الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يسوع الثائر 10 - الخاتمة

طوني سماحة

2015 / 10 / 8
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


قالوا له "من أنت؟" أجاب يسوع " أنا من البدء ما أكلمكم أيضا به." ثم نظر يسوع لليهود الذين آمنوا به وقال "إنكم إن ثبتم في كلامي فبالحقيقة تكونون تلاميذي، وتعرفون الحق والحق يحرركم." استفز هذا الكلام اليهود الذين أجابوه "إننا ذرية ابراهيم ولم نستعبد قط لأحد. كيف تقول أنت: إنكم تصيرون أحرارا؟"... غريب كيف يصيب العمى الانسان أحيانا حتى يكذب على نفسه ويصدق الاكذوبة. صحيح أن فترات طويلة مرت على اليهود وهم أحرار. لكن صحيح أيضا أنهم عانوا من العبودية لزمن طويل، بدأ من البابليين والاشوريين، مرورا بالفرس واليونان وصولا الى الرومان الذين كانوا خاضعين لهم في القرن الاول الميلادي. لكن يسوع تجاهل ردّهم وأردف "الحق الحق أقول لكم: إن كل من يعمل الخطية هو عبد للخطية."

يخطئ من يحصر ثورة يسوع في قالب اجتماعي أو اخلاقي. فرسالة يسوع روحية بالدرجة الاولى وهدفها هو تحرير الانسان من سلطان الخطيئة بكل أشكالها وعلى كل مستوياتها. فهو فتح ابواب السماء للقاتل على الصليب، وحرر المجنون من سلاسل الشيطان، وأطلق المرأة الزانية من عبودية الجنس، وأبطل سحر المال الذي ربط متى وزكا العشارين، وسامح تلميذه الابرز بطرس بعدما ان أنكره امام الجواري ورجال الكهنة. والنتيجة؟ أدى التغيير الروحي في حياة كل أولئك الى تغيير اخلاقي واجتماعي. فمريم المجدلية، التي توصف بالمرأة الخاطئة، أصبحت رمزا للوفاء والاخلاص، والمجنون العاري الساكن وسط القبور ارتدى ثيابه وعاد الى اهله وجماعته انسانا صاحيا وعاقلا، مبشرا بعالم افضل. أما متى، فلقد ترك طاولة الصيرفة وكل الربح الذي يأتيه منها على حساب خيانته لشعبه، وفضّل العيش فقيرا حرا مع المسيح. أما زكا، فلقد كان تأثير التغيير في حياته مدوّيا حتى أنه صرّح "ها أنا يا رب أعطي نصف أموالي للمساكين، وإن كنت قد وشيت بأحد، أرد أربعة أضعاف." ومن غير الجائز أن يتنكر الانسان للتغيير الذي حصل في حياة بولس الرسول الذي تبدل من ارهابي حامل للسيف الى مرسل همه الوحيد خلاص الانسان، ومن متعصب يهودي الى مناد بمساواة الناس أجمع "ليس يهودي أو يوناني، ليس ذكر أو أنثى، ليس عبد أو حر، بل الجميع واحد في المسيح يسوع".

كان لا بد للثورة التي أحدثها يسوع في حياة الفرد ضد الخطيئة أن تترك بصماتها اجتماعيا وثقافيا وإنسانيا. وقد يكون الشاهد الاكبر على هذه الحجة بولس الرسول، بغض النظر عن اختلافنا او اتفاقنا معه عقائديا ولاهوتيا. كان بولس رأس الحربة في اختراق القيم المسيحية للثقافية اليونانية الرومانية السائدة ومن ثم امتداد هذه القيم للعالم أجمع. واللافت للنظر أن الثورة التي أحدثها بولس وأتباعه وخلفاؤه أسقطت النظام السائد في العالم القديم دون أن يستل رجل سيفا أو دون أن يحشد لها جيش. ساهمت الثورة البيضاء التي أطلقها يسوع أولا ومن بعده اتباعه بإثراء العالم علميا وثقافيا. فالأديرة الاولى كانت مركزا لنسخ المخطوطات التي نمتلك منها اليوم في متاحف العالم ما يزيد على أربعة وعشرين ألف مخطوطة للكتاب المقدس وحده، منها خمسة آلاف وستمائة مخطوطة لم يتعد زمن نسخها عن المخطوطة الاصلية مائة عاما، تليها مخطوطات هوميروس الست مائة وأربعة وثلاثين التي كتبت في القرن الرابع ما قبل الميلاد والتي يترواح زمن نسخها عن الاصلية ما يقارب الخمس مائة عاما.

إن كانت الاديرة تحولت الى مراكز للعلوم والكتابة والدراسة، إلا أننا أيضا نجد أن الكهنة والرهبان والراهبات كانوا مؤسسي المستشفيات الفعليين وقد لعبوا دورا فاعلا في هذا المجال في القرون المظلمة في اوروبا عند اجتياح الكوليرا للقارة في القرن الرابع عشر ميلاديا. ولا يخفى على بال احد ان المياتم في العالم كانت تدخل في اختصاص الكنيسة. وقد كان الاهتمام باليتيم والفقيروالمريض نابعا من تأثر الكنيسة بتعاليم المسيح وخضوعها له.

إن كانت الثورة المسيحية تركت بصماتها على الحياة الروحية للناس، إلا أنها تخطتها أيضا لتؤثر على ثقافاتهم ومجتمعاتهم. فالمسيحي الشرقي وعلى الرغم من الاختلاف الثقافي بينه وبين المسيحي الغربي إلا أن كليهما يؤمنان بأحادية الزواج بين رجل واحد وامرأة واحدة ويرفض كلاهما الطلاق الا بشروط قاسية ومحددة مثل الزنى. كذلك نجد المسيحي على اختلاف ثقافته أكثر قبولا لمبادئ حقوق الانسان من غيره لان دينه وتعاليمه مبنية على احترام الآخر. ولا ننسين ان الكثير من الجمعيات الخيرية في العالم مثل جيش الخلاص الذي يعنى بتقديم الملابس والاطعمة للفقراء، والصليب الاحمر الذي كان مؤسسه هنري دونان أول من نادى بالرحمة تجاه الاسرى من خلال معالجتهم وعدم السماح بإيذائهم، وهابيتات فور هيومانتي التي تعنى ببناء مساكن للفقراء في العالم مجانا، وجمعية الشابات المسيحيات التي تعنى بتحسين حال الفتيات في العالم وغيرها من الجمعيات كانت في الاساس مؤسسات مسيحية تم تحويلها لاحقا الى مؤسسات شبه حكومية.

إن كانت الثورة الروحية التي اطلقها المسيح ادت الى الرقي في حياة الانسان والمجتمعات الا انها ايضا وفي حالات نادرة تركت بصماتها على الحياة السياسية في العالم. ولنا خير مثال على هذا الكلام بالمهاتما غاندي الذي تأثر بسياسة المسيح السلمية مما قاده لتحرير الهند سياسيا وعسكريا واقتصاديا بثورته البيضاء التي رفض ان يطلق رصاصة واحدة فيها، وقد تلاه القس الامريكي مارتر لوثر كينغ الذي سار على خطى غاندي لتحرير السود من التمييز العنصري في أمريكا، وأخيرا نلسون مانديلا الذي تأثر بغاندي و حرر بلاده من سياسة التفرقة العنصرية في أفريقيا الجنوبية.

هل كان المسيح ثائرا؟ لم يكن ثائرا عسكريا بالتأكيد، لكنه كان ثائرا في وجه رجال الدين و التقاليد والثقافة والغباء والجهل وعدم اعتماد العقل للتفكير. ولا شك ان المسيح حقق بثورته السلمية خلال العصور ما لم يحققه الاباطرة وقادة الجيوش|.











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أسامة بن لادن.. 13 عاما على مقتله


.. حديث السوشال | من بينها المسجد النبوي.. سيول شديدة تضرب مناط




.. 102-Al-Baqarah


.. 103-Al-Baqarah




.. 104-Al-Baqarah