الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اسم لم يمت

زاهر نصرت

2015 / 9 / 27
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية


كتبت هذه القصة سنة 1944 قبل ان تنتهي الحرب العالمية الثانية . وكاتبها سيمونوف من مواليد 1915 وهو شاعر ومؤلف مسرحيات نشرت مجموعة شعره الأولى سنة 1934 وله روايات حولت الى أفلام ناجحة ، ومن رواياته (( الاحياء والموتى )) و (( الجنود لا يموتون )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في الخريف الفائت ، عندما كنا لا نزال على الضفة اليسرى لنهر ديزنا ، أصيبت احدى عجلات سيارتنا ، فاضطررنا ان نجلس على الأرض مدة نصف ساعة تقريباً ، حتى تمكن السائق من اصلاح العجل . وكما يحدث في مثل هذه الحالات ، جاءت وقفتنا في اشد الأماكن خطراً ، عند نقطة كان العمل يجري فيها لمد جسرٍ مؤقت فوق مجرى النهر .
واثناء نصف الساعة تلك مرت فوقنا مجموعتان من طائرات الالمان ، والقت كل مجموعة منهما عدداً من القنابل الصغيرة حول المعبر . في المرة الأولى اسقطت القنابل بالأسلوب التقليدي ، فألقى المهندسون بأنفسهم على الأرض وظلوا كذلك حتى انتهاء الغارة . ولكن في المرة الثانية ، تخلفت احدى الطائرات واخذت تحوّم فوق النهر .
وبعد قليل وقف ضابط قصير القامة اسود الشعر برتبة رائد كان يتولى قيادة وحدة المهندسين ، واخذ يشتم ويلعن ، ثم صرخ في وجوه رجاله قائلاً :
وهكذا سوف يستمرون في التحليق فوقنا طوال اليوم وستقضون الليل منبطحين هناك ، وسيبقى الجسر كما هو . لن تكون بنا حاجة لبنائه بعد ان تنتهي الحرب ! سنبني بعد الحرب قنطرة لسكة الحديد هنا . هيا ، هلموا لمباشرة العمل .
ونهض الرجال واحداً بعد اخر ، وعادوا يباشرون العمل وهم يرمقون السماء بنظرات شزراء ، ومضت الطائرة المعادية تدور فوق الجسر مدة طويلة ، وعندما ايقن قائدها ان تحليقه لن يوقف العمل ، بادر الى القاء قنبلتيه الأخيرتين وابتعد ، وقال الرائد بصوت مرتفع : ها هو قد ذهب .
ثم اخذ ينطُ على حافة الجسر وقد اقترب من ماء النهر حتى خشيتُ ان يسقط فيه في اية لحظة .
كان من الأرجح ان انسى هذه الحادثة الصغيرة لولا ان ذكَّرتني بها احداث معينة اعقبتها . ففي أواخر فصل الخريف كنت مرة أخرى في جبهة القتال ، وفي المواقع ذاتها تقريباً ، أولا عند مهر الدنيبر ثم الى ما ورائه ، كنت على عجلة من امري كي الحق بالجيش الذي كان قد تقدم اشواطاً الى الامام . وبينما كنت اقطع المسافات بالسيارة ، اخذت الاحظ اسماً معيَّناً يتكرر امام ناظري ، هنا وهناك ، مثل رفيق الطريق . كان الاسم يظهر أحيانا على لوحة خشب اثبتت بمسمار على عمود التلغراف او على حائط كوخ ، واحيانا أخرى يظهر مكتوباً بالطباشير على جانب مصفحة المانية محطمة :
(( لا يوجد الغام – ارتميف )) ، او (( استكشفنا الطريق – ارتميف )) ، او (( خذ الطريق الى اليسار – ارتميف )) ، او (( اصلحنا الجسر – ارتميف )) ، او كلمة بسيطة واحدة (( ارتميف )) مضافاً اليها سهم يشير الى الطريق .
لم يكن عسيراً ان يحدس المرء ان ارتميف هذا لا بد ان يكون ضابطاً في سلاح المهندسين ، عبر بهذه الطريق مع الوحدات المتقدمة ومهد الطريق امام الجيش . ولكن تلك الإشارات كانت متعددة بصورة خاصة ، وتحتوي على التفاصيل اللازمة ، واكثر من هذا فانها كانت موثوقة صادقة الى اقصى حد .
وبعد ان قطعت ما لا يقل عن مائتي كيلو متر ، برز لي خلالها اسم ارتميف ربما عشرين وربما ثلاثين مرة ، تذكرت ذلك الرائد القصير القامة الأسود الشعر الذي اعطى الامر بمواصلة العمل في بناء الجسر على نهر ديزنا تحت قصف القنابل ، وتساءلت في نفسي عما اذا لم يكن هو بالذات هذا الـ (( ارتميف )) الغامض الذي يشق الطريق امام الجنود كأنه ملاك حارس .
وذات يوم ماطر موحل ، توقفنا في مزرعة على ضفة نهر ( بوج ) حيث كان قد تم انشاء مستشفى ميدان . وفي المساء تحلَّقت مع الأطباء حول النار بانتظار الشاي ، ولا ادري كيف خطر لي ان اذكر امر تلك الإشارات .
وقال رئيس الأطباء : اوه ، نعم انني اعرف . لقد كنا نتتبع خطى تلك الإشارات على طول خمسمائة كيلو متر تقريباً . انه لاسم شهير ، لقد بَعُدَ صيته حتى تعلقت قلوب بعض النساء به . ولكن لا تغضبي يا فيرا نيكولايفنا . انني امزح وحسب ، قال هذا وهو يلتفت الى طبيبة شابة كانت قد ندَّت منها ايماءة احتجاج غضبي .
وقالت الطبيبة وهي تلتفت الي : أليست المسألة مسألة مزاح . يبدو انك تعتزم التقدم الى الامام اليس كذلك ؟
- اجل .
- انهم يضحكون على ما يسمونه حدساً غيبياً عندي . ولكن اسمي هو ارتميفا ايضاً ، وعندي شعور داخلي ان الشخص الذي يكتب تلك الإشارات هو اخي .
- اخوك ؟
- نعم ، لقد فُقد الاتصال بيننا منذ بدء الحرب ، حينما افترقنا في ( مينسك ) . قبل الحرب كان اخي مهندس طرق ، ويلازمني الشعور انه هو . بل انني اعتقد حقاً انه هو .
وقال رئيس الأطباء مقاطعاً : انها تعتقد ذلك حقاً ويكاد يصيبها الجنون لان ارتميف هذا لا يثبت الحروف الأولى من اسمه .
ووافقت فيرا نيكولايفنا بكل بساطة : نعم ، انه لامر مزعج . لو انه فقط كتب اسمه (( أ . ن . ارتميف – الكساندر نيكولا يفتش ارتميف )) ، لو انه فعل ذلك لعرفت دون ذرة من الشك انه اخي .
وتدخل رئيس الأطباء مرة أخرى بقوله : أتعرف ماذا فعلت ذات يوم ؟ لقد كتبت تحت واحدة من تلك الإشارات ( أأنت الكساندر نيكولا يفتش ؟ اذا كنت إياه فان اختك ارتميفا تبحث عنك – مستشفى الميدان 390 ب ) .
وقلت متسائلاً : احقاً فعلتِ هذا ؟
- اجل ، لقد كتبت ذلك . ولكنهم ضحكوا مني جميعاً وقالوا انه مهما فعل ضباط الأسلحة الأخرى فان المهندسين يندر ان يعودوا من الطرق التي شقوها . هذا صحيح دون شك ، ولكن رغم كل شيء فقد كتبت ما كتبت ... ثم اضافت تقول : عندما تمضي الى الامام ، اسأل في قيادة الفرقة ، فمن المحتمل ان تلتقي به . سأكتب لك رقم وحدتنا ، واذا عرفت شيئاً فاكتب لي سطرين . اليس كذلك ؟
- بالتأكيد سوف اكتب .
واقتطعت طرف صحيفة كانت معها ، ودوَّنت العنوان عليه واعطتني القصاصة . وعندما اودعت القصاصة في جيب صداري لاحظت ان عينيها كانتا تتابعان حركة يدي ، كانما كانت تحاول ملاحقة الورقة حتى باطن جيبي كي تستوثق انها أصبحت في حرز حريز .
واتصل الزحف الروسي ، وفيما وراء ( الدنيبر ) و ( الدنيستر ) استمرت لقاءاتي باسم ارتميف (( استكشفنا الطريق – ارتميف )) ، (( يمكن عبور النهر بامان – ارتميف )) ، (( المنطقة نظيفة من الألغام – ارتميف )) ، او ببساطة (( ارتميف )) مضافاً اليها سهم يشير الى الطريق .
وعندما اقبل الربيع كنت في بسارابيا ، وهناك زرت احدى فرق المشاة ، وسألت مرة أخرى عن الاسم (( ارتميف )) ، وكان جواب القائد هذه المرة مختلفاً :
- لماذا تسأل ؟ اعرفه دون شك . انه يتولى كتيبة المهندسين في فرقتي ، يا له من مهندس قدير . ولكن لماذا تسأل ؟ أيحتمل انك التقيت باسمه مرات ومرات ؟
- اجل مرات عديدة .
- بالتأكيد . انه يستكشف الطريق ليس للفرقة فحسب ، وليس للفيلق فحسب ، بل يفعل ذلك بالنسبة للجيش بأجمعه . انه دائماً في المقدمة ، الجيش كله يعرف اسمه مع ان كثيرين لم يتعرفوا عليه شخصياً . اسم شهير ، بل يمكن القول انه اسم خالد .
ومرة أخرى تذكرت عبورنا نهر ( ديزنا ) واستعدت في ذهني ملامح الرائد قصير القامة الأسود الشعر . وقلت للقائد انني اود ان التقي بارتميف .
- يتعين عليك ان تنتظر فيما اذا توقفنا بصورة مؤقتة – ربما تستطيع عندئذ ان تراه ... لا امل لك في ان تلحق به الان ، انه في مكان ما في الطليعة مع وحدات الاستكشاف .
- على فكرة ما هو اسمه الكامل ؟
- الكساندر نيكولا يفتش ارتميف . لماذا ؟
وقصصت للقائد كيف التقيت بالدكتورة ارتميفا في مستشفى الميدان .
وقال القائد : نعم انه من قوات الاحتياط ، هذا صحيح . ولكن من يعرفه عن كثب يحسب انه خدم في الجيش طوال عمره ، من المحتمل ان يكون الرجل ذاته .
ومساء تلك الليلة نبشت في جيب صداري حتى عثرت على قصاصة الصحيفة ، ثم كتبت بضع كلمات للدكتورة ارتميفا على عنوان مستشفى الميدان ، مفادها ان حدسها كان صحيحاً وانها ستكون بعد مسافة قصيرة قد قطعت الف كيلو متر وهي تقتفي خطوات اخيها .
ولكن بعد أسبوع او اثنين ندمت على ارسالي تلك الرسالة .
كان ذلك على الجانب الاخر من نهر ( بروت ) . لم يكن قد تمَّ انشاء الجسر بعد ، بل كانت هناك معديتان اثنتان تروحان وتغدوان من ضفة الى ضفة بانتظام الساعة ، وحينما وصلت بسيارتي الى النهر شاهدت على درع مدفع الماني محطم الإشارة المألوفة : (( العبور منتظم – ارتميف )) .
وعبرت النهر على متن المعدية البطيئة ثم وقفت على الضفة الثانية واخذت أتطلع حواليَّ باحثاً عن الاسم المألوف . وعلى بعد عشرين خطوة ، عند طرف الضفة المنحدرة ، شاهدت كومة من التراب أقيمت حديثاً وقد نصب في وسطها شاهد خشبي اثبتت في أعلاه لوحة مربعة تحت نجمة من المعدن . كانت اللوحة تحمل الكلمات التالية :
هنا يرقد الرائد أ . ن . ارتميف ، مهندس ، سقط في المعركة اثناء عبور نهر بروت .
وتحت هذه الكلمات وبخط احمر كبير كان مكتوباً (( الى الامام ، باتجاه الغرب )) .
واقتربت من الضريح فرأيت صورة مثبتة على الشاهد تحت قطعة مربعة من الزجاج وامعنت النظر فيها . لقد صورة قديمة تهرأت حوافها – ربما لأنها بقيت مدة طويلة في جيبي صدار ، ولكن ملامحها كانت واضحة بما فيه الكفاية . كانت صورة الرائد القصير القامة الأسود الشعر الذي شاهدته عندما عبرنا نهر ديزنا .
ووقفت الى جانب الضريح تتنازعني مشاعر الاسى : اشفقت على الأخت التي فقدت اخيها ربما قبل ان تتسلم الرسالة التي تنبؤها بوجوده على قيد الحياة . وكان هناك شعور غريب بالوحدة . لن تكون الطريق بعد اليوم كما كانت من قبل عندما كانت تتخللها الإشارات التي تحمل اسم ارتميف . لقد فقدت رفيقا ًمجهولاً كان يحرسني على طول الطريق . ولكن ماذا نستطيع ان نفعل ؟ في الحرب عليك ان تعتاد لقاء الموت ، سواء كرهت او رضيت .
وانتظرنا نزول سياراتنا من المعدية ثم مضينا في طريقنا . وبعد مسافة خمسة عشر كيلو متراً ، في موضع تكتنفه الاخاديد العميقة على جانبي الطريق شاهدنا كثيباً من الألغام رصفت فوق بعضها البعض ، وكانت هناك لوحة من الخشب اثبتت على عامود متوحد من أعمدة التلغراف كتب عليها (( استكشفنا الطريق – ارتميف )) .
كلا لم تكن هناك اعجوبة . كانت كتيبة من المهندسين قد اعتادت ان تدعو نفسها (( كتيبة ارتميف )) مثلها في ذلك مثل كثير من الوحدات العسكرية التي يظل قائد واحد على رأسها مدة طويلة . وهكذا قرر رجال ارتميف ان يكرموا ذكرى قائدهم بكتابة اسمه عند المواضع التي يمرون بها اثناء قيامهم بتنظيف الطريق امام الجيش . وبعد ان تابعت هذه الإشارات من جديد على مسافة عشرين فثلاثين فسبعين كيلو متراً وهي ترفع ذلك الاسم الخالد ، شعرت انني سوف التقي مرة بعد مرة في مستقبل غير بعيد بلوحات من ذات الطراز عبر نهر النيمن ونهر الاودر ونهر السبري ، الى الغرب ، وهي تحمل على صفحاتها عبارة (( استكشفنا الطريق – ارتميف )) .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حزب العمال البريطاني يخسر 20% من الأصوات بسبب تأييده للحرب ا


.. العالم الليلة | انتصار غير متوقع لحزب العمال في الانتخابات ا




.. Mohamed Nabil Benabdallah, invité de -Le Debrief- | 4 mai 2


.. Human Rights - To Your Left: Palestine | عن حقوق الإنسان - ع




.. لمحات من نضالات الطبقة العاملة مع امين عام اتحاد نقابات العم