الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يسوع الثائر-9- يسوع والانسان

طوني سماحة

2015 / 10 / 3
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


كانت كل المجتمعات القديمة، وحتى بعض الحديثة منها، مبنية على هرم اجتماعي يتربع الملك على رأسه، فيما يقبع العبد في أدناه. كان فرعون في مصر القديمة سيد الهرم. فهو ممثل الإله وأحيانا يكون هو الإله، يليه معاونوه من قادة الجيش والساسة ورؤساء الكهنة. في المربع الاسفل، يأتي تباعا الكتبة والصناع والحرفيون والفلاحون وأخيرا العبيد. لم تكن التركيبة الاجتماعية لبلاد ما بين النهرين تختلف كثيرا، فالهرم هنا يبدأ حتما بالملك يليه أعوانه والكهنة، ثم يأتي تباعا الكتبة والتجار والحرفيون ومن ثم العوام وصولا للعبيد. كانت التركيبة الاجتماعية للمجتمع الروماني تختلف بعض الشيء. فالقيصر هو ممثل الإله أو حتى الإله ذاته، يليه مجلس الشيوخ، ثم طبقة الفرسان. لا بد من الاشارة الى ان الفرسان كانوا بداية كما يوحي اسمهم خيالة، إلا أنهم اضطلعوا بأمور تجارية جعلت منهم ركنا أساسا من أركان المجتمع وضرورة اقتصادية. حلت الطبقة الارستقراطية رابعة في الهرم الاجتماعي كيما تليها طبقة الجنود والتجار والحرفيين. وفي الخانة الاسفل، جلس العمال المياومون لكي يليهم مباشرة العبيد المحررون ومن ثم العبيد.

كان المجتمع اليهودي في عهد المسيح وقبله يختلف بعض الشيء في تركيبته الاجتماعية عن المجتمعات المجاورة. مثل سائر المجتمعات، كان الملك اليهودي رئيس الهرم. لكن ما ميز هذا الهرم عن سواه كون الملك لا يتمتع فيه أولا بصفة الالوهة التي اضفتها المجتمعات الاخرى على ملوكهم شأن فرعون وقيصر، كما أن ليس لديه، أي الملك، صلاحيات مطلقة شأن أقرانه وذلك يعود لكون المملكة اليهودية مملكة دينية ثيوقراطية تخضع لقوانين التوراة التي حددت الالوهة في الله وحده. كذلك لا بد من الاشارة الى أن الملك اليهودي كان الوحيد من الملوك آنذاك الذي يخضع للمحاسبة من قبل الانبياء كما نرى في محاسبة النبي ناثان لداوود الملك لسبب زناه مع بثشبع وقتله زوجها أوريا الحثي. أما ملوك الشعوب الاخرى فكان لديهم الصلاحيات المطلقة يحصلون على من يريدون من النساء ويقتلون من يشاؤون من الرجال دون حسيب او رقيب. أما المفارقة الاخرى في التركيبة اليهودية آنذاك فكانت تتمثل في العبودية. عندما امتلك بنو اسرائيل ارض كنعان (فلسطين)، حدد الناموس لكل منهم ملكية خاصة في الارض حسب تعداد أسباطهم، وبالتالي كان الكل منهم رجلا حرا. دعت الحاجة الاقتصادية الى بيع وشراء الارض تلبية لاحتياجات الانسان المختلفة، فكان لا بد للفقير من بيع ارضه كيما يعتاش في حال المرض والعوز، لكن كان لا بد للشاري أن يكون قريبا للبائع ومن ثم كان يمتلك الارض لمدة محددة يستفيد منها ومن ثم عند انقضاء هذه المدة، لا بد للأرض أن تعود لصاحبها الاساسي. دعت الحاجة الاقتصادية البعض لبيع ذواتهم عندما لم يكن لديهم ما يبيعوه كيما يستمروا على قيد الحياة. أتى الناموس مرة اخرى وقطع الطريق على العبودية المطلقة، فحدد للشاري سبع سنوات يستفيد منها من خدمات عبده ومن ثم يطلقه حرا كما اشترط على الشاري حسن المعاملة للعبد والآمة.

في عهد المسيح كان الامر مختلفا. كان المجتمع اليهودي كافة يئن تحت وطأة الاحتلال الروماني وكانت القلة القليلة من أفراد هذا المجتمع تتمتع بامتيازات زمنية. كان الملك اليهودي على رأس الهرم. لكن وكما ذكرنا في مقال سابق، كان هذا الملك ينتمي للسلالة الهيرودوسية الادومية الاصول. ولم يكن هذا الملك بأكثر من دمية في يد الحاكم الروماني. كان رجال الدين وعلى رأسهم رؤساء الكهنة والفريسيون يقبعون في المربع التالي من الهرم وكانوا يلعبون دورا سياسيا ودينيا في آن واحد. كان الشعب بأطيافه المختلفة يتساوى في المربع الثالث، إلا أنه ومع شبه انعدام وجود العبد اليهودي آنذاك، إلا أن ثمة طبقة دنيا أنتجتها التقاليد الاجتماعية وجدت ذاتها تقبع في المربع الاسفل وكانت كناية عن المحتقرين من ابناء الشعب. كانت هذه الطبقة تضم الزناة، وبالتحديد المرأة الزانية، والعشارين الذين يعملون لحساب المحتل الروماني حتى أن تسميتهم كانت مرادفة للخونة، والخارجين عن تعليم الناموس وتقليد رجال الدين، والمصابين بأمراض مستعصية مثل الابرص أو بامراض عصبية مثل المجنون.

استفز يسوعُ رجال الدين الذين رأوا فيه "صديقا للزناة والعشارين". فهو، أي يسوع، اخترق طبقة رجال الدين واتجه مباشرة للانسان اليهودي بغض النظر عن طبقة هذا الانسان الاجتماعية. كان يسوع يشبه أبناء الطبقة الدنيا في حياته. فهو لم يمتلك يوما بيتا او حتى حمارا، بل يذكر الانجيل ان النسوة كن يخدمنه من اموالهن. نقرأ في انجيل متى 8 التالي "فتقدم منه كاتب وقال له : يا معلم، أتبعك أينما تمضي. فقال له يسوع: للثعالب أوجرة ولطيور السماء اوكار، وأما ابن الانسان فليس له أين يسند رأسه." انتقد يسوع الاغنياء وطوّب الفقراء، على غرار المثل الذي ذكره عن لعازر والغني. فلعازر كان رجلا فقيرا مملؤا بالقروح وكان يجلس على عتبة بيت الغني يشتهي الخبز المتساقط عن مائدته والذي كانت تلتقطه الكلاب. ويذكر يسوع ان لعازر مات وحملته الملائكة الى حضن ابراهيم فيما الغني الذي مات لم يجد من يستقبله سوى لهب النار. وتكتمل الحبكة عندما يستغيث الغني طالبا من ابراهيم ان يرسل لعازر لديه كيما يبل طرف اصبعه بماء ويبرد لسانه، وكأن لعازر ما يزال عاملا لديه. فتأتي المفاجأة ان السماء لا تفهم لغة المال ولا تقيّم الانسان بناء على البز والارجوان الذي كان الغني يتمتع بهما، بل على التوبة والمحبة، فيرفض ابراهيم طلب الغني.

مد يسوع يده لمن أبت الايادي ان تمتد اليهم. عانق الابرص الذي كان يتجنبه الجميع وشفاه (مرقس 1 :40-45؛ متى 8: 1-4). ساوى المرأة المنحنية والتي كان بها روح ضعف لثماني عشرة سنة برئيس المجمع عندما اعترض هذا الاخير لشفائه اياها يوم السبت، فرفع يسوع من شأنها داعيا اياها ابنة ابراهيم، مساويا اياها بالجميع (لوقا 13: 11-16). رأى يسوع في المجنون المنبوذ اجتماعيا، والذي كان يسكن القبور عاريا، انسانا يستحق الاحترام، فلم يقم بشفائه فقط بل جعل منه تلميذا له اذ قال له "اذهب الى بيتك وحدث بكم صنع الله بك." (لوقا 8: 26-39). كذلك لم يخجل يسوع بأن تكون امرأة، توصف بالخاطئة وكانت مسكونة بسبعة شياطين، ان تكون ابرز تلميذاته، لكي تصبح مريم المجدلية فيما بعد من ابرز الوجوه النسائية التي احاطت بيسوع. ولا ننسين ان يسوع في معرض خدمته كان محل تهكم للفريسيين الذين كانوا يطلقون عليه تسمية صديق الزناة والخطاة والعشارين. أما هو فلم تكن تعنيه هذه المسميات، بل استمر في خدمة المحتاج والمريض والفقير. ولم يتوقف عند ذلك بل نراه فتح حربا ضد رجال الدين والسياسة واصفا الفريسيين بالمرائين الذين يضلون الشعب، وواصفا هيرودوس الملك بالثعلب عندما اتاه البعض قائلين له ان ينصرف لان هيرودوس يريد قتله فأجاب "اذهبوا وقولوا لهذا الثعلب: ها أنا اطرذ الشياطين واشفي المرضى اليوم وغدا وفي اليوم التالث اتمم كل شيء."

إن كانت المجتمعات القديمة وحتى الحديثة منها تقيّم الانسان بناء على مكانته الاجتماعية او ثروته وامتيازاته، إلا أننا نرى في المسيح مثالا مختلفا ابتدأ يتجلى في الازمنة الحديثة بالدول التي تأثرت بفلسفته فأسست لقيم حقوق الانسان ورفض التمييز واحترام الكائن الانساني بعيدا عن دينه وجنسه ولونه وثقافته. إلا اننا وعلى الرغم من تقدمنا في مجالات شتى، إلا أننا ما زلنا نتحرك مدفوعين بالغريزة الانسانية التي لا ترى في انسانية الانسان قاعدة ننطلق منها للتعامل مع الآخر، إنما يكون الانسان، في معظم الحالات، القاعدة التي ننطلق منها للوصول الى غاياتنا واهدافنا وثرواتنا، ولنا ما يحصل في بلادنا المشرقية وفي العالم خير مثال.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أسامة بن لادن.. 13 عاما على مقتله


.. حديث السوشال | من بينها المسجد النبوي.. سيول شديدة تضرب مناط




.. 102-Al-Baqarah


.. 103-Al-Baqarah




.. 104-Al-Baqarah