطاره الروحي والقانوني لمن يريد ان يعتنقه، وبالتأكيد مع الرفض التام لإدخاله في فضاء الدولة والمجتمع والقانون وإلا لحصدنا المزيد من المآسي والحروب الدموية.

تحياتي لك وأشكر مرورك والتعليق


6 - وفاء شهاب
عبدالعزيز القناعي ( 2015 / 8 / 30 - 20:21 )
شكرا على الإقتباس واتمنى أن تكون هذه الكلمات ذات أثر ايجابي.

تحياتي وشكرا لمرورك والتعليق


7 - الدين عدو البشر
محمد البدري ( 2015 / 8 / 30 - 21:18 )
في تعليقك علي كوثر: علينا أن ننقد المصدر الفكرى الذي يعتمدون عليه ...
علينا فعلا نقد القرآن وكل ما اتي به محمد وعصابته القرشية الوارثة للتراث العبراني اليهودي. فالكتب الثلاثة بتحليلها نجده موجهه ضد الانسانية بالاساس ولهذا تتمسك به نظم سياسية وهويات قومية تقول بعروبة المنطقة وبالتالي اسلامها
لقد اثبت الرجل انه يهودي بامتياز ولازال يتبعه الجهلاء رغم ان اليهود اليوم ارتقوا فوق توراتهم ودياناتهم وانشاوا دولة علمانية ديموقراطية (مهما حاول اليسار والقوميين نفيها) ويستحيل الاقتراب منها بل واصبح العالم جميعا يحترمها ويقوم بتأييدها ضد كل الجهلاء من جيرانها.

اخر الافلام

.. كيف تفاعل -الداخل الإسرائيلي- في أولى لحظات تنفيذ المقاومة ا


.. يهود يتبرأون من حرب الاحتلال على غزة ويدعمون المظاهرات في أم




.. لم تصمد طويلا.. بعد 6 أيام من ولادتها -صابرين الروح- تفارق ا


.. كل سنة وأقباط مصر بخير.. انتشار سعف النخيل في الإسكندرية است




.. الـLBCI ترافقكم في قداس أحد الشعانين لدى المسيحيين الذين يتب