الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عهد قديم وعهد جديد -5- إسمع ما يقوله إيل الثور الإله، سيّدك

طوني سماحة

2015 / 10 / 25
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


"كان بعل جالسا مثل الجبل الراسخ
كان هدد (اسم آخر لبعل) متمددا مثل البحر
على جبله، جبل سوبانو،
على جبل النصر.

له سبعة من الصواعق
و ثمانية مخابئ للرعد،
رمحه يخرج الصواعق.
أصابت تالايو (ابنة بعل وإلهة الندى) رأسه
أصابت البقعة القليلة الشعر بين عينيه.
فركت قدميه ورجليه
والقرون التي عليه،
ورأسه بثلج السماء.
وسُمعَ سؤال: هل من طعام؟
فمه مشتاق لكؤوس الحليب،
شفتاه لخمر الجرار...
..................
وقام ردمانو بخدمة بعل العلي،
وملأ قلب جلالته شبعا وسرورا."
(مقتطفات من ملحمة بعل كما وردت في الالواح الحجرية المكتشفة في مدينة أوغاريت السورية والعائدة تقريبا للعام 1400- 1200 قبل الميلاد)

قالت لي زميلتي الكندية البولندية الجذور، إثر زيارة لها لأهرام مصر "عندما كان أجدادكم يكتبون الشعر وينحتون التماثيل ويبنون الحضارة، كان أجدادنا ما يزالون يعيشون في الكهوف والمغاور." لفتة كريمة من زميلتي التي غضّت الطرف عن كل ما يجري اليوم في مهد الحضارات لتشيد بما قدمه أهل هذه البلاد للإنسانية. تشير معظم الدراسات إلى أن بلاد ما بين النهرين أو ما يعرف بالهلال الخصيب كانت أم الحضارات وأقدمها. كانت هذه البقعة من الارض بوتقة تنصهر فيها شعوب عدة مثل السومريين و الاموريين والآراميين والكنعانيين والحثيين والاشوريين والكلدانيين والعبرانيين لاحقا. كانت ثمة اختلافات بين هذه الشعوب وثمة التقاء على امور كثيرة منها فهمهم للدين. كان الكنعانيون يعبدون كبير الآلهة إيل كما كشفته لنا حفريات مدينة أوغاريت. كان إيل يشبه زوس كبير الآلهة الاغريقي وجوبيتر كبير الآلهة الروماني من حيث رئاسته لمجمع الآلهة وزواجه وإنجابه لأبناء آلهة. كانت "عشيرة" زوجة إيل وكان لهما الكثير من الأطفال الآلهة بما فيهم بعل، إله المطر والرعد وزوجته نصف الشقيقة عناة الإلهة المحاربة. كانت عشتاروت إلهة الخصب والانجاب أيضا زوجة لبعل.

كان يتم تكريم آلهة كنعان في المعابد المخصصة لهم و في المرتفعات. كان للملوك حضور مميز في تلك العبادات حيث يتم عقد الزواج المقدس الذي كان كناية عن زواج بين الآلهة أو زواج الملوك والكهنة. كان إيل وزوجته عشيرة أكثر الآلهة نفوذا في مجمع الأيلوهيم أو مجمع الآلهة في الحقبة الكنعانية الأسبق، فيما أصبح بعل وعناة الاكثر نفوذا في هذا المجمع في الحقبة المتأخرة. كان مجمع الآلهة يضم ما يزيد عن ثلاثين إلها لا يتساوون في المكانة والاهمية المطلقة، بل كان لكل منطقة وشعب آلهته المميزة. ومن أكثر الآلهة شعبية في أوساط الكنعانيين، بالاضافة لايل وعشيرة وبعل وعناة وعشتروت، نقرأ عن موت إله الموت وشموش الإله الشمس، وداجون إله الحصاد، ومولوك الذي قد يكون في هو ايضا ملكوم إله الذبائح البشرية، ويم إله البحر.

نجد في أوغاريت وصفا واضحا للآلهة ولدور كل واحد منهم. كان يم إله البحر يمسك بقبضته الحديدية أبناء "عشيرة" الإلهة الأم. عرضت عشيرة تقديم نفسها ذبيحة ليم إن هو أرخى قبضته عن أولادها، فاستجاب لها. إلا أن بعل أعلن عن عزمه هزم يم على الرغم من دعم إيل لإله البحر. انتهت المعركة بانتصار بعل بفضل آلة الحرب السحرية التي قدمها له خاطور حرفي السماء. لكن "موت"، إله الموت، استدرج بعل وقتله في الصحراء حيث الجفاف. عندها قامت عناة، شقيقة بعل وزوجته، باسترداد جسده ومهاجمة موت قاتلة إياه ورامية أشلاءه فوق الحقول. لكن إيل حلم أن بعل سوف يقوم من الموت، وهذا حقا ما حصل، إذ لم يقم بعل وحده من الموت بل وموت أيضا. تقاتل الإلهان مجددا الى ان تم النصر لبعل بعد ان سجد له موت وهكذا تمت الرياسة لبعل.

حاول بعض الدارسين الربط بين العهد القديم والديانة الكنعانية من خلال الربط بين الله وبعل. قال بعضهم أن المصدر واحد وان اليهودية تطورت من رحم الكنعانية. واعتمدوا للتأكيد على فكرهم على بعض العبارات الواردة في العهد القديم وفي النصوص الاوغاريتية. يرى أحدهم على سبيل المثال أن يهوه وبعل يختلفان بالاسم لكنهما وجهان لعملة واحدة. يعتمد الكاتب على نص ورد في المزمور 29 ليقول ان الإلهين يتشابهان لانهما يمسكان بالطقس ويركبان الغمام ويهزمان الكائنات البهيمية
"3 صوت الرب على المياه . إله المجد أرعد. الرب فوق المياه الكثيرة
4 صوت الرب بالقوة. صوت الرب بالجلال
5 صوت الرب مكسر الأرز ، ويكسر الرب أرز لبنان
6 ويمرحها مثل عجل. لبنان وسريون مثل فرير البقر الوحشي
7 صوت الرب يقدح لهب نار
8 صوت الرب يزلزل البرية. يزلزل الرب برية قادش
9 صوت الرب يولد الإيل ، ويكشف الوعور، وفي هيكله الكل قائل: مجد
10 الرب بالطوفان جلس، ويجلس الرب ملكا إلى الأبد"
لقد غاب عن بال الناقد أن كاتب العهد القديم يتكلم لغة كنعان ويستخدم مفرداتها وصورها كيما يعبر عن فكره الذي يريد ايصاله لاهل تلك البقعة الجغرافية. لكن التشابه في الكلام وانتقاء العبارات والصور لا يجعل من اله العهد القديم وبعل واحدا. بل لكل من الإلهين صفاته. بعل يشبه البشر في في كل صفاته وإن كان يركب الغمام ويزلزل الارض. فهو ابن إيل وزوج عناة. يجوع ويشبع من الذبائح التي يقدمها له الناس كيما يرضوه. يشرب الخمر ويحب الملذات. يحب ويكره شأنه شأن الناس جميعا. يتخاصم مع غيره من الآلهة فيقتل ويقتل. يتحالف بعل مع أصدقائه ويتحارب مع أعدائه. يعشق وسائله المنوي عبارة عن المطر الذي يسقي الارض. يغضب بعل ويسترخي. يعمل ويستريح. وفي النهاية ليس بعل سوى بإسقاط لتخيل الناس عنه في تلك الآونة. أما إله العهد القديم، وإن كان يركب الغمام ويزلزل الارض، إلا أنه يضع حدا فاصلا بينه وبين البشر. فهو روح والروح لا تحتاج للطعام او للشراب. إله العهد القديم يخرج من إطار الخرافة التي سكن فيها بعل فهو لا يتزوج شأنه شأن البشر ولا بداية له او نهاية. يسمو عن الانسان في طرقه. لإله العهد القديم صفة، قد يكون الكنعانيون أطلقوها على آلهتهم، دون أن يفهموها كما وضحها العهد القديم لقرّائه ألا وهي القداسة. الله في علاقته مع بني اسرائيل وضع خطا واضحا بينه وبين الخطيئة. هو يكره الخطيئة، لكنه يغفر للخاطئ التائب. يتعالى الله في العهد القديم عن الكذب والحنث بالوعد وهو إن قال شيئا عمله " ليس الله انسانا فيكذب.ولا ابن انسان فيندم.هل يقول ولا يفعل او يتكلم ولا يفي. " (سفر العدد 23: 9). الله وخلافا لبعل، "رب رحيم رؤوف، طويل الروح وكثير الرحمة. الرب مجرى العدل والقضاء لجميع المظلومين" (مزمور 103). هو أزلي لا يتأثر بالمكان والزمان كما انه غير متغير. هو صالح وعالم بكل شيء. لكن هذا الاله الكثير الرحمة هو ايضا القاضي الذي يقف الانسان امامه كي يقدم حسابا عن مسيرته في هذه الحياة.

إن كان بعض الدارسين خلطوا بين العهد القديم والاساطير الكنعانية بسبب تشابه العبارات والصور، عليهم أن يدخلوا الى العمق في فهمهم ل لله كما قدمه كاتب العهد القديم لشعب العبرانيين وليس كما توحيه لهم مخيلتهم والتشابه في استعمال التعابير بسبب مشاركة الكنعانيي والعبرانيي الثقافة ذاتها آنذاك. إيل وبعل وسائر الالهة الذين رسمتهم مخيلة كنعان مختلفون تماما عن الله. ينهي كاتب ملحمة بعل النص على الشكل التالي (او ربما لم يتم العثور على نهاية النص):
"كافتورهو العرش الذي يجلس عليه،
مصر هي ارض ميراثه،
املأوا الآلاف من الفدادين وانحنوا امام خاطور،
اسقطوا ارضا واسجدوا امامه ومجدوه.
قولوا لخاطور الحرفي الماهر،
اسمع ما يقوله الثور إيل، أبيك
اسمع ما يقوله الرحيم، سيدك
أيا كوتارو، أيها البنّاء
بنّاء مساكن الآلهة
أنت يا من يضع الحجارة الكبيرة للبناء
أسرع ولتجر رجلك إليّ
ولتجر قدماك سريعا إليّ
في وسط خورسانو الجبل،
لأنه لدي ما اقوله لك
لي كلمة اريد ان اخبرك بها."

نعم، ثمة التقاء بين لغة العهد القديم العبرية الكنعانية الاصول وبين لغة كنعان، لكن هذا الالتقاء لا يتعدى التشابه اللغوي والشعري والثقافي وهو امر طبيعي إذ لا بد للانسان عن يعبر عن نفسه وفكره من خلال اللغة التي تعلمها وتكلمها. أما محاولة الجمع بين الله وايل او بعل يبقى مربوطا بالفشل إذ أن الله روح يسمو عن الانسان في فكره وتصرفاته وهويته وشخصه، أما بعل وايل وغيرهم يبقون نتاج مخيلة أسقطت عليهم فهمها للالوهة من خلال تجربتها البشرية. لذلك نرى بعل يحب ويتزوج وينجب ويقاتل ويحيا ويموت. الله كما قدمه العهد القديم يسمو فوق الزمان والمكان والجغرافيا والثقافة والتجربة البشرية إلا أن آلهة كنعان يبقون اسرى التاريخ والجغرافيا والثقافة والتجربة الانسانية التي كان لها الفضل عليهم بالحياة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أسامة بن لادن.. 13 عاما على مقتله


.. حديث السوشال | من بينها المسجد النبوي.. سيول شديدة تضرب مناط




.. 102-Al-Baqarah


.. 103-Al-Baqarah




.. 104-Al-Baqarah