الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التفسير الاجتماعي للكذب في المجتمع العراقي

محمد لفته محل

2015 / 9 / 10
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الكذب ظاهرة نفسية واجتماعية ولا بد لكل شخص منا أن صادف وتعرف على شخص كذاب في حياته العملية بالشارع أو الوظيفية أو العمل أو المقهى أو الجامعة، والكذب مدان أخلاقيا ودينيا مع ذلك الكذب منتشر اجتماعيا؟ فالشك يسبق الثقة بالآخرين، والذي يقدم الثقة وحسن النية يكون ساذج ومن (أهل الله) في نظر الناس، ولكن اللافت للنظر إن للكذب قبول ضمني اجتماعي غير معلن في حالات خاصة مثل الكذب في البيع والشراء أو الكذب في المزاح أو الكذب في المجاملات والآداب الاجتماعية، ترى لماذا يكذب الناس وهو مدان اجتماعيا؟ وكيف يقبل المجتمع الكذب وهو يدينه؟ وهل لعلم الاجتماع تفسير للكذب؟ وهذا ما سأبحثه الكذب بين الإدانة الأخلاقية والقبول الاجتماعي له في مجتمعنا العراقي من منظور علم الاجتماع.
يسمى الكذاب بتوريات ساخرة في مجتمعنا (هلاش، يحمه، يطير فيالة، همبلة، أبو فخري)، والمثل يقول إن الكذاب احترق بيته فلم يصدقه الناس حين راح يستغيث بهم، أو (يفوتك من اﻟ-;-ﭽ-;-ذاب صدﮒ-;- ﭽ-;-ثير) أي أن الكذاب لا نصدق حتى صدقه، بسبب فقدان ثقة الناس به، مع ذلك لا يتخلى الكذاب عن كذبه! ورغم هذه الإدانة الأخلاقية للكذب هناك قبول اجتماعي ضمني له غير معلن كحالة البيع والشراء حين يكون من حق البائع خداع المشتري ببضاعته ببيعها بأغلى سعر ممكن بإقناعه بمواصفات بضاعته الممتازة مهما كانت رديئة حالفا بأغلظ المقدسات، من جانبه يكون المشتري حذرا من البائع فيبخس من حق بضاعة البائع والتقليل من قيمتها وسعرها المعروض إلى الحد الأدنى الممكن حتى يصل الطرفان إلى التوافق في لعبة صراع الكذب المتبادل الذي يسمى بالعامية العراقية (عِملة، معاملة) وبعد أن ينتهي صراع الكذب على اتفاق وسطي يختم البائع كلامه بكذبة أخيرة حين يسدد المشتري المال (خليهَ على حسابي) مدعيا بيع بضاعته مجانا على حسابه!! هذا الكذب المقبول اجتماعيا ومن حق كل بائع أن يكذب على الشاري، والشاري يعلم بالكذب فيحاول أن لا يقع في خداع البائع فيكذب هو الآخر بالتقليل من قيمة البضاعة وسعرها، فيكون الكذب مزدوج بين البائع والمشتري، وحين ينخدع المشتري يقع اللوم عليه كمغفل والقانون لا يحمي المغفلين كما يقال! وهذا يعني إدانة الضحية وتبرئة البائع الكذاب (الجاني)! ولا حيلة للضحية غير اتهامه (ما يخاف من الله) والدعاء له بالبلاء الإلهي، والتفسير لهذه الحالة وفق نظرية عالم الاجتماع (علي الوردي) عن صراع البداوة والحضارة هو أن تراث البداوة يتحكم بالطرفين القائم على مبدأ (الغلبة) فكل من البائع والمشتري يريد أن يغلب خصمه (نظيره) والمجتمع كمصدر لهذه الثقافة من الطبيعي انه سينصر الغالب ويترك المغلوب بدون حق، يقول (علي الوردي) أن أصحاب الحرف (يعدون الزبون كأنه "مغنم" فهم يصاولونه ويساومونه، ويستخدمون في سبيل إقناعه مختلف الأساليب. والزبون قد يكون مثلهم، فهو قد نشأ في الأزقة مثلهم. ولهذا تطول المساومة بينه وبينهم، وربما اتخذت صورة المبارزة والمصاولة، حيث يحاول كل فريق أن يخرج من الصفقة غالبا لا مغلوباً.)(1). وهناك سبب آخر أيضا هو تقسيم الناس إلى أقرباء وغرباء، فالقريب الذي يسمى (عِرف) (مني وبيا) يكون موضع ثقة، أما الغريب فهو كالذئب يظل يشك في نواياه ويخافه لأنه غير موثوق به، فترى الزبون يحاول أن يجد بائع (عِرف أو معارف) سواء كان (ابن ديرته، ابن ولايته، ابن منطقته، جيرانه) حتى (يدير باله عليه) أو يتخذ شخصا وسيطا له (دزني عليك فلان يسلم عليك) حتى لا يغشه، والبائع يحاول أن يطمئن الشاري بعبارة (هاي إلك بسعر كذا) أي أنها خصيصا لك هذه التسعيرة المخفضة، وهذا التقسيم نابع من العصبية القبلية التي ترى كل ما هو خارج جماعتها غريب يجب الحذر منه وعدم الثقة به. كذلك يكون الكذب مقبولا في المزاح والذي يسمى أحيانا الكذب الأبيض، وهو مشروع في ما يعرف إصلاح ذات البين، أي إصلاح بين متخاصمين، وفي والمجاملات كعدم ذكر مساوئ وأخطاء وعيوب الآخرين حتى لا تجرح مشاعرهم وكرامتهم، لأننا مجتمع نرجسي نفتخر بأجدادنا وأنسابنا ونعتبرها أطهر أصل وأشرف من غيرها ونعتبر أنفسنا أفضل أمة بالكون، وأي نقد نعتبره شبهة واهنة وكره وضغينة، لذلك المدح هو الذي نحب أن نسمعه فقط حتى لو كان كذبا ومبالغة وعليه أصبح الكذب مدحا مباحا اجتماعيا، والكذب مقبول بل وملزم في الآداب الاجتماعية كدعوة الآخرين للضيافة (يله تفضل ويايه، والله) أو حين تأخذ مالا دينا (خليهَ خاف ما عندك) أو حين يهم الضيف بمغادرة منزلك يجب أن تقول (وين رايح؟ بعد وكت) أو (أبقى عالعشى أو عالغدى) أو تقول له بعد الضيافة (اعذرنا عالتقصير) فيرد عليه المدعو (شكرا، رحم الله والديك، دايم الله يخليك، الله يزيدها عليكم) وهو كذب يقر به المجتمع ويلزمه، بغض النظر عن صدق النية، بل مجرد كليشة يجب أن تقال في مواقف محددة، وكل من لا يلتزم به يكون قليل الأدب! والناس تقول عن هذه الآداب (ﺤ-;-ﭽ-;-اية اﻟ-;-ﺗ-;-ﻨ-;-ﮕ-;-ال ولو باﻟ-;-ﭽ-;-ذب) أي تقر بنفسها بشرعية الكذب، وهو كذب مزدوج أيضا يعلم به الطرفان الداعي والمدعو، وهذه وسيلة ضبط اجتماعي لترسيخ التراحم والتواصل والتماسك بين الأفراد خوفا من ضعف الصلات بينهم، وهناك كذب قيمي نتيجة القيم الاجتماعية مثل الكذب الذي يكون خوفا من الحسد حيث الغني يدعي العوز أو يكذب بشأن ثروته وأملاكه، أو كذب الرجال بالمبالغة بقدرته الجنسية أو مبالغته بأنه زير نساء أو انه لا يُغلب في أي شيء أبدا، وهناك كذب بالعكس يأتي لغياب أشياء وليس لوجودها وهو أيضا كذب قيمي، فلأن الفقير محتقر اجتماعيا يكذب بعض الفقراء بأنهم أغنياء، أو الادعاء بالنزاهة وهو فاسد وهكذا.
الذي أريد أن أصل إليه أن المجتمع هو من ينهى عن الكذب وهو من يعلمه بنفس الوقت! وهو احد أسباب شيوع الكذب في المجتمع العراقي، فما دام المجتمع يبيح الكذب في حالات وظروف معينة فالفرد يحق له بمبررات أن يكذب أيضا، ومادام المجتمع هو المعلم فطبيعي أن يقلده التلميذ (الفرد)، وهذا ما أوجد ثغرات أخلاقية تتيح لنا غش الآخرين بالكذب عليهم بدون إدانة، انه كذب متعلم من المجتمع وليس من الأفراد، ولا علاقة له بنفسية الشخص، فنرى الكذب في البيع وفي أصحاب المهن برفع أجورهم وسوء تنفيذ العمل إذا لم يكن الزبون (صاحب المال) مشرفا على الحرفي، ونرى كثير من العلاقات الاجتماعية يشوبها الكذب والنفاق والنميمة رغم الود والتواصل المتبادل اجتماعيا، لكن هذه الأكاذيب أصبحت تقاليد ومن الصعوبة اقتلاعها من المجتمع، بالتالي تحتاج إلى جهد تربوي وإشاعة ثقافة النزاهة والصدق في حياتنا الخاصة والعامة والمهنية، من خلال العقوبات والمكافئات، والنموذج الأمثل في النزاهة.
ــــــــــــــــــ
1_الدكتور علي الوردي، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، إصدارات دار الحوراء، 2005، ص316.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تدرس نقل السلطة في غزة إلى هيئة غير مرتبطة بحماس|#غر


.. القوات الإسرائيلية تدخل جباليا وتحضيرات لمعركة رفح|#غرفة_الأ




.. اتهامات جديدة لإسرائيل في جلسة محكمة العدل الدولية بلاهاي


.. شاهد| قصف إسرائيلي متواصل يستهدف مناطق عدة في مخيم جباليا




.. اعتراضات جوية في الجليل الأعلى وهضبة الجولان شمالي الأراضي ا