الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جيل جديد.. مثقف جديد

سعد محمد رحيم

2015 / 9 / 3
المجتمع المدني


تُنبئ مراحل الأزمات الكبرى بولادات جديدة؛ جيل جديد ومجتمع جديد وثقافة جديدة ومثقف جديد. فعمليات المخاض المكلفة بدعم من شروط مؤاتية لابد من أن تحقق وعوداً ومفاجآت، من غير أن ننسى ضراوة القوى المعيقة المدافعة عن بقائها، وحروب المصالح المتقاطعة، ومن ثم إمكانية الإخفاق أمام الاحتمالات غير السارّة، وهي واقعية بطبيعة الحال. حيث يقاوم القديمُ الذي يرفض أن يموت الجديد الذي تصعب ولادته بحسب غرامشي.

ومن نافل القول إن الجديد لا يعني أنه قطع تماماً مع جذوره في الماضي، بل الأصح أنه راح يتعاطى معه برؤية مختلفة تتساوق وحاجات الحاضر والمستقبل. فيما القديم يعني، في سياق كلامنا، نمطاً من الأفكار والمؤسسات وآليات العمل التي ما عادت قادرة على التكيف مع تلكم الحاجات، وتلبيتها.
مثالاً حصلت قضية دريفوس الشهيرة في فرنسا نهايات القرن التاسع عشر في لحظة تاريخية مناسبة، منْ غير توافرها ما كانت لتلك القضية أن تأخذ بعدها الدراماتيكي المغيّر في ما بعد. فما فعلته أنها فتقت جلد الواقع الرخو سامحة لولادة نمط مغاير من المثقفين الفاعلين مجتمعياً وهم الذين أُطلق عليهم اصطلاح الانتليكتواليين ( Intellectuels ).. فإلى جانب مقتضيات سوق رأسمالية جديدة كانت ثمة أفكار تنضج على تخوم الحقل السياسي، فحواها الرئيس ( العلمنة )، وفي ضمن قوس مؤسسي واسع يبدأ من التعليم وينتهي بتحديد اتجاه نظام الحكم.
يقول مؤلفا كتاب ( تاريخ فرنسا الثقافي؛ من العصر الجميل إلى أيامنا هذه ) بترجمة؛ مصطفى ماهر: "كانت المعركة من أجل المدرسة العلمانية ضارية في بداية هذا القرن ( العشرين ). وقد كشفت قضية دريفوس Dreyfs النزعة النضالية العلمانية التي كانت غافية نتيجة لتحالف الكاثوليك مع النظام الجمهوري في عام 1892. أغلقت المؤسسات التعليمية ذوات الإدارة الدينية الرهبانية في عهد الوزير كومب Combes في عام 1904 واكتمل القطع نهائياً بالفصل بين الكنيسة والدولة في عام 1905".. وقد وُصفت هذه الحقبة المتوترة المأزومة، والضاجة بالمتغيرات بالعصر الجميل الذي شهد مولد الانتليكتواليين، وهم رجال أدب ورجال علم وفنانون كان ديدنهم الحقيقة والعدل والتصدي لقضاء ظالم، والدفاع عن الحقوق العامة، فضلاً عن "التزامات أخرى في حياة المدينة".. وهذا النمط من المثقف المهتم بقضايا التحوّل الاجتماعي والثقافي والسياسي أُعطي "وظيفة أخرى أكثر رمزية هي: استخدام رأسماله الفكري في أن يصبح ضمير أمة مضطربة".
ومنذ ذلك الحين حصلت قفزات كبرى في الوضع البشري، وصار العالم إزاء مشكلات مغايرة أشد تعقيداً واستعصاءً على الحل مما كان، على الرغم من المنجزات البشرية المذهلة في مجالات العلوم والتكنولوجيا والاتصالات والإعلام.. مشكلات تتعلق بالبيئة والسكان والهجرة والتهجير والحروب والنزاعات المحلية المسلحة والفقر والجريمة والمخدرات والأنشطة الاقتصادية غير المشروعة والفساد والطبيعة الاستبدادية للأنظمة السياسية، الخ.. وهذا ما فرض ضرورة النظر إلى العالم بعدّة منهجية ـ معرفية غير تلك التي كانت صالحة قبل عقود قليلة.
اُستهلكت طوال سنوات اصطلاحات كان لها بريق جذاب في الأوساط المثقفة والأكاديمية، وعند قوى المعارضة السياسية، لاسيما في عالمنا الثالث ( إن صحّ استخدام هذا الاصطلاح حتى الآن ). ومنها؛ المثقف العضوي، والمثقف الملتزم. وهما اصطلاحان نُحتا في سياق تاريخي مختلف، واكتسبا دلالات متباينة لمّا جرت استعارتهما في ظروف وسياقات تاريخية أخرى.. ففي العالم الثالث ومنه العراق، خرج المثقف الحديث من تحت يافظة المعارضة السياسية إبان عهدي الكولونيالية والاستقلال.. ومنذ البدء كان هذا المثقف مثقلاً بالإيديولوجيا، ومحفَّزاً بفائض من الانفعالات، وحالماً بيوتوبيا صلتها واهنة بالواقع، وعلى عجلة من أمره. وقد صنع دراما مؤسية ومريرة ثيمتها التعثر والصدمة والإخفاق والإحباط.. كان بطيء التعلم من الدروس بسبب محدِّدات الإيديولوجيا التي أبقته في حالة نظر عبر زاوية ضيقة.. كان المشهد واضحاً أمامه لكنه لم يرد رؤيته ممتداً مجسّماً صاخباً ومتغيراً. كان يكذّب عينيه ويصدِّق أفكاره المسبقة. وكان بحاجة إلى أكثر من ضربة على الرأس ليستفيق أخيراً ويرى الهول.. وهكذا انتهى عصر المثقف الرسولي، وحلّ محله عصر آخر متخم بالمشكلات، ويضيق ذرعاً بالتجريد والسفسطة، ويرغب بحلول واقعية عملية ذات نتائج ملموسة، لأن مع كل لحظة تمر يسقط ضحايا آخرون، وتزداد قوافل الناس المتألمين، في أكثر من نصف بقاع الأرض، معظمهم من سكان هذا العالم الثالث، ومنه كما قلنا؛ العراق.
ما يجب أن يتعلمه المثقف الآن هو نسيان البلاغة الفضفاضة لخطابه ذي المحمول السياسي/ الاجتماعي المبتذل، والتعاطي مباشرة مع مفردات الواقع الصغيرة منها والكبيرة التي تتموج أمامه في البيت والمؤسسة والشارع والمحفل العام، في كل ساعة وكل يوم.. الواقع بتناقضاته وصراعاته وتحوّلاته ومفاجآته، المرئية منها وغير المرئية، في المتون وعلى الهوامش، ليبتكر خطاباً سياسياً يتساوق وروح العصر ومتطلباته.
الآن، نحن نعيش لحظة الأزمة المولِّدة فكيف لنا أن نتصوّر إزاحات في الوعي السياسي العام؟ وهل يصح ذلك من غير تفعيل البعد الثقافي مجتمعياً، وإعادة الاعتبار له؟.. ألا يتطلب هذا موضعة جديدة للمثقف، بوصفه فاعلاً اجتماعياً، في القلب من الحدث الراهن؟. وبالتأكيد؛ لا بحسب الفكرة التقليدية المتشحة بالاستعلاء إذ يلقن المثقفُ العارفُ الجموعَ الجاهلةَ غيرَ العارفة، بالتعاليم الإيديولوجية غير القابلة للنقد، كما ظلّ يظن. وإنما أن تأخذ وظيفة المثقف، في ضوء حضور الثقافي في الحراك المدني، صيغة إدارة النقاش العام حول المسائل الجوهرية الملحّة في الحاضر، وطرح المفاهيم والأفكار والتصوّرات المنشِّطة للحوار عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي والندوات والاجتماعات المباشرة، حيث يكون من حق الجميع وبمقدورهم الإفصاح عن آرائهم واعتراضاتهم، بشرط واحد؛ أن يجري ذلك بعقول مفتوحة مستعدة للمراجعة حين تكتشف أنها على خطأ.
واليوم، عراقياً، بمعاينة ساحات الاحتجاج المدني نجد أنها تتيح لحظة الضرورة التي على المثقف استثمارها لاستعادة مكانته في الحياة الاجتماعية والسياسية العراقية. وهذه المكانة لا تُستحق إلا بوساطة أدائه لدوره الثقافي الجديد بالتأثير في الرأي العام وإنضاجه، وهي الفرصة، وللمثقف دوره الأبرز في هذا، لجعل ساحات الاحتجاج مصهراً يُعاد فيه نسج اللحمة الوطنية التي مزقتها صراعات السياسة الرعناء اللاأخلاقية. والمكان الذي ينبغي أن تُهزم فيه الولاءات المتعصبة ما قبل الدولتية كالطائفية والعشائرية والمناطقية وما شابهها.
تخلِّصُ ساحات الاحتجاج المدني الشباب من حالة الشعور بالعقم والعطالة واللاجدوى والعجز واليأس، وتعيد لهم الثقة بأنفسهم بعدِّهم فاعلين اجتماعيين مؤثرين. ومن هنا بالمستطاع وصفها بساحات الأمل.. وقد نصل بتفاؤلنا إلى حد القول إن ساحات الاحتجاج المدني ستعلِّم شبيبتنا السلوك الديمقراطي الحق، وستؤسس لتقاليد سياسية جديدة، وستهيئ لظهور تيارات فكرية وسياسية لم نعرفها من قبل، ولبروز شخصيات قيادية شابة تكون النواة للطبقة السياسية في المستقبل. وتلك التقاليد الجديدة إذا ما أرسيت في فضاء الفعاليات السياسية فإنها ستتكفل بتغيير خطاب السياسة من الشتيمة والاتهامات المجانية للمخالفين والبلاغة الرثة الجوفاء والوعود الكاذبة والزيف والخداع إلى التحليل النقدي والرؤية الواقعية والتقويم العلمي الرصين وروح الحوار.
ومن وحي هذه الساحات، إذا ما بقيت سلمية ومدنية ومدامة بزخم الشباب من الجيل الجديد وإرادتهم ووعيهم، لابد من ولادة مثقفين جدد يعملون على إعادة بناء المجال السياسي على وفق معايير عصرية متقدمة، تتحقق بوساطتها على أرض الواقع القيم التي يؤمنون بها، ومنها الحرية، العدالة، حقوق الإنسان، التنمية والتقدم التقني والحضاري، تطوير التعليم، السلم الأهلي، الخ..
تفضي الاحتجاجات ومجمل فعاليات الحراك المدني السلمي، آجلاً أو عاجلاً، إلى تغييرات تصحيحية في الخريطة السياسية. وهناك، مع تلكم التغييرات، من سيجد نفسه، من السياسيين أو غيرهم، في موضع تهديد وضرر. لذا لست أقصد أن كل شيء سيحصل بسلاسة ومن غير ما يعيق مجراه..
إن المثقفين برأسمالهم الفكري لا يحوزون سوى الإرادة الحرّة وشجاعة إبداء الرأي وقول الحق، وأن جيل الاحتجاجات المدنية لا ينطلق إلا بقوة العزيمة والوعي وطاقة الشباب، في مقابل ما يمتلكه مَنْ سيعادونهم من أصحاب السلطة والمال من وسائل العنف والإكراه والمؤامرة، وحتماً سيسعى هؤلاء إلى إبقاء المجال السياسي على ما هو عليه، أو تكييفه في ضوء مصالحهم، حتى وإن فتك مسعاهم بمصالح المجتمع، وعرّض مستقبل البلاد للخطر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. منظمة -هيومن رايتس ووتش- توثق إعدام 223 مدنيا شمال بوركينا ف


.. بعد فض اعتصام تضامني مع غزة.. الطلاب يعيدون نصب خيامهم بجامع




.. بينهم نتنياهو و غالانت هاليفي.. مذكرات اعتقال دولية بحق قادة


.. بسبب خلاف ضريبي.. مساعدات الأمم المتحدة عالقة في جنوب السودا




.. نعمت شفيق.. رئيسة جامعة كولومبيا التي أبلغت الشرطة لاعتقال د