الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ولادة في غرفة اعدام

خالد حسين سلطان

2015 / 10 / 25
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


صدرت في بغداد رواية بعنوان ( حفل رئاسي ـ وقائع غير مروية من أحداث مجزرة قاعة الخلد عام 1979 ) الرواية تخوض بأحداث واقعية وباسماء صريحة ومنتحلة (حسب رغبة الشهود الاحياء ) عن ما جرى في بغداد بعد تولي الطاغية المقبور صدام حسين سدة الحكم في 1979 وتصفية الخصوم والمناوئين وبحسابات واجندات غريبة عجيبة وهو ما يعرف بـ ( مجزرة قاعة الخلد )، قد لا يكون موضوع الرواية جديدا وكتب عنه الكثير وباجتهادات وتحليلات مختلفة، لكن هنا في روايتنا تلك تتبع مرن وغير ممل للأحداث وعلى لسان شهود احياء وبتفاصيل دقيقة لا تخلوا من نكهة ادبية جميلة، بالاضافة الى محطات ومواقف شاذة وغير متوقعة وتصدم من يطلع عليها .
اعرض هنا محطتين، وقفت عندهما طويلا لسبب أو آخر واترك البقية للقارئ الكريم، احدهما عرضية بعيدة عن صلب الرواية تدور حول عملية اعدام وولادة في آن واحد، والاخرى عن محاولة رئيس دولة عظمى لانقاذ احد المتهمين الافتراضيين في المؤامرة المفتعلة بارسال دعوة ضيافة له بدلا من التوجه الى المحرقة .
ولادة واعدام
يلحق جاسب بالركب المتجه لاحياء حفلة اعدام. امرأة ترتدي بدلة برتقالية، تخذل السيقان النحيلة جسدها المتورم من الوسط. يجرها اثنان بلباس زيتوني، كانها اصيبت بشلل الرعاش، خلفها بنصف متر، رجل يرتدي ذات البدلة، يسير باعتدال رغم السلسلة التي تكبل ساقاه، ومن بعدهم جاسب مستمر في محاولته، وضع أزرار بدلته الزيتوني في أماكنها، اكمالا لقيافة جر العصا، وازهاق الروح التي لا يعرف في الأصل، صحة التهم الموجهة لها. جر العصا، سلب روح الرجل أولا، فارتفع صوت المرأة نواحا، وقبل جر العصا ثانية، علت من حنجرتها الشابة، صرخة تناقلت الجدران، صداها المتسرب خارجا، اختلطت بعدها الاصوات، كأن شيئا غير مألوف قد حدث. انتهت حفلة هذا اليوم، تفرق الخفراء المكلفون باتمام المهمة، كل باتجاه العمل المخصص له في قائمة التوزيع. عاد جاسب الى صومعته، ساعيا الفوز بساعة نوم إضافية، بعد متعة جر العصا وأختضاض جسدين، أزهق أرواحهما في آن واحد معا. يبدأ كريم خفارته مشرفا على خطوات التهذيب، أو التعذيب منذ الصباح، حسب البرنامج الموضوع من خبراء الجهاز، دخل المطبخ لتحديد وجبة الغذاء، تقدم منه سرمد مستفسرا عن الصرخة المدوية قبل قليل، وعن شخصين سيقا معا الى غرفة الموت، فأجابه دون توجس، انهما زوجان شيوعيان، قاتلا الحكومة في صفوف الانصار بشمال العراق، القي القبض عليهما في السيطرة العسكرية بمدينة الخالص، يقال انهما مكلفان بايصال، تعليمات شفوية الى قواعد الحزب الشيوعي في بغداد، ويقال انهما ادعيا تركهما العمل الحزبي، والتوجه الى بغداد للعمل، والعيش مثل غيرهم من أهل العراق، صدر بحقهما الحكم بالاعدام، شنقا حتى الموت، من قبل محكمة الثورة، نفذ قبل قليل. أستمر كريم هكذا في الكلام مبينا أن الصخب الذي حصل، واختلاط الاصوات، يتعلق بكون المتهمة حامل في شهرها الأخير. لقد توسلت تأجيل التنفيذ حتى حلول الولادة، وعندما رفض رئيس الجهاز التأجيل، وعلق على الطلب " الدولة ليست بحاجة الى خائن جديد ". قدمت طلبا آخر باجراء عملية قيصرية لاخراج الطفل البريء قبل التنفيذ، لم تحصل الموافقة أيضا. كان الموقف برمته مثيرا، باتت خلاله تتوالى التفاصيل من فم، وكأن صاحبه يتعاطف مع الضحية، يخشى اثارة الانتباه، يخاف جماعته القريبين، وان كان محسوبا عليهم، طاقم تم اختياره بامعان لاغراض التعذيب. توقف قليلا، التفت قليلا حول المكان، وكانه يخشى قدوم أحد بالصدفة. حاول سرمد سحبه لاتمام ما بدأه من كلام، باستخدام التعجب وسيلة استثارة، تدفع للاستمرار في الكلام، فأكمل حديثه قائلا، أن ميادة الزوجة المقاتلة، قاومت الصعود الى منصة الاعدام، صرخت لتأخره قليلا، عساها تسمع، صرخة الطفل آخر ما تتمناه، وعندما تيقنت من استحالة التأخير، ولو دقائق معدودات، حاولت فتح ساقيها، بكت بحرقة، استنجدت بالله، ندهت باسماء الانبياء والأولياء، كأنها تريد الدخول في دورة المخاض، ما زالت تتأمل تكحيل عينيها بوليد ينزل حيا قبل الممات. لم يمهلها جاسب المهووس بردود فعل الجسم اختضاضا، بعد التفاف الحبل وقطع الانفاس، لم يلب رغبتها الاخيرة قبل التنفيذ، سحب العصا سريعا هذه المرة، علت وجهه العبوس ابتسامة تشفي باهتة، كمن حصل على حاجة أنتظرها طويلا. تدلى جسدها العشريني يختض بشدة، وفي داخله صرخة احتجاج مكتومة، تحركت قدميها بحركات متوالية، وكأنها إستجمعت طاقة شباب، كانت مخزونة قوتها لقطع شريط القماش، الذي يربطهما قدمين قويتين. سقطت على الأرض ميتة، تباعدت ساقاها عصبيا، وكأنهما مازالت تتحكم بفتحهما كما هي الحاجة أثناء الولادة التقليدية، عندها انزلق الطفل من بين الفخذين، مطلقا صرخة ميلاد الى عالم مظلم. بهت الحضور عجبا من اصرار الضحية على اتمام الولادة ميتة، أختلفوا على تقرير مصير الطفل الوليد، فتقدم جاسب خطوة باتجاه الطفل راقدا على الارض، يرى ضرورة تركه على ذات الحال يموت، جنب والدته الميتة، أيده الامام المنتدب لتلاوة الشهادة قبل الموت، في الوقت الذي رأى الطبيب عكس هذا قائلا، ان العقاب موجه الى الام الخائنة، ولا علاقة للمولود بما ارتكبته من إثم لعين. نوه بذكاء الى أن الاماتة القصدية، مسؤولية قد تغضب السيد الرئيس، تنويه أراد منه التأثير على جاسب، للحيلولة دون اماتة المولود عمدا. نقاش لم يدم طويلا، حيث الاتفاق على إبقاء الطفل عند طرف ثالث، لحين الاستفسار عن مصيره من رئيس الجهاز. السيدة رضية عاملة التنظيف هي الطرف الثالث. لقد تجاوزت الأربعين من العمر، ولم تنجب طفلا من زوجها العقيم، سمعت تفاصيل النقاش أثناء غسل الأرضية التي غطتها دماء الولادة، الآتية من جثة أعطت مولودا دون الشعور بآلام المخاض، عرضت أخذ الطفل، تسجيله باسم زوج لها فتأ يصلي لمولود ولو بالتبني. حل قبله جاسب، أطلق عليه اسما من عنده " زغير " على أن تتركه يموت اذا ما جاء الرفض من قبل السيد رئيس الجهاز. اللفافة من بقايا ملابس تركتها ميادة في الامانات. غسلت جسمه في المكان المخصص للمساجين، أزالت الطبقة الدهنية الجينية، لفته بتلك البقايا، واستأذنت الذهاب الى البيت في منطقة الحصوة قريبا من ابو غريب، كأن الحياة عادت اليها، تفكر بالروح التي جاءت من أخرى زهقت توا. حزنت مع نفسها على الأم التي لم تر مولودها في لحظة تمسكت به ابنا كأنها ولدته فعلا(*)، سجلته في دائرة النفوس باسم " وليد " لعدم اقتناعها بالتسمية التي أرادها جاسب، يوم ولادته من رحم أم ميتة .
برقية دعوة
من ضمن الذين شملتهم محرقة قاعة الخلد هو مرتضى الحديثي، يذكر في الرواية ونقلا عن لسانه طريقة استدعاءه من مدريد باتصال من وزير الخارجية حيث كان سفير للعراق في اسبانيا، لمقابلة الرئيس الجديد فيذكر الدعوة الغريبة التالية : ( ... لم تكن في ذاك اليوم رحلة للخطوط الجوية العراقية الى بغداد ، مما اضطرني أخذ الطائرة التركية المتجهة الى اسطنبول، ومنها الى بغداد التي وصلتها فجر اليوم الذي يلي. فاتني ان اذكر وبعد أتصال الوزير بدقائق، وصلني تلكس من الرئيس السوفيتي برجينيف شخصيا، بعبارات محددة " لا تذهب الى بغداد، توجه الى موسكو، ضيفا عزيزا، الكي جي بي، لديها علم بالتصفيات التي ستجري في البلاد " ، لم أعر الموضوع اهتماما، وإن أقلقني حقا ).
رواية الحفل الرئاسي من ابداع السيد سعد العبيدي، وهو من مواليد قرية الجمجمة في محافظة بابل 1946 ، ضابط متقاعد في الجيش العراقي حاصل على شهادة الدكتوراه في علم النفس السريري من جامعة بغداد 1991 عمل مدرسا لمادة علم النفس في جامعات عراقية وعربية وباحثا وكاتبا، وله العديد من المؤلفات والبحوث اخرها ( الضغوط النفسية في الحرب ) من اصدارات مركز الشرق للبحوث والاستشارات، بغداد 2015، ومن ثم تلك الرواية البديعة .
هذا المنجز الجدير بالقراءة، جاء بـ ( 247 ) صفحة من القطع المتوسط وهو من اصدار منشورات الضفاف في بيروت وتوزيع دار ومكتبة عدنان في بغداد .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* بعد عام حضر عم الولد الذي يقيم في ألمانيا الى بيت السيدة رضية، مطالبا بإعادة ابن أخيه الذي يعمل حمالا يدفع عربة في المنطقة، يعيش منها ويعين أهله الذين احتظنوه على العيش، أراد اصطحابه ليعيش معه والعائلة في ألمانيا، تركت السيدة رضية الخيار للولد، الذي أكد بحضور عمه أنها والدته الحقيقية وزوجها والده، هم أهله، لا يمكنه تركهم في حالهم الفقيرة، والذهاب بعيدا عنهم ولو الى النعيم .
بغداد 25/10/2015








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لحظة هروب طلاب في مستوطنة -كريات يام- بحيفا بعد دوي صفارات إ


.. نتنياهو: الشعب اللبناني على مفترق طرق وهو خياركم ويمكنكم ان




.. هغاري: لا نزال نبحث نتائج الغارة الجوية التي استهدفت القيادي


.. ما هي السيناريوهات الأكثر ترجيحا لرد إسرائيل على إيران؟




.. وزير الخارجية الإيراني: نرصد جميع التحركات وسنرد بشكل متناسب