الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-الخطارة- بواحات تافيلالت: إرث إيكولوجي فريد مهدد بالزوال

عبد الكريم جندي

2015 / 10 / 19
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


تمهيد:

تشهد العديد من المناطق المغربية ومن بينها واحات الجنوب الشرقي فترات من الجفاف الخطير الذي يهدد في أحايين كثيرة استقرار السكان بها؛ كما أن افتقار هذه المناطق لوسائل وتقنيات فعالة لسقي الأراضي لتتماشى وطبيعة المناخ السائد، زاد من تعقيد المسألة المائية وتغول الجفاف. في هذا الوضعية الإيكولوجية أصبح العودة لاستخدام "الخطارة" كتقنية تقليدية لسقي الأراضي أمرا بالغ الأهمية لما لها من خصائص ومميزات سنحاول التطرق لمعظمها في هذا المقال.
قد لا نكون مبالغين إن زعمنا أن الوقوف عند تاريخ "الخطارة"، وهندستها التقليدية، والعلاقات الاجتماعية المرتبطة بها في المجتمع الواحي، يحتاج منا بحوثا أنثروبولوجية وسوسيولوجية وتاريخية وجغرافية معمقة[1] علنا نوفي لهذا الإرث الهندسي حقه في البحث من ناحية، والاهتمام به والحفاظ عليه من ناحية ثانية، كيف لا والخطارة بشكلها الفريد، لا زالت إلى غاية اليوم تفرض ذاتها من بين أهم مصادر المياه التي تستفيد منها المنطقة لسقي الأراضي الفلاحية في مجال واحي يعرف بجفافه، وشدة حرارته ورياحه الرملية؟ بل كيف لا تستحق الاهتمام وهي تعتبر موروثا ثقافيا يندر تواجده في مناطق أخرى في العالم وليس في المغرب فقط؟ ولهذا فهي إلى جانب فوائدها في الحفاظ على الثروة المائية، وتسهيل عملية سقي الأراض الفلاحية بتكلفة متواضعة، فهي أيضا تساهم في إنعاش القطاع السياحي بالمنطقة؛ حيث يتهاتف عليها السياح من خارج الوطن ومن داخله لاكتشاف هندستها ومميزاتها، خاصة عندما يرتبط الأمر بقطاع السياحة الإيكولوجية والثقافية. فما المقصود بالخطارة؟ وما هي مميزاتها وخصائصها؟ وما هو تاريخها بواحات عرب الصباح؟ وأين تتجلى الجوانب الثقافية والاجتماعية في نظام الخطارة؟

مفهوم الخطارة ومميزاتها:

نشير بداية أن تسمية "الخطارة" متداولة في المغرب، أما في الجزائر فتسمى "بالفوكارة"، في حين تسمى في عمان والسعودية "بالأفلاج"، أما في إيران فتسمى "بالقنا qanât" وهي –إجمالا- "تعتبر الأسلوب القديم لاستغلال مياه الفرشة الباطنية"[2]. وهي شكل من الابتكارات الهندسية التقليدية العجيبة التي تستخدم لحفظ وتخزين وتوصيل المياه في المناطق الواحية؛ فالخطارة إذن "قناة باطنية قد يصل طولها إلى 8 كلم، لها انحدار نسبي يساعد على تصريف المياه الباطنية من العالية (رأس الخطارة) نحو السافلة (المجال المسقي) بواسطة الجاذبية المحضة"[3]. في هذا السياق، يقدم (G.Deverdun) تحديدا مفصلا لتقنية الخطارة فيقول بأنها: "عبارة عن آبار عديدة تتصل فيما بينها بنفق يحمل المياه عبر مسافة طويلة من منابعه إلى مقاصده، ولا يمكن استغلال الماء بهذه الطريقة إلا إذا توفرت بعض الشروط، حصرها بعض الباحثين في ثلاث شروط هي:
1. وجود المياه الجوفية على عمق غير بعيد على سطح الأرض.
2. وجود انحدار في التضاريس.
3. أن تكون التربة صلبة نسبيا وغير قابلة للرشحان حتى لا تتعرض آبار الخطارة للهدم"[4].
أما (Spoerry Sylvie) في دراسته حول خطارات "واحة الجرف" فيقول بأن الخطارة: من قنوات السقي التحت أرضية، تسمى محليا بالخطارات وتعرف في إيران ب"القنا" « qanât »، هذه المنشآت تستغل المياه الباطنية بفعل الجاذبية بواسطة قناة أفقية في حدها بالعالية يوجد المخرج بالسافلة على مستوى المساحة السقوية بالواحة؛ بالشمال الغربي لتافيلالت بمحيط "الجرف"، هذه القنوات التحت أرضية لها طول يتراوح بين 5 إلى 8 كلم، وتستغل فرشة رباعية وبعمق في أقصاه 30 متر[5].
وعموما وباختصار شديد، يقصد بالخطارة تلك القناة الباطنية التقليدية التي يتم بواسطتها توصيل المياه عن طريق الجاذبية من العالية إلى السافلة لسقي الحقول.

الخطارة في تاريخ واحات تافيلالت:

نشير في هذا السياق، أنه من الصعب الوقوف عند التاريخ الحقيقي لظهور تقنية الخطارة على مستوى العالم، ولا معرفة من مبدعها الأول، فهي تعود لآلاف السنين في بلدان مختلفة ( إيران، السعودية، إسبانيا، اليمن، الجزائر،العراق، المغرب...)؛ فنحن إذن بصدد تقنية قديمة ارتبط تواجدها بحضارات إنسانية مختلفة. إلا أن حسن حافظي يشير أن "عبد الله بن يونس" هو الذي استخرج هذه الطريقة في الري[6]، كما يعطينا صورة موجزة عن تاريخ الخطارات في واحات تافيلالت فيقول أن "أقدم خطارة في إقليم سجلماسة اليوم تعود إلى القرن ( 16م)، أما خطارات "حنابو" فتعود إلى القرن ( 17م)، وخطارات "السيفة" تعود إلى القرن (18م)، وأما آخر خطارات تم بنائها فهي تعود إلى فترة حكم (م.الحسن الأول)"[7]. ويبلغ عدد الخطارات الموجودة بمنطقة تافيلالت أزيد من 570 خطارة، مع أن 250 خطارة فقط هي التي لا تزال مستخدمة[8]. والسبب يرجع للعوامل المناخية من جهة، ولتراجع دور الساكنة الجماعي في حفر وصيانة الخطارات من جهة ثانية، مما أدى إلى ضياع العديد من الخطارات، والبعض الآخر مهدد بالضياع إذا لم يتم التدخل من أجل الحفاظ على هذا الموروث الفريد.

أنثروبولوجيا الخطارة بواحات تافيلالت:

يشكل الماء -كما يوضح الباحث امحمد مهدان- بالمناطق الواحية منذ قرون مضت أهم ركائز التنظيم الاجتماعي والمجالي، كما لا زال يشكل دائما الهم الأكبر لساكنة هذه المجالات[9]. ويمكن اعتبار الجنوب الشرقي المغربي مجالا لطرح ومعالجة المسألة المائية في علاقتها بالمعطيات الطبيعية والبشرية والمجالية، باعتبار هذه المنطقة تشكل بيئة واحية ترتكز في توازنها الإيكولوجي على عنصر الماء أولا والماء ثانيا والماء ثالثا.[10] وبالتالي فإن اهتمامنا بالخطارة بهذه الشاكلة لا يرتبط بتساؤلات إيكولوجية فقط، بل بأسئلة أنثروبولوجية وسوسيولوجية من اللازم الاقتراب منها لفهم ثقافة ونمط عيش قاطني هذه الواحات.
وفق هذا الاعتبار، لا يمكن الحديث عن الخطارة دون الإشارة إلى الجانب الأنثروبولوجي الذي تمتاز به والمرتبط أساسا بالقوانين العرفية التي تنظم عملية الاستفادة من مياهها لسقي الأراض الفلاحية؛ فهي "تعرف نظاما خاصا في تصريف وتدبير المياه وتوزيعها على ذوي الحقوق، هذا النظام العرفي يسمى " حق الماء (le droit d’eau) "[11]؛ وهو نظام ترافقه مؤسسة تسهر على تدبير شؤونه، يكون على رأسها "شيخ الخطارة" الذي يتم تعيينه لمدة زمنية محددة، وهو القائم على ضبط شؤونها ومراقبة أحوالها بمعية مجموعة من الأشخاص يختارهم لمهمات محددة"[12]. لنكون أمام شكل من أشكال التنظيم التقليدي الذي ينفذ ما تنص عليه "القوانين العرفية" المتفق عليها داخل "القْبيلة"، وهي في مجملها متوارثة عن الأجيال السابقة.
إن قانون الخطارة العرفي بالمجتمع الواحي هو الذي يقنن عملية توزيع الماء من طرف المستفيدين، حيث يرتبط استغلال مياه الخطارة بتاريخ القبيلة قديما، وفق وحدة قياسية تسمى "النوبة" ويقصد بها عملية التناوب في السقي؛ وتكون إما بالليل أو بالنهار (من طلوع الشمس إلى الغروب أو من الغروب إلى طلوع الشمس)؛ وتقاس زمنيا "ب12 ساعة"، كما أن "النوبة" تنقسم إلى وحدات صغيرة يمكن إجمالها كالتالي:
· النوبة = 12 ساعة.
· نصف نوبة = 6 ساعات.
· ربع نوبة = 3 ساعة.
· ثمن نوبة = 1.5 ساعة.
· نصف ثمن = 45 دقيقة.
وجدير بالذكر-من الناحية الأنثروبولوجية- أن "النوبة" كاستراتيجية لتنظيم وتوزيع مياه الخطارة، تعد ملكا خاصا موثقا يباع ويشترى ويورث شرعا؛ لنكون أمام حالة مركبة تتداخل فيها الأعراف والقيم الاجتماعية التقليدية التي قد لا تخلو أحيانا من الصراع الرمزي والمادي معا. كما أن طبيعة التركيبة الاجتماعية القبلية لساكنة الواحة تجد صداها حتى في المسميات التي تطلق على الخطارات المحلية؛ حيث نجد أن أغلبها يحمل إسم القبيلة أو الفخذة التي تملكها، فنجد مثلا: خطارة البوسحابية نسبة إلى قبيلة أولاد بوسحابة، وخطارة المباركية نسبة إلى قبيلة أولاد أمبارك، وأيضا خطارة الغرينية والعيساوية...الخ.
كما تتجلى الجوانب الأنثروبولوجية والسوسيولوجية في نظام السقي بالخطارة، في إحياء وترسيخ قيم العمل الجماعي، المرتكز على التضامن والتعاون بين الساكنة المحلية، وهو ما يعرف في الثقافة الشعبية المحلية بطقس "التويزة"، وهو طقس يشجع على التفكير والعمل بأسلوب جماعي/تشاركي لمعالجة القضايا والشؤون العامة لساكنة الواحة، ومن ضمنها حفر وصيانة الخطارات.

خاتمة:

إن هذه العودة لاستخدام الخطارة كتقنية تقليدية في سقي الأراضي الفلاحية، يعتبر دليلا يعبر –جزئيا- عن وعي المجتمعات المعاصرة بأهمية بعض النظم والأفكار والإبتكارات التي أبدعتها الأجيال القديمة، والتي تنم عن حكمة لا يجب الاستهانة بها، أو تركها حبيسة الكتب والوثائق والروايات الشفهية، بل من اللازم العمل على تحيين فوائدها واستثمارها للغايات الإنسانية النبيلة. وما تقنية "الخطارة" إلا نموذج من نماذج متعددة لعناصر تراثية مهمة، من الملح علينا الحفاظ عليها وصيانتها، وإحياء القيم الإنسانية الإجابية التي تتضمنها، لنجعل منها قنطرة في سبيل تحقيق التنمية المستدامة.


الهوامش:

[1] في هذا الإطار نشير إلى البحث الجيد الذي حصلنا عليه حول الخطارات بواحة "الجرف" التابعة لواحات عرب الصباح والذي يؤكد طرحنا بأن الخطارة بواحات عرب الصباح تحتاج لتعمق أكثر لما لها من أبعاد تاريخية وسياسية واجتماعية وثقافية؛ أنظر:
Spoerry Sylvie , « le retour en eau des khattaras de Jorf une oasis du Tafilalet, Sud-Est du Maroc dynamiques de gestion de l’eau », mémoire d’ingénieur en agronomie tropicale de l’IRC SUPAGRO, option gestion sociale de l’eau, Maître de stage : Lhassan Elmrani ( ALCPPE), -dir-ecteurs de mémoire : Sylvain Lanau, 20 novembre 2007.
[2] عبد العزيز هاشمي - محمد زنوحي - عمر عليوي، "الماء والإنسان بواحات تافيلالت- منطقة الجرف نموذجا"، جمعية محاربة التصحر للمحافظة على البيئة بالجرف – الرشيدية، ص: 3.
[3] المرجع السابق، ص: 3.
[4] G.Deverdun , Marrakech, op , cit, p : 15
نقلا عن : حسن حافظي علوي، "سجلماسة وأقاليمها في القرن (8 ه)/ (14 م)"، م.س، ص: 73.
[5] Spoerry Sylvie , « le retour en eau des khzttaras de Jorf une oasis du Tafilalet, Sud-Est du Maroc dynamiques de gestion de l’eau »,op, cit, p : 7.
[6] حسن حافظي علوي، "سجلماسة وأقاليمها في القرن (8 ه)/ (14 م)"، م.س، ص: 75.
[7] المرجع السابق، ص: 77.
[8] Tilioua Mustapha, « potentialités culturelles et touristiques de la région de Tafilalet », Edition 2003, P :48.
[9] امحمد مهدان، "التنمية المستدامة في العالم القروي والواحات"، أعمال ندوة ،إعداد وتنسيق: بن محمد قسطاني، أيام 10 – 11 مايو 2007، سلسلة الندوات 33، جامعة م إسماعيل ، ك.أ.ع.إ مكناس، تنظيم شعبة علم الاجتماع، 2012،ص:78.
[10] محمد احدى، " دراسة سوسيواقتصادية لأعراف الجنوب ( آيت شاكر بمنطقة الرتب"، أكادير 2007، ص: 20.
[11]Tilioua Mustapha, « potentialités culturelles et touristiques de la région de Tafilalet », p:48.
[12] مبارك الطايعي، " البنايات الزراعية والبنيات الاجتماعية وأفق الاستمرار والانقطاع في الواحات المغربية – واحة تافيلالت نموذجا- "، م.س، ص:132.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انتخابات رئاسية في تشاد بعد 3 سنوات من استيلاء الجيش على الس


.. الرئيس الصيني في زيارة دولة إلى فرنسا والملف الأوكراني والتج




.. بلحظات.. إعصار يمحو مبنى شركة في نبراسكا


.. هل بات اجتياح مدينة رفح قريبا؟




.. قوات الاحتلال تقتحم مخيم طولكرم بعدد من الآليات العسكرية