الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


موت إبن الملك

ياسر العدل

2005 / 10 / 20
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


مخادع من يقول أنه رأى الموت بأم عينيه، رأسا تنفجر بقنبلة، بطنا يتمزق بسكين، وجها يحترق فى النيران، رقبة تشنق فى الزنزانة، مرشحا ينجح فى الانتخابات، مخادع من يتحدث عن الموت ويمارس فرجة الحياة.
الموت لا يعايشه إلا الموتى، وحدهم يتجرعون كأسه ويتذوقون عسله، لا أحد من أحياء البشر يعرف بالضبط ما الذى يجريه الموت على أصحابه، الغالب فى تاريخنا أن الموتى لا يتكلمون، والغالب فى زماننا أن الأحياء يلعبون مع الموتى لعبة الذكرى العابرة فى بعض زمن أو لعبة الخلود الطاغى فى كل زمن، يموت هذا الإنسان فلا يهتم به أحد، ويموت ذاك الإنسان فتقوم له الدنيا ويذكر أثره كل أحد، وفى الوقت غير المناسب يغادر الموتى دنيانا عرايا تاركين لنا متعة الكلام، نلبسهم الألقاب والصفات والدرجات الوظيفية، نلوك خصالهم فى صالونات الحلاقة والأدب والمقاهى ومجالس الإدارة، نذكر غيبتهم نميمة وغناء وأقوالا حكيمة.
ولدتنا أمهاتنا فى القرية أطفالا بريّة، نحبو بين الدواجن أمام أفران الخبيز، ونمرح مع القطط فى الأجران، ونتقافز خلف الكلاب على جسور الترع والمصارف، نتحدى بقدراتنا عوائق الطبيعة، وحين تعجز قدراتنا عن تحقيق أحلامنا الصغيرة، نرجئ انتصارنا على الطبيعة بقدرات الملك المعجزة.
الملك فى قريتنا يعبر اتساع النيل فى خطوة واحدة، يجرى فيسبق كل الخيول والذئاب والحمير، يشوط كرة الشراب فتعلو كل الأجران وتدخل كبد السماء، يدير السواقى بإصبعية فترتوى كل الأرض، يضيف العجائز قدرات سحرية للملك، يشيعون أنه فى ليلة قمرية تمثل له الشيطان فى صورة حمار قوى يجوب أرجاء القرية، وحين ركب الملك ظهر الحمار الشيطان أخذ الظهر يرتفع، والملك يتعاظم ويبصر الناس والأشجار والقرى، وحين وصل الملك إلى تعاظم يرضيه، دس مسمار الحديد فى ظهر الحمار الشيطان، فخضع الحمار الشيطان لرغبات الملك، كان الملك قد زرع مسامير السلطة فى ظهور الناس يتحكم فيهم كيف يشاء0
هكذا عاش الملك فى وجدان قريتنا بهاء ساحرا جميلا قويا، يملك أيادى القوة والكرم، وله كثير من الزوجات والأولاد والبنات والخيول والحمير والخفراء.
كانت جموع الأحياء فى قريتنا على معرفة بأسرار قوة الملك المعجزة، فالملك يشرب يوميا على الريق عصير مئة زوج من صغار الحمام، ويأكل لحم ثلاثة خراف ثمينة فى الغداء، ويبلع بلاصا من العسل المصفى، ويتعشى بلحم البط والديوك الصغيرة، ولا يحشى بطنه بالخبيز.
لم نر الملك يسير فى حوارى قريتنا، لكننا وزعنا قدراته إلى حيثيات يمارسها أبناء الملوك أنفسهم، أصبحنا نرى ابن الملك من صفات الملك، يتسلق فروع الأشجار العالية ويقذفنا بحبات التوت والجميز، يقفز طائرا فوق القنوات ويمسك بأفراخ الغيط، يعس غويط الجحور فى قاع الترع ويصطاد السمك، يجوب الحقول الخضراء ويسرق البصل وحبات الطماطم وكيزان الذرة، كان ابن الملك يعيش بيننا جريئا قويا يعبر الشارع عاريا دون أن يلحق به أحد، أما بنت الملك فقد ظلت جمالا وفتنة مخبوءة.
وحين هاجمتنا أسباب الحياة فى المدينة، جابت السيارات شوارع قريتنا، تثير التراب والضوضاء والخوف والترقب، تحمل المرضى والمقرئين والمنشدين والطعميّة والمشمش وأوراق الصحف والجلابيب النظيفة والمياه الغازية، وجلبت السيارات لنا ألعابا جديدة نمارسها كأبناء الملوك، نتعلق بمؤخرة السيارات حتى وان سحبت أجسادنا على الأرض، نسابقها فى الجرى حتى وان ضربت أجسادنا بالمصاطب وتلال السباخ، نركب خيولنا من أعواد الغاب والبوص، وحين تجمح بنا تسلخ أوراكنا ونسابق بها الطائرات وحمير الحديد، كانت أحلامنا وحبنا للحياة أسبابا شققنا بها عصا الكفر بقدرات الملك المعجزة.
وحين تشربت دروب حياتنا بزخم الحرية على أطراف المدن، أدركنا بعضا من أسباب التحضر، ملكنا أبواب المعرفة لقدرات البشر الواقعية بعيدا عن معجزات الملوك، وأصبحنا نثق بقدراتنا ولا نحقر قدرات الآخرين، فالحواسب الإلكترونية تحفظ أكثر من ذاكرة ملك، والمناظير ترى أكثر من عيون ملك، والصواريخ أسرع من خطو ملك، وبات انفجار قنبلة واحده اقسى خرابا من كيد ألف شيطان، وأصبح ابن الملك ليس بملك.
إن تقدم الإنسان فى بلادنا مرهون بموت معجزات أبناء الملوك والدخول فى عصر العلم والحرية، تقدمنا مرهون بأن تتشرب عقولنا بالمعرفة وتفيض قلوبنا بإرادة الحياة، وبأن نحب فرجة الحياة، ونعرف أسباب الموت لإنقاذ هذه الحياة0
د. ياسر العدل








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. التركمان والمسيحيون يقررون خوض الانتخابات المرتقبة في إقليم


.. د. حامد عبد الصمد: الإلحاد جزء من منظومة التنوير والشكّ محرك




.. المجتمع اليهودي.. سلاح بيد -سوناك- لدعمه بالانتخابات البريطا


.. رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك يزور كنيسا يهوديا في لندن




.. -الجنة المفقودة-.. مصري يستكشف دولة ربما تسمع عنها أول مرة