الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تنقيب في اللغة عن الآلهة الأولى

شريف حوا

2015 / 9 / 17
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لاشك أن اللغة العربية تعاني اليوم من استعصاء في مواكبة التطور الحضاري والعلمي الواسع، لكن لا يمكننا أن ننسى بأن جذورها تضرب في صلب التاريخ، وأنها تنتمي إلى اللغات السامية، أقدم ما تحدث به الإنسان ودونه.

لو بحثنا عن كلمة قطران في المعجم لوجدنا أنها تعني "حياة الموتى"، في حين أننا نستعمل القطران الآن في أشياء ليس لها أدنى علاقة بالموتى. ثم هذا المعنى نفسه يكاد لا يعقل فالحياة بالطبع شيء لا يمكن أن تكون هذا السائل الذي يسمى قطراناً. ولكن المعجم لا يقول أنه حياة فحسب بل حياة الميت. فما هي حياة الميت؟

إننا بعد التأمل لا نجد معنى لهذا التفسير إلا أنه وصف للقطران من حيث استعماله عند القدماء في التحنيط. فقد كان المصريون يحنطون الموتى لكي يحيوا هذه الحياة الثانية في العالم الآخر، وكان القطران من أهم السوائل التي ينقع فيها الجسم لكي يحتفظ بأنسجته فلا تفسد. فبقي في اللغة العربية وصف القطران بحياة الموتى حتى إلى ما بعد زوال التحنيط.

ولكن البحث عن "الحياة" يستدرج القارئ إلى بحوث أخرى أعمق وأبعد من البحث عن القطران. فلو قيل لك أن في العربية لفظتين هما الحياة والحياء لما شككت في اتصال النسب بينهما. وكلنا يعرف ماهية الحياة أو مدلول اللفظة على الأقل. ولكن ما هو معنى الحياء؟ يقول المعجم: "هو عضو التناسل في المرأة". ولكن ما علاقته بالحياة؟

كان الإنسان القديم في العصور الحجرية يعتقد أن المرأة هي الأصل في التكاثر وأن الرجل لا قيمة له فيه. وكانت الظواهر كلها تدل على ذلك ولم تكن هناك أية علامة يمكنه بها أن يعرف منها أن النسل هو ثمرة الذكر والأنثى. ولهذا السبب عزا إلى عضو التناسل في المرأة صفة الحياة أي أنه هو الأصل لكي حي يولد وأطلق عليه اسم "الحياء". وبقي هذا اللفظ في لغتنا كالعضو الأثري في جسم الإنسان، هو أتفه الأشياء من حيث وظيفته وحجمه ولكن له خطورة عظيمة في البحث عن تاريخ الإنسان.

وهذا يقودنا إلى أن نتعمق قليلاً في البحث عن إحدى العقائد التي تفشت بين الناس في العصور الحجرية وما تزال فاشية بيننا، نعني بها "الإيمان بالودع" الذي يعلق الآن للصبيان لدرء العين وجلب الصحة والسلامة، وهو الذي يأتزر به شعوب القبائل البدائية، يعلقونه من أحزمتهم على سبيل الزينة أو لجلب الصحة والسلامة. فهذا الودع نفسه يقول عنه المعجم: "هو خرز أبيض يتفاوت في الصغر شقها كشق النواة تعلق لدفع العين" ثم يقول: "وذوات الودع هي الأوثان" ثم يقول: "ذات الودع هي الكعبة لأنه كان يعلق الودع في ستورها". فمن أين صار للودع هذه الأهمية؟

كان القدماء في العصور الحجرية أي قبل أن يعرفوا الزراعة يضعون مع الميت مقداراً من الودع، وبقيت هذه العادة معروفة عند المصريين حتى أنهم بعد اكتشافهم للذهب صاروا يصنعونه ودعاً يضعونه مع الميت.

إن من يتأمل الودعة لا يسعه إلا الاعتراف بالمشابهة بينها وبين عضو التناسل عند الأنثى. وهذه المشابهة هي التي قادت الإنسان القديم لأن يتخذ من الودعة أداة لابتعاث الحياة. فقد قاده تفكيره إلى أنه مادام الحياء هو أصل الحياة فالودعة التي تشابهه يجب أن تكون أصلاً للحياة أيضاً. فهو إذا حملها ردت عنه الموت ثم إن وضعها مع الميت أكسبته حياة قد تخالف ما ألفناه منها ولكنها مع ذلك "حياة".

ولكن ما يبعث الحياة ويحتفظ بها يجب أيضاً أن يحتفظ بالصحة والسلامة من المرض ومن الوحش والعدو والعين. وكذلك يمكن العاقر أن تحمل بضع ودعات على مئزرها لكي تحمل، وعلى الحامل أن تعلق بضع ودعات أيضاً لكي تلد ولادة حسنة.
ولكن يجب ألا ننسى هنا شيئاً، وهو أن المرأة لم تلبس المئزر أولاً ثم علقت عليه بعد هذا الودع، وإنما هي اخترعت المئزر لكي تعلق عليه الودع أي لولا هذه الودعات لما عرفت المئزر ولما استعملته.

وربما كان هذا المئزر هو أصل اللباس في تاريخ الإنسان، فإنه بعد أن كان أداة لحمل الودع صار بعد ذلك يستعمل للزينة والتجميل.
ولكن الإيمان بالودع قاد الإنسان إلى أن يستعمل ما يشبهه من المحار ثم إلى ما يشبهه من المرجان؛ هذا الحجر الذي يشبه الشجر. ومن لفظة مرجان الفارسية نعرف منطق الإنسان الأول وكيف كان ينظر للأحجار الكريمة. فإن "مرجان" مؤلفة من "مر" أي مانح، و"جان" أي الحياة. فالمرجان هو كالودع يمنح الحياة.

ومن هنا ندرك تعليق الأحجار الكريمة على المعابد والأصنام القديمة. وكذلك ندرك معنى الإكسير الذي نسب إلى هذه الأحجار والذي مايزال ينسب إليها عند بعض الأمم المتخلفة. ثم بعد ذلك نفهم الغرض من رحلة المصريين إلى الأقطار النائية لكي يبحثوا عن هذه الأحجار الكريمة ينشدون فيها إكسير الحياة الذي يمنع الموت، ويجعل العاقر تلد، ويحفظ الناس عافيتهم، حتى عند الموت حيث يكفل للميت حياة أخرى.

وبعد أن اكتشف الإنسان الزراعة في مصر وعرف منها أن الماء أصل كل شيء حي بقي للودعة مقامها القديم فكانت "الأم العظيمة" في عقائدهم. ولم ينسها المصريون إلا عندما عرفوا ما هو أثمن منها من الأحجار. ولكن للودعة مقامها حتى في أيامنا هذه بين العامة والقبائل البدائية في أفريقيا مثلاً.


و"الأم العظيمة" هي أشبه شيء بربة الإنسان في العصر الحجري، وكلمة "ربة" نستعملها هنا على سبيل المجاز لأن الإنسان الأول لم يكن يعبدها وإنما كان يستعملها كما نستعمل الآن التمائم؛ يعلقها من مئزره أو يضعها مع الميت كي تجعله يحيا. وكان قبل أن يستعمل الودعة لهذا الغرض يصنع تمثالاً للمرأة من الطين ويبالغ في تصوير الأعضاء التناسلية اعتقاداً بأنها أصل الحياة والباعثة لها، ثم استبدل بها هذا لودعة.

وأخيراً عندما اكتشف الإنسان الزراعة واستأنس البقر نقل صفة "الأم العظيمة" إلى البقرة. وذلك لأنه عندما تعلم كيف يحلبها رأي فيها أماً رؤوماً ترضع الإنسان، فاستغنى بالبقرة يعبدها ربةً جديدةً بدلاً من تلك التمائم القديمة.

ومن ثم نشأت الآلهة ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تاريخ الكلمات
صلاح البغدادي ( 2015 / 9 / 18 - 04:45 )
في الجاهلية ،كان هناك صنم تعبده بعض القبائل اسمه (دوار)
كانوا يطوفون حوله،وبعضهم يصيبه الاعياء،فيسقط مغشيا عليه
فيقولون (اصابه دوار)
لاحظ استاذ كيف انتقلت هذه العبارة الى حياتنا،فنقول عمن تصيبه دوخه،اصابه دوار،ومنها ايضا دوار البحر
كل كلمه لها تاريخ
لقد كنت منقبا رائعا في احافير اللغه ،فشكرا لك

اخر الافلام

.. عمليات موجعة للمقاومة الإسلامية في لبنان القطاع الشرقي على ا


.. مداخلة خاصة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود أولمرت




.. 108-Al-Baqarah


.. مفاوضات غير مباشرة بين جهات روسية ويهود روس في فلسطين المحتل




.. حاخامات يهود يمزقون علم إسرائيل خلال مظاهرة في نيويورك