الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التفسير الاجتماعي للتحية العراقية

محمد لفته محل

2015 / 9 / 20
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


التحية سلوك اجتماعي نمارسه في علاقاتنا بالآخرين وهي المدخل للتواصل معهم فلا يجب أن نتحدث مع الآخرين إلا بعد التحية لان الآخر قد يسخر منا بعبارة (عليكم السلام، أو السلام مو بفلوس أو السلام لالله) والتحية عبارة نمطية موروثة اجتماعيا يستخدمها الأفراد بينهم عن بعد أو قرب برفع اليد وتكون مصحوبة في بعض الأحيان بالمصافحة والقبل على الخدود أو على الكتف والعناق إذا كان الآخرين واقفين أو أقرباء وأصدقاء، وبعد المصافحة توضع الكف على قلبنا في حركة رمزية القصد منها نقل روح الآخر عبر حرارة كفه الى دواخلنا، أو وضعها على الرأس وعبارة (اخذ روحي) شائعة في مجتمعنا، والتحية تسمى في مجتمعنا (السلام) لان التحية تبدأ (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) ويرد عليه الآخر (عليكم السلام ورحمة الله وبركاته) وغالبا ما تلفظ مبتورة (السلام عليكم) (عليكم السلام) والتحية من اسمها الذي يدل على (الإحياء) فهي من جذر (حي) وأتصور أنها تعني اجتماعيا إحياء التواصل والعلاقة بين الأفراد كلما رأيناهم، فنحن لا نحيي الذين لا نحبهم أو الغرباء في حين نحيي بحرارة وشوق الذين نحبهم، ونحن نعرف إن الذي لا يحّينا فانه يكرهنا أو لا يرغبنا، وإذا انقطع عن أداء التحية فإننا نعرف أن هناك خطب ما، كأن يكون زعل أو عتب أو أمر ما قطع السلام بيننا، هذه التحية من الخارج كما نراها ونسمعها وهي مقدمة لتحليل التحية العراقية باللغة الشعبية تحديدا عبارة (شلونك) فهذه العبارة تستخدم للسؤال عن أحوال الشخص وصحته لكنها كمعنى حرفي اختصار لعبارة (شلون لونك) أي (ما لونك) باللغة الفصحى! فلماذا السؤال عن الصحة والعبارة تسأل عن لون الشخص؟ أليس من الأفضل القول كيف صحتك أو أمورك؟ بدل القول (شلون صحتك)؟ ثم أليست بشرته أمامنا نراها ونعرف لونها أن كان اسمر أو ابيض أو حنطي الخ؟ حتى أن بعضهم يرد سخرية (شلوني؟ لوني اسود) فما داعي السؤال إذن؟ وكيف اصبحت (شلون) تعادل (كيف) في حياتنا العامية كقولنا (شلون صارت)؟ هنا يجب النبش في لغتنا العامية وما تحمله من مضامين اجتماعية ونفسية وتاريخية.
إننا نعطي للوجه مكانة مركزية في كيان الإنسان ونعتبر اللون احد العلامات الدالة على مزاج الشخص لأن الوجه هو البديل عن الشخصية عند العرب كما يلاحظ (يوسف شلحت) أما كيف أصبح الوجه بديل عن الشخصية فهذا ما يخوض به المؤلف إذ يرى أن الإنسان في الثقافة البدوية لا يحظى بصفته هذه إلا بقيمة قليلة فهو فرد وليس شخص، لأنه قليل الوعي بذاته كشخص يهيمن عليه الوعي الجمعي بقوة، فهو لا ينظر إلى الآخر إلا من زاوية القبلية، ثم يحدد المؤلف الفرق بين الفرد والشخص، فالفرد يمثل حالة بدائية أما الشخص فهو عملية الانتقال من التبعية للوعي الجمعي إلى الاستقلال الذي يسمح له بالتفكير الذاتي الذي ينقله من فرد إلى شخص(1) وهذا ما ينطبق على العرب حتى أن لغتهم لا يوجد فيها لفظ للدلالة على الشخص(2) وهي لم تأخذ معناها الذي يدل على الشخص إلا مؤخرا، ويبدوا إن العربية استخدمت الشكل الخارجي للوجه للدلالة على الإنسان، انه الوجه فحتى القرآن أشار إلى الله ب(وجه الله) حيث (يؤخذ الجزء بمعنى الكل: فالمقصود هو شخص الله)(ولا يشار إلى الشخص البشري بطريقة أخرى، وفي عبارة "الذي يسلّم وجهه لله" يحل الوجه محل كلّية الكائن، بكل تأكيد)(3) والوجه في العربية القديمة يدل على شخص الرؤساء، أي شرفهم فتعبير (وجوه البلد) يعني ابرز شخصياته وان من المدح القول "فلان وجهُ أبيض" وهو يعني أن شرفه نقي، ومن أشد اللعنات القول لشخص أن يسود الله وجهه، فهو يعني أن يذهب الله شرفه(4) ويرى شلحت إن اهتمام العربي ببياض الوجه والشرف نتيجة اهتمامه بنقاوة نسبه(5) حتى إن كلمة وجهاء التي تعني المنزلة الرفيعة جذرها يعود لكلمة وجه(6) وأنا اختلف مع النتيجة التي توصل إليها المؤلف، فإذا كان الوجه بديلا عن الشخص لماذا لا يكون الوجه هو الممثل لمزاج وطبع الشخصية وتقلباتها؟ وإذا كان الأبيض والأسود هو الممثل لرفعة الشرفة ووضاعته، فماذا يحتل اللون الأزرق والأصفر والوردي والأحمر إذن؟ وهذا دليل أن اللون في الوجه ليس دليل للشرف فقط بل للحالة النفسية كذلك. فنحن نقول عن المريض أو الخائف (وجهه اصفر) أو (أنخطف لونه) وعن الشخص المرتاح ذو الصحة الجيدة (وجهه مورد) أي لونه وردي، أما الخجلان فنقول (وجهه احمر) ونقول عن الميت أو الذي يحتضر(وجهه ازرگ) ونقول عن الشخص المكسور نفسيا أو ذو السمعة السيئة (وجهه اسود، مكسور الوجه) ونقول على الشخص المرتبك المضطرب (صار ألوان) بينما نقول عن الشخص المؤمن أو حسن السمعة (وجهه ابيض) ونتمنى له هذا اللون (بيض الله وجهك) وبعكسه نقول (صخم الله وجهك) ونحن لازلنا ننعت الرجل الأسود احتقارا ب(وجه العبد) وفي الآخرة هناك وجوه بيض ووجوه سود، واللون نستخدمه ليس من الوجه فقط بل من المزاج والقلب فنقول عن الشخص الحساس (مزاجه برتقالي)، وعن الطيب (قلبه ابيض) أما الحقود (قلبه اسود) وللرومانسي (قلبه اخضر)، فالتحية العراقية تحمل إرثا بدويا لازال باقيا في كلامنا رغم التغير الاجتماعي النسبي.
وأجزاء الوجه تحتل أيضا دلالات نفسية كالأنف والرأس، فالمتكبر يقال عنه (خشمه عالي) أما المتنفذين فنسميهم (الرؤؤس الكبار) أما الحاجب فهناك مثل (محد ﯾ-;-ﮕ-;-لك على عينك حاجب) أي الشخص الواثق من نفسه ولا توجد شائبة عليه، والذي يرفع الحاجب يدل على التكبر اما الذي يشدها لبعضها يدل على الغضب (عاكد حواجبه) والذي يغمز بها يدل على الغزل، أما تعبير العيون فهي كثيرة لاشك فهناك العين المكسورة أي الخجولة أو المنتهك شرفه وغير المكسورة أي الجريئة والجسورة (الصلفة)، أما الجبين فهناك (ﮔ-;-صه خير، وﮔ-;-صه ﻓ-;-ﮕ-;-ر) أي تجلب السعادة والخير أو النحس والسوء، ونحن نختصر وجه بعض الناس بقولنا (وجه مابي رحمه) ونشتمه (خفت وجهك) أو (كسر وجهك) (ﻤ-;-ﮕ-;-ابل وجهك الجايف أو الكسيف) والمرأة دائما نختصرها بوجهها، وحين يموت الإنسان فان أول شيء نقوم به هو تغطية وجهه، وفي طقس التكفين يبقى الوجه هو الشيء الوحيد المكشوف للتواصل مع العالم الآخر. والعرب كان لها علم الفراسه المخصص بقراءة الاوجه لتحديد طبع الشخص.
إلا ان التحية عادة هي واجب اكثر منه سؤال، فحين نسلم على الكبير ونسأل عنه (شلونك) يرد علينا (الله يخليك، الله يسلمك) أو (ماشي والحمد لله) مهما كان حاله سيئا، دون أن يجيب صراحة على السؤال بل يشكرنا على السؤال فقط! لأنه يعرف أن السؤال مجرد كليشة اجتماعية تطرح بالسلام وتكون فاتحة حديث، وانه إذا طرح همومه يخاف أن يشمت به الآخرون أو يتخذون كلامه نقطة ضعف، بالتالي فكل فرد يعيش همومه وحده لهذا قيل (الشكوى لغير الله مذلة) بعدما يئسوا من مواساة الناس ومساعدتهم إلا القليل جدا الذي يستطيع احتواء هموم الآخرين ومواساتهم ومساعدتهم، فالتحية افرغت من مضمونها التواصلي وصارت (حجاية التنكال، ولو بالجذب) إلا بين المقربين وجدانيا، وبقائها كليشة هي وسيلة ضبط اجتماعي لضمان تواصل الافراد فيما بينهم. إلا الطفل حين نسأله (شلونك) يفهمها ويرد بسرعة (آني زين) وإذا كان في حال سيء يرد بسرد ما حدث له من سوء، سواء كان مرض تعرض له أو جرح أصيب بحادث ما.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1_ يوسف شلحت، مدخل إلى علم اجتماع الإسلام، من الارواحية إلى الشمولية، تعريب: خليل احمد خليل، الطبعة الأولى،2003، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ص44.
2_نفس المصدر، ص45.
3_ نفس المصدر، ص46.
4_ نفس المصدر، ص47.
5_ نفس المصدر، ص48.
6_ نفس المصدر،ص 49.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما الذي يربط الحوثيين بحركة الشباب الصومالية؟ | الأخبار


.. نتنياهو يحل مجلس الحرب في إسرائيل.. ما الأسباب وما البدائل؟




.. -هدنة تكتيكية- للجيش الإسرائيلي في جنوب قطاع غزة ونتانياهو ي


.. جرّاح أسترالي يروي ما حصل له بعد عودته من غزة




.. حل مجلس الحرب الإسرائيلي.. والترددات على تطورات الحرب في غزة