الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حديث جدتي، وجملة ابي وحياتي.

خطاب عمران الضامن
باحث وكاتب.

(Khattab Imran Al Thamin)

2015 / 9 / 18
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


طالما سمعت أحاديث من جدتي الكريمة والقريبة على قلبي، أحاديث حزينة أسفاً منها وألماً لذكرى ولدها الفقيد وهو والدي أبنها الأكبر عمران, كلما زارتني أو زرتها.
وفي احد الأيام طلبت منها أن تحدثني عن ذلك الحزن الذي طالما كبتته في قلبها تجاه ولده الفقيد. فطلبت منها أن تبوح...
عندها تنهدت قليلاً ثم قالت جدتي:

كان والدك في صفوف القوات العراقية في بداية الحرب مع إيران، حيث أجبر ولبس العسكرية مرة أخرى، بعد أن أتم خدمته الإلزامية في الجيش وهو خريج كلية الآداب جامعة البصرة حينها ومن قسم الجغرافية، ونتيجة لظروف الحرب القاسية وقلة أيام الأجازة، اعتاد أن يمضي شهراً في خدمته العسكرية, ليعود بإجازة أمدها أربع أو خمسة أيام, لينعم برؤانا وننعم بالاطمئنان علية في تلك الحرب التي حصدت أرواح مئات الآلاف من الشباب كما لو كانت الطاعون أو غيره من الأوبئة في سالف الأزمان.
وفي أحدى الإمرار أطال ولدي الغيبه, مضى شهر وانقضى الشهر الثاني دون أن نسمع ضجيج إخوته الصغار، وهم يهتفون باسمه ويركضون لاستقباله من الطريق الترابي المؤدي إلى دارنا الذي تقع فوق تلةً عالية من التلال المطلة على نهر دجلة.
وبعد سبعون يوماً أمضيناها بالخوف والوجل والسؤال والأمل, وفي صباح يوم دافئً ومشرق من أيام أيلول, سمعت ضجة الأولاد والبنات وهم يركضون ويهتفون, جاء عمران جاء عمران.
تقول جدتي:

ملئت فرحاً حينها وغبطه, ولم تسعني الأرض كلها من شدة فرحتي ولهفتي، فوددت لو كان لي أجنحة لأحلق من شدة ما أصابني من الرضى, تقدمت نحو ولدي وفلذة كبدي الناجي من محرقة الحرب، امشي في طابور من المستقبلين, بينهم والده, إخوته, أخواته, أمهاته الأخريات, والجيران أيضا حضروا معنا لاستقباله, رأيت وجهه الأسمر الذي لم يفارق عيني منذ التحاقه الأخير , فما كان مني إلا أن اركض دون وعي صوبه لأحضنه واقبله, بعد أن احتضنته وتشابكت أكفي على ظهره, فلما أبصرني قال أمي, أمي ولا زلت أذكر نبرة صوته المتسارعة في تلك اللحظة.
بعدها سمعت صوته وهو يصيح بخجل, آه آه أمي كتفي يؤلمني أه أه, عندها سحبت يداي وقلت, خير يمه سلامتك شبيك, فقال لي, سوف أحدثك عن كل شيء يا أمي بعد قليل.
تقول جدتي:

وبعد انشغال الأولاد بصوغة أخيهم من فواكه ولعب, ثياب وأدوات مدرسية, جئت مسرعة إلى ولدي فقلت:
ما بك يا ولدي طمئني عليك.

تنهد قليلاً ثم قال:

لا تعلمين يا أمي ماذا حل بولدك منذ يومين في منطقة نهر الكارون، قبل ليلتتن من اليوم وفي جنح الظلام تعرضنا لهجوم كاسح وفضيع من قبل الإيرانيين، كانت السماء تمطر لهيباً وحمماً, واكتظت الأرض من حولنا بالآلاف منهم وهم يطلقون الرصاص ويصرخون الله اكبر الله اكبر..
لم يكن أمامنا من منجى سوى القفز في ذلك النهر والعبور لضفته الغربية للنجاة بأنفسنا من ذلك الجحيم الذي لم يكن مجالً لملاقاته, فهو كان كالسيل الجارف يسحق ويدفع كل شيء أمامه حيث لا يقاومه بشر, قفزت وكنت أسبح بينما النيران تنير السماء من فوقي وأصوات الانفجارات المدوية والرصاص تصم إذني، بعدها أحسست بألم وحرارة في كتفي وعنقي, علمت إني قد أصبت بشظايا قنبلة وان الدماء تسيل مني بغزارة, فأشرفت على الموت وكان قريباً مني يا أمي.
تقول جدتي: عندها سألته:

حمداً لله على سلامتك يا ولدي، لابد أنك تذكرتني حينها:

يقول أبي:

لا والله يا أمي, لم تأتي أنت بالتحديد على بالي فوالدي صحيح والحمد لله وأخوتي كثر وفيهم عزائي لك.
لم يأت على بالي سوى ولدي, ذلك الطفل الوديع, ذو السنة والنصف من السنين.

فسألت نفسي حينها:

ماذا سيحل بك يا ولدي من بعدي؟. انتهى.

أقول أنا:

أبتاه, لا بأس عليك أبداً إن رحلت مبكرا، قد كنت خير أباً لولد.

أنت لم ترحل عني مطلقاً, ولم تتركني أبداً, وكنت حاضراً معي في كل مكان وزمان
في المدرسة كنت أنت موجوداً ولطالما ذهبت معي كل صباح, وكنت تحثني وتشجعني, وكلما ذهبت لمكان وكلمت إنسان, كنت بصحبتي, تعلمني ماذا أقول وكيف اصنع..
روحك الزكية كانت ولم تزل مصدر ألهامي ومنبع قوتي وسبب فخري وعزتي, أقولها صراحة, لولاك لم أكن لأكون كما أنا..

فهل تريد أن تقنعني انك قصرت, لا زلت برفقتي تلهمني وتبث في روحي المزيد من القوة والعزم أيها العظيم الخالد.

قد يسأل القراء الكرام عن سبب ذكر هكذا قصة في مثل هذا اليوم, والسبب أن في مثل هذا اليوم سقط والدي عمران صالح ضامن صريعاً في معركة الحرب العراقية الإيرانية، تلك الحرب التي كانت أسبابها دينية سياسية طائفية وقومية. ولم تنتج سوى القتل والدمار لطرفيها.
شكراً لكم على الاطلاع وتقبلوا تقديري.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - سؤآل جريء للاخ خطاب!!
فهد لعنزي ـ السعودية ( 2015 / 9 / 18 - 04:48 )
اخي الكريم بعد التحية المغفرة والرضوان لوالد المرحوم ولكن هل كانت الحرب العراقية الايرانية حرب مذهبية ام سياسية في الاساس وكان سببها غلط سياسي ولو كنا لا نشك بان المذهب كان العكاز المتكا عليه واتخذ ذريعة من احد الطرفين المتنازعين. اخي الكريم عندما استلم رجال الدين السلطة في ايران وفي نشوة النصر اطلقوا عبارات اغاضت الاصدقاء قبل الاعداء ظنا منهم ان الوقت كان مناسبا لاطلاقها واكبر شعار جلب الويلات ولا زال هو ( تصدير الثورة ) والذي اصبح بندا من بنود الدستور الايراني وانت تعرف ماذا يعني تصدير الثورة بالنسبة للعراق خاصة ودول الخليج في المقام الاول ثانياوالدول الاسلامية عامة ثالثا وهو ما ادى الى تحالف دول الخليج بقيادة السعودية سرا وتكليف حامي البوابة الشرقية صدام حسين للقيام بالمهمة والتي اهلكت الحرث والنسل وكان جل ضحاياها هم من الشيعة من كلا الطرفين. اخي الكريم في الوقت الذي ترى فيه ايران بان تصدير الثورة ـ ربما ديني ـ هو في الحقيقة تدخل غير مباشر في شؤون دول الجوار وآئاره لا زالت تفتك بالشيعة وهم برآء من كل ما حدث وان كان بعضهم ـ ولا سيما رجال الدين ـ ينظرون الامر من منظور مذهبي وهو غباء.


2 - الاموات يبقون شبابا
صلاح البغدادي ( 2015 / 9 / 18 - 08:12 )
هذا ماقالته شاعره روسيه،عن ضحايا الحرب العالميه الثانيه
(الاموات يبقون شبابا)
كم شابا سقط لنا في الحرب العراقيه الايرانيه المجنونه
واحد من اصدقائي كان ضحية لها
بعد اكثر من ثلاثين عاما على فراقه لنا ،سابقى اتذكره شابا،معافى وبكل حيوية الشباب
لم يهرم،لم تزحف التجاعيد على وجهه
سيبقى شابا...وهذا بعض العزاء لنا
الرحمة لوالدك....وشكرا


3 - أجابة للأخ فهد العنزي
خطاب عمران الضامن ( 2015 / 9 / 18 - 10:59 )
شكرا جزيلا لمشاعرك الأنسانية وأتمنى ان تبقى زميلا وصديق في الحوار المتمدن، نعم كما تفضلت اسباب الحرب والحرب نفسها كانت سياسية واصبت في موضوع تصدير الثورة وخطرة على دول الخليج العربي والعراق، أضافة الى ذلك كان للجانب الديني دور كبير ومؤثر حيث وظف كل طرف من أطراف الحرب الدين كوسيلة لحث الناس على مواصلة القتال لتستمر الحرب كل تلك السنوات الثمان، كما كان للطابع للقومية والطائفية حضور كبير أيضا، فالحرب كانت ذات طابع عنصري طائفي ديني، اتمنى ان نعمم ثقافة التسامح والقبول بالأطراف الاخرى المتنوعة قوميا ودينيا وطائفياً، هذه الثقافة هي السبيل الوحيد لأنتشال مجتمعاتنا من مستنقع الأجرام والارهاب والحروب. مع المودة


4 - الأخ الكريم صلاح البغدادي
خطاب عمران الضامن ( 2015 / 9 / 18 - 11:05 )
اتقدم لك بالشكر والعرفان للكلمات الجميلة التي كتبتها ولمواساتك أياي في ذكرى رحيل والدي، كما اود أن احيي وفائك لصديقك الذي كان أحد ضحايا تلك الحرب المجنونة وهذا دليل على نقاء روحك من أدران القسوة البشرية، نعم صدقت الأموات يبقون شبابا، فأبي رحل وعمره 29 عاما فقط، ولازالت صورته المعلق في ذهني هي صورة ذلك الشاب الوسيم النابض بالحيوية، أملي ان يحل السلام في بلدنا والمنطقة والعالم وهذا مرهون بمدى قدرتنا على قبول بعضنا المتنوع دينيا وقوميا وطائفياً. دمت بكل خير

اخر الافلام

.. عمليات نوعية للمقاومة الإسلامية في لبنان ضد مواقع الاحتلال ر


.. مؤسسة حياة كريمة تشارك الكنائس القبطية بمحافظة الغربية الاحت




.. العائلات المسيحية الأرثوذكسية في غزة تحيي عيد الفصح وسط أجوا


.. مسيحيو مصر يحتفلون بعيد القيامة في أجواء عائلية ودينية




.. نبض فرنسا: مسلمون يغادرون البلاد، ظاهرة عابرة أو واقع جديد؟