الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خواطر فلسفية حول الإله

جواد لزهر

2015 / 9 / 19
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


من أو ما هو الله ؟ صعب أن نجد تعريفا وافيا و شاملا لهذا الكائن الذي يختلف بإختلاف الأمم التي تؤمن به، بل قد يختلف (ويختلف فعلا) عند نفس الأمة حسب الزمان والمكان الذي تتواجد فيه هذه الأمة.

تطور مفهوم الإله على امتداد الزمان والمكان مع تطور معارف المؤمن وقدراته على فهم واستيعاب العالم والظواهر الطبيعية المحيطة به، فبعد أن بدأ بسيطا على شلك يظمئن ويرتاح له قلب المؤمن مثل صخرة توفر له الحماية من المخاطر التي تحيط به من كل مكان في بيئته النائية أو شجرة تطعمه من ثمارها قبل أن يمتهن الزراعة وتربية الماشية، انتقل مفهوم هذا الإله ليصبح أكثر تعقيدا جيلا بعد جيل وحقبة بعد حقبة، تارة أصبح ظاهرة طبيعية مثل البرق والرعد وتارة أخرى أصبح جرما أو كوكبا، مثل القمر والشمس والنجوم، كان لكل مجموعة من الناس إلاههم الخاص بهم يحميهم دون غيرهم.

وبعد وصول البشرية إلى مستوى راق وعال من الوعي والعلم أدركت أن الإله لا يمكن أن يكمن في الجمادات أو الظواهر الطبيعية لمحليتها وزمانيتها فأصبح لازما أن يكون الإله خارجا ومستقلا عن الزمان والمكان وأن يكون كل ما يعرفه الناس وكل ما يحيط بهم إنما هو من صنعه وإبداعه، ولما تعلمت البشرية من خبراتها وأخطائها في مجالات تسيير أمور الجماعة وما ينتج عنه من خلافات وصراعات على الثروات والحكم، تصورت بسذاجة أن نفس الشئ ينطبق على الألهة فألصقت به صفة الوحدانية لما تراه من منظورها أنه لا صراع ولا نزاع في الكون وأنه يسير في انتظام محكم ومعقد لا يعقل أن يسيرعليه شئ إلا إذا كان من ورائه كائن يديره كما تدار شؤون أي مؤسسة بشرية.

هذا الإسقاط السريع، الساذج والبسيط في نفس الوقت، جعل من الإله مجرد امتداد لذات الإنسان، امتداد ولكن بشكل لا محدود في جميع الصفات، أصبح الإله، في مخيلة من يؤمن به، ذلك الرجل الكبير الحجم، الشديد القوة، الذي يطوي السموات ويبسط الأرض بيده، أصبح مقاول ورجل بناء في نفس الوقت، يرفع السماء ويمنعها من السقوط على رؤوس العباد، يدق الجبال في الأرض كالأوثاد حتى لا تميد بعباده، يسخر لهم الريح والمطر والشمس والقمر، حريص عليهم لكن يعاقبهم في نفس الوقت إن هم أساؤوا لذاته أو أخطئوا في حقه كمحاولة منهم لتفسير ما يعانوه من كوارث وما يصيبهم من أمراض وحوادث فحلوا بذلك هذا التناقض الذي كثيرا ما أرهقهم، مع أنه كان من الممكن أن ينسبوه لوجود ألهتين أو أكثر مثلا ! وهذا ما كان شائعا في عصور قديمة عند حضارات مثل الإغريق. لكن يأبى مؤمنوا هذا العصر إلا أن يصروا على أن كل ما يحدث في الكون وعلى الأرض، مهما غلب عليه طابع التناقض، هو من صنع إله واحد أحد وأن التناقض مجرد قسور في عقل الإنسان على إدراك وفهم حكمة الخالق. ولازلنا على نفس الحال منذ أكثر من 2000 سنة الآن من مجيئ الديانات الإبراهيمية.

كانت هذه مجرد مقدمة موجزة وبسيطة عن مراحل تكون و تطور الإله من خلال المنظور البشري على مر الزمان تمهيدا مني للدخول في موضوع مقالي اليوم الذي سيتطرق لإشكالية إمكانية وجود الإله من عدمها.

أولا وجب علي التذكير والتنويه أنني أنطلق من واقع أن مسألة وجود إله من عدمه مسألة غير محسوم فيها البثة، لا من جانب المؤمنين به ولا من جانب الناكرين له، فلا المؤمن رأه وأدركه بأي حاسة من الحواس المتوفرة له، ولا الملحد به أثبت عدميته. فيبقى احتمال وجود الإله من عدمه متساويين وبنسبة 50 % لكل منهما.

نحن كبشر ليس باستطاعتنا إدراك العالم المحيط بنا إلا من خلال إحدى الحواس المتوفرة لنا، خمسة حواس أساسية أو أولية (البصر، السمع، الشم، الذوق واللمس) وحواس أخرى خفية صعبة الوصف والتصوير (التواصل مع الموتى، صوت داخلي، التنبأ بالشئ قبل حدوثه...). وإدراكنا للإله (بشكل مباشر وليس من خلال ما يسمى بخلقه) يخرج عن دائرة تغطية الحواس الأولية، فلا يسعنا إلا تخليه وتصوره من خلال ما نتستطيعه من حواسنا الخفية سواء كموروث اجتماعي تراكمي، يسكن الوعي الباطني، يصلنا عبر الأجيال أبا عن جد مع ما يحتويه هذا الموروث من طقوس عبادات وشرائع أو كتجارب شخصية في الحياة تقربنا من هذا الإله عبر تدخله وترتيبه الخفي لبعض حلاقات حياتنا التي نأبى أن نردها للصدفة. للأسف لا يترتب عن هذا الإدراك سوى صورة مشوة ومنقوصة للإله، فاختلاف مستوى تقبل وفهم موروث الأباء واختلاف التجارب الشخصية لا ينتج لنا إلها واحدا بل إله فريد من نوعه خاص بكل شخص، فإله المسلم ليس هو إله المسيحي، وإله البوذي ليس هو إله اليهودي، وفي نفس الدين ستجد أن إله السني ليس هو إله الشيعي، وفي نفس الطائفة ستجد أن إله الأب الوهابي ليس هو نفسه إله الإبن الوهابي وهكذا.

لنفترض جدلا الآن أن الإله موجود ولنتفق على صفاته ونعطيه صورة (تليق بجلاله طبعا) لا نظير لها، السؤال الذي يمكن أن نطرحه على أنفسنا هو : لماذا الإله الوحيد الصورة يخلق لنا صور متعددة على أرض الواقع ؟ ربما ستجيبني عزيزي القارئ وتقول لي أن اختلاف درجات الفهم و الإدراك هو من يشوه الصورة الفذة للإله، ولكن يمكنني أن أجيبك أنه ربما لأن الإله غير موجود أصلا، فإن هو لم يكن موجودا فلا ذنب ولا حرج علينا إذا اختلفنا في تصوره، أما إذا كان موجودا فسأقول لك أنه لا يريدنا أن ندركه، لأنه لو أراد ذلك فما الذي منعه من توحيد مستوى فهمنا وإدراكنا حتى ينطبق تصورنا مع صورته الحقيقية ؟ أما إذا كان موجودا ويريدنا أن ندركه ولكنه لا يريد أن يوحد حواسنا الإدراكية فكيف له أن يقيم حسابا عادلا للعباد كل على حسب ما ظنه أنه هو الإله الحق ؟ ستصبح الحياة، بموجب هذه الفرضية الأخيرة، عبثية يُقتل فيها البرئ فقط لأن القاتل استجاب لما التمسه أمر إلاهي بإدراكه الشخصي، ويُحرم جنس كامل من حقوقه فقط لأن الجنس الأخر أخطأ في تمييز الحكمة من قوته، وفي كلتا الحالتين هو ليس ملاما لأن الإله لم يجعل له مستوى موحدا للإدراك.

نبقى دائما في فرضية وجود الإله لكن لنحاول هذه المرة اخضاع ذاته لبعض التساؤلات المنطقية والفلسفية. فما الذي يمكن مثلا أن يمنع الإله من الوجود ؟ باعتباره الإله الكلي القدرة والقوة فلا شئ يمكن أن يحول دون وجوده ولاهو بنفسه لأنه موجود أصلا فلا يمكنه أن يمنع نفسه من الوجود (أعترف أنه مطق معقد شيئا ما)، حسنا إذا كان لا شئ يحول دون وجود الإله، فما الذي يحول دون وجود إله أخر مثلا (غير هذا الإله) أي لماذا هذا الإله (رقم1) و ليس إلها أخر (رقم2) ؟ وإذا كان لا شئ يمنع وجود الإله فلماذا لا أكون أنا هو هذا الإله أو أي شخص أخر ؟ لأن التحليل الدقيق لمفهوم الإله في وقتنا الحالي لا يجعل منه سوى تلك الذات التي بوجودها الأصلي أقفلت ورائها الباب في امكانية تواجد ألهات أخرى، تماما كما يُقفل الحيوان المنوي الذي استطاع دخول البويضة الباب في وجه ألاف الحيوانات المنوية الأخرى، ففي البدأ كانت فرص نجاحهم متساوية تماما. وكذلك الإله الحالي، فلو اتيحت لنا الفرصة لإعادة التجربة الكونية (شاملة للإله) لكان لنا إله غير الإله الموجود حاليا. فما الذي يمنعنا من تصور الكون على صورة بيوضة استطاع إله واحد من بين ألاف الألهة من الوصول إليها قبل الأخرين ؟
يقوم مفهوم الإله الحالي على وجوده الأزلي في كل نقطة من نقاط الخط الزمني، فلا شيء قبله ولا شيء بعده، لكن وباعتبارنا كائنات محدودة في الزمان، لنا نقطة بداية ولنا نقطة نهاية تمثل قطعة من مستقيم الزمان الا محدود، فإننا ومن زاوية نظرنا نرى كل قطعة من نفس الخط بشرط أن تكون نقطتي بدايتنا ونهايتنا داخل المجال الفاصل بين نقطتي بداية ونهاية هذه القطع، نراها كخطوط أزلية أيضا، لأن بدايتنا جاءت بعد بداية القطعة ونهايتنا وصلت قبل نهاية القطعة، فلماذا لا يكون زمن الإله هوأيضا مجرد قطعة زمنية يحيط بقطعة زمننا من الجهتين ؟ وكلما جاء إله أوجد كونا داخل حيزه الزمني يبدأ بعد بدايته وينتهي قبل نهايته. وما كوننا الحالي إلا واحد من الأكوان المحصورة داخل الحيز الزمني لإلهنا الحالي.

سأتوقف في هذه النقطة اليوم ، على أمل أن أرجع لأكمل معكم هذه الخواطر الفلسفية في يوم أخر. وتذكروا فقط أننا مهما حاولنا أن نحيط علما بكوننا الواسع، لن نستطيع أبدا أن نخرج عن نطاق ما تستطيع حواسنا أن ترصده وعقلنا أن يحلله تماما كما لا يستطيع حاسوب بدون أن يدرك موجات الأنترنت في مكان تحت التغطية مع أنها تحيط به من كل مكان.

دمتم بخير.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جودي سكيت.. يكشف عن أشياء مستحيل أن يفعلها ومفاجأة عن علاقته


.. تساؤلات حول تقرير واشنطن بشأن استخدام الأسلحة الأمريكية في غ




.. بعد الوصول إلى -طريق مسدود- الهدنة لا تزال ممكنة في غزة.. «ج


.. المستشفى الإماراتي العائم في العريش.. جهود متواصلة لدعم الجر




.. تحرك دولي لإطلاق تحقيق مستقل بشأن مقابر جماعية في قطاع غزة