الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحكاية سوسيولوجيا:من فضاءات المحكي إلى تخوم العوالم

محمد قروق كركيش

2015 / 11 / 3
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


كثيرة هي سرديات العالم ، إنها تنوع خارق للأنواع ... السرد حاضر في الأسطورة ، الخرافة ، المثل ، الحكاية ، القصة القصيرة، الملحمة ، التاريخ ، التراجيديا ... تحت هذه الأشكال اللامتناهية سنجد السرد في كل الأزمنة ؛في كل الأمكنة ؛ وفي كل المجتمعات ، يبدأ السرد مع التاريخ أو حتى مع الإنسانية ؛ليس شعب دون سرد ، لكل الطبقات ، لكل التجمعات الإنسانية سردياتها ، ويسعى غالبا أناس من ثقافات مختلفة وحتى متعارضة لتذوق هذه السرديات ... يكون السرد آنئذ ، كما الحياة .

رولان بارت(النقد البنيوي للحكاية، 1988).

تمهيد:
كثيرا جدا ما قيل عن الحكاية الشفهية أنها جنس أدبي دوني ، يعبر عن الثقافة التحتية للمجتمع أو كما ينادونها عادة بثقافة الهامش ، لقد اعتبروها مجرد روتوشات غير صالحة مع تطور الزمان و تقدم المجتمعات ، والحق أن هذه المفارقة تبعث عن السخرية ، وتنم عن موقف مضاد للتقليد ، هذا الموقف يعكس في طياتها نظرة متعالية عن الواقع ؛ عن المجتمع ؛ عن الذات نفسها ؛ بل عن الإنسانية بشكل عام ، ومن منا لم يستمع لحكاية الجدات و الأمهات التي تملأها عوالم من التشكيل !، عوالم تدل على صنعة إبداعية قولية تعكس في طياتها جماليات النفس وعنفوانية الواقع لتنجلي في وعاء من الكلمات الزاخرة كأنها زمرد خالد. ولا يمكن لأي جنس أدبي يرتبط بالمجتمع أن يتعالى عن الآخر، لأنه بكل بساطة يعكس مقومات الناس وخصوصياتهم وعاداتهم و تقاليدهم وحياتهم الخاصة و العامة ، بل حتى ذاكرتهم الذهنية ، لذلك فإن الحكاية الشفهية في معناها الراقي تدل على توالد عوالم من الصيغ و الرموز و الوقائع التي تعطيها معناها من جهة ، وتمدها بالإستمرارية من جهة أخرى .
إذ لابد في النهاية أن تكون الحكاية مجموعة من العوالم قابلة للتشكيل في أي زمان ومكان معينين ، فنجد العالم الواقعي من أبرز اللبنات الأساسية ، لأنه مصدرها الخارجي الذي يتأثر بالبيئة المحيطة ، تماما كما العالم الداخلي النفسي الذي يلونها انطلاقا من الذات سواء كانت فردية أم جماعية ، هذا التجاذب بين العالمين الداخلي و الخارجي يمنح الحكاية بعدا تشويقياً يتجلى على أبعد الحدود في صراعهما الدائم ، بالإضافة إلى هاذين العالمين لابد من تواجد حلقة أخرى هي الأساس في عملية الحكي و التبليغ ، إذ كيف للراوي أن يعبر عن نزاعاته الداخلية والخارجية بدون كلمة ؟ ، هذه الأخيرة تشكل العالم البنيوي الذي تنبني عليه طبيعة المجتمع، لذلك فإنني أبتغي من هذه الورقة تبيان الحدود الرئيسية لعوالم الحكاية الشفهية باعتبارها إرثا حضاريا راقيا يعبر عن ثقافتنا الغنية ، فاخترت ثلاث عوالم بعينها ؛ أطلقتُ على الأول : العالم الخارجي؛ وأعني به المجتمع أو البيئة التي تنشئ فيها الحكاية الشفهية ، ثم ثاني هذه العوالم يتجلى في البعد الداخلي للإبداع؛ وأعني به العالم النفسي الذي يتأثر بالمجتمع الخارجي ليعبر عن مكبوتات دفينة تعبر بطلاقة عن وضعيات مجتمعية معينة ، ولما كانت الحكاية الشفهية تخضع لجدلية الداخل و الخارج ، كان لابد لها - لكي تعبر عن نفسها - من لغة وكلمات ترتبط بالمجتمع المحيط بها ، فكان عالم الكلمة فضاء معبرا عن أبجديات الأمة .
انطلاقا من هذا الفرش النظري حاولت أن أحدد مجموعة من الأسئلة ، هي في جوهرها ، إشكالات ستظل تنطرح علينا بشكل مستمر في كل زمان وفي كل مكان ، ولا أدعي هنا الإحاطة بجميع حيثياتها ، اللهم إلا النزر اليسير مما جادت به حدود الإمكان ، فهل للحكاية الشفهية بيئة خاصة تعبر عن مولدها أم أن الحكاية الشفهية تتكون في إطار بيئات مجتمعية متنوعة تتجاوز حدود البيئة الواحدة ؟ وهل هذه البيئة - العالم الواقعي - يمنحها خصائص تدل على بيئة معينة ؟ وكيف يتدخل العالم الداخلي النفسي ليؤثر فيها وتتأثر به ؟ وهل يمكن للحكاية أن تعبر عن نفسها بدون عالم من الكلمات ؟

1)- العالم الخارجي للحكاية الشفهية :( المجتمع )
قبل أن تبدأ أي حكاية شفهية لابد لها من بيئة ، تكون هي وليدتها ، بحيث لا يمكن لأي نمط أدبي قولي و شفهي أن ينشئ من عدم ، فالمبدعون في الحكاية الشفهية لابد لهم من استحضار أمر مهم قبل صياغة القول ، وهو نمط المجتمع وسياقاته ، بحيث لا يمكن لأي راوي أن يبدع في الحكاية ما لم تكن تستحضر واقع المجتمع الذي يعيش فيه ، فهي تمتد عبر الأزمنة التاريخية لتتبناها الأجيال جيلا بعد جيل ، وهذا الأمر هو الذي جعل " فون ديرلاين " يعتبر بأن الحكاية ثرات الشعب وتصوراته و معتقداته وعاداته ،بل ردها إلى الأصول القديمة ، حيث كانت الحكاية البدائية تتكون في الأصل من أخبار مفردة نبعت من حياة الشعوب ، ثم تطورت هذه الأخبار واتخذت شكلا فنيا على يد القاص ( الراوي ) الشعبي .
مما يعني أن الحكاية بفعل تطورها و استمرارها لابد أن تخضع لمنطق العوام ، إنه البيئة الخارجية التي تمدها بالقوة فتجعلها قادرة على البقاء ، لأنها في حقيقة الأمر تقف وجها لوجه أمام عالمنا الواقعي ، ناهيك عن الحكاية الخرافية التي ترفض عالمنا فتحل محله عالما أجمل وأكثر منه بهاء وسحرا ، فتبتعد شيئا فشيئا عن حدود المكان والزمان ، وهذا في حد ذاته لا يعني البتة أن الحكاية الخرافية منفصلة تماما عن عالمنا الواقعي وأناسه الواقعيين ، فهي تهدف أولا وأخيرا إلى تصوير نماذج بشرية ، حينما تصور لنا علاقة الإنسان بأخيه الإنسان ؛ والإنسان والحيوان ؛ والإنسان وما يحاط به معلوما كان أو مجهولا ، وعلى الرغم من أن العالم المجهول بالنسبة لحياتنا الواقعية ينفصل عن عالمنا الزمني ، فهذا لا يعني أن لا آثر لهذا العالم في حياتنا ، بل إنه على العكس مهم في حياتنا وفي سلوكنا النفسي ، كما أنه ليس بعيدا عنا ، فهو يؤثر في حياتنا اليومية والاتصال به يولد في الإنسان تأملا من نوع خاص ، إنه يجذبنا إليه ولكنه يردنا عنه مرة أخرى ، أي أن الإنسان يشعر بعلاقة قهرية بينه وبين هذا العالم ، فهو يثير خوفه منه وشوقه إليه في الوقت نفسه .
لذلك فرغم البعد الخرافي للحكاية فهي تصور لنا ما يقع لأنها رافد من روافد الذهنية الشعبية التي أبدعت المرويات القولية ، والحكايات تنشأ من تكامل ثقافة المجتمع عبر حقبه التاريخية المختلفة ، لتلبي احتياجات نفسية وعاطفية ، هذه الاحتياجات موروثة في الطبيعة البشرية ، ولكن شدتها تتراوح تبعا للتغيرات في الأحوال الاجتماعية والمادية التي تمس قدرة النظام الاجتماعي على تلبية احتياجات أفراده الطبيعية والاجتماعية والنفسية والعاطفية .
ولنتصور مثلا كيف يمكن لحكاية ما أن تنفصل عن المجتمع وتشكل لنفسها عالما آخر ، عالما يبعث الأمل ويزيدها أفقا وتجليا ، فتختلط بالعجائب و الخرافات من خلال تصوير مجموعة من الأحداث التي تتعلق بالبطل ، فتراه في صراع بين الواقع و الخيال ، لكنها - الحكاية - سرعان ما تعود لتشرب من منبعها الأصل الذي هو بيئتها الدائمة التي تمنحها عتبات التشكل والبناء، بل إن فاعلية البطل وتحركه العجيب داخل بنية الحكاية يعكس صراع الإنسان مع واقعه وتفاعله معه ، وهذه الجدلية تفيدنا كثيرا في الدراسات الأنتروبولوجية والاجتماعية ، لأنها تمدنا بأدوات لمعرفة الحقب التاريخية التي عاشها البطل من جهة ، والظروف المحيطة بالحكاية وخلفياتها السوسيوإجتماعية التي جعلتها تولد .
وما دامت الحكاية تتمحور حول الإنسان ، فبإمكان أي شخص في المجتمع أن يكون بطلا فيها على الرغم من أنها تستخدم ما يفيدها من عناصر أسطورية وخرافية ، لكنها سرعان ما تتطور لتعود فتنبذ كل ما له صلة بالأساطير و الخرافات ، فتتجدر حول هموم الإنسان مباشرة ، وهنا لابد من القول أن الحكاية الشفهية دائما ما تحمل رسالة معينة صنعت من أجلها ، فرغم ما تبديه لنا من بعد عجائبي مغالي بعد الشيء ، إلا أنها تعكس سلوكيات وهموم وقيم المجتمع الإنساني الذي تربت ونشأت فيه ، لأنها بعبارة أخرى تتلون بألوان غير واقعية لتبرر تصرفات ومكبوتات معاشة من لدن الأفراد .
لذلك، هناك من يرى بأن الحكاية تعبير عن حركة العامة من الناس ، وبالأخص يركز على حركة الشريحة المسحوقة من الشعب ( الفلاحين ، العمال ... ) ، وأصحاب هذا الرأي يتناسون بأن الحكاية لا تعترف بمنطق الطبقية ، لأنه عوض أن نحكم عليها ، فإنها تحكم وتفرض علينا قوتها ، وقوتها تتجلى في أنها مرآة للمجتمع ، وإذا ما درسنا الحكاية وحللناها فإننا نجد أنها تستنبط القيم و المعايير الاجتماعية و التقاليد والأعراف التي تشكل بنية المجتمع ، بمعنى آخر أنها بنتُ بيئتها ، بل أن الحكاية الشفهية في معنى آخر تشكل وعاءا يتسع للمجتمع ، فالمجتمع بطل وزمان ومكان وحدث وتفاعل وبالتالي قضية اجتماعية .
إن موضوع توظيف الحكاية الشفهية في المجتمع ، مهما أطنبنا فيه ، بحاجة دائما إلى المزيد من الدراسة و البحث والتحليل والتقصي الدقيق لنصل إلى استقراء المجتمع عبر حقبه التاريخية المتعاقبة من خلال حكاياته ، والحق أنه في السنوات القليلة الأخيرة انتبهت مجموعة من المدارس المعنية بتحليل المتن الحكائي ، إلى أن التعبير الأدبي بشتى ألوانه وأطيافه يمكننا من سبر أغوار المجتمع ومعرفة مفصلاته ، وبالتالي معالجته اجتماعيا و ثقافيا ، وهذه النظرة غالبا ما تتجه لمعرفة الروابط التي تجمع الحكاية بالمجتمع والمبدع وتحليل هذه الثلاثية في إطار التفاعل ، لأن الحكاية في النهاية حكي تخييلي نثري لأحداث وأفعال قد تكون عادية أو خارقة ، وهي مظهر عام أكثر رمزية ، إنها تخييل يتغذى من معين ثقافة الجماعة الأصل ؛ مروجة بذلك كل المعتقدات وأوضاع المجتمع وقيمه الجماعية ، و إذا كانت كذلك فإننا نقترح مع " جرار جنيت " أنه ما دامت وظيفة الحكاية ليست إصدار أمر أو التعبير عن ثمن أو ذكر شرط ، فإنها بالتالي نقل وقائع واقعية قد تختلط بالخيال .
وبالتالي يكون للأدب الشعبي دورا بارزا في أي شعب من الشعوب ، بل يعد أيضا تعبيرا عن واقعه وتسجيلا للأحداث الهامة من تاريخه ، كما يعد تصورا دقيقا يعبر عن المجتمع وتقاليده وأرائه الأصلية ، وهو محاولة للتعبير عن محصلة تجارب المجتمع بوسائل مختلفة ، هي نتاج تفاعل المجتمع مع الكلمة ذات الدلالة وذات المغزى ، مما يعني أن الحكاية الشفهية هي مجموعة من التصورات التي يكونها الفرد في إطار تفاعله مع بيئته ، بحيث لا يمكن له أن يعبر عن سردياتها المحكية في إطار تلك التفاعل إلا بعالم من عوالم الكلمات .
والمرجع الأساس بالنسبة للحكاية ما عساه أن يكون غير الواقع الاجتماعي و النفسي للجماعة والفرد النائب عنها في رسم صورها بأدوات الفن ، وهي حقيقة لا يخلو منها فن ولا علم ولا ممارسة إنسانية ، بل حتى الافتراض يقوم على معطيات الواقع وإمكاناته ويختص الأدب الشعبي بقربه الشديد من المرجع الاجتماعي و النفسي ، لذلك فإن المبدع في الحكاية الشفهية يقدم لنا المجتمع بطريقة فنية تبعث عن مكنونات يتقاسمها مع أفراد بيئته .
ففي طيات التاريخ وعلى واقع أمواجه تتكون ثقافة المجتمعات ، أما البواعث الحقيقية التي تجعل ثقافة ما قادرة على الإبداع و الابتكار فإنها تكمن أولا في الأسلوب الخاص بها ، والذي بواسطته تعالج مشاكلها الداخلية ؛ وثانيا في تطلعاتها إلى القيم و الروابط الاجتماعية ، فإذا اختلف الباعث الأول من مجتمع إلى آخر ، فإن الباعث الثاني مشترك لدى كافة الشعوب ، وبالتالي فإن الأسلوب الخاص بكل مجتمع يتجلى في لغته التي تمنح الحكاية طابعها الذي يميزها عن المجتمعات الأخرى ، ولكن لا يمكن أن نجزم في ذلك ، لأن مقدرة الحكاية على الانتشار الواسع تجعلها تتحول من مجتمع إلى آخر لتشرب من مجموعة من البيئات المختلفة ، مما يجعلها في نهاية المطاف ثقافة عالمية بتشاركها الأفراد في مختلف البيئات المجتمعية المختلفة .
والحكاية مبعثها الحياة الاجتماعية ، تعبر عن أسلوب الجماعة وتعالج آلامها وآمالها و تصيغ الحلول لما تطرحه من مشاكل ، وهي تعيش في كنف الجماعة وترتبط بكل أفرادها ، وهي دائما مقربة من الجماهير كما أنها موجودة في أشغالهم اليومية ، وهذا يشكل باعثا من بواعث استمرارها وتجدرها ، وما دام الواقع الاجتماعي هو مرجع الناس فكان لابد للحكاية أن تقاس وتصاغ وتحكى وتنسج للجمهور في صورة تتواءم وتطلعاته ، فيأتي إبداعها بصورة مركزة وشديدة الالتحام بالمجتمع الذي يحيى فيه الأدب والفنون الشعبية بمختلف أنواعها .
وتستخدم الحكاية الشفهية ومنها سائر الفنون و الأدب الأخرى كالقصة مثلا ، تقنية لها القدرة الفعالة على تصوير المجتمع هي النمذجة فتصنع لقضاياها نماذج يوكل لها مهمة الدور التي تؤديه وتشخيص الموقف الذي حدث بشكل ما في المجتمع الذي ولدت فيه ، ومن هنا فإن الحكاية تعبر عن بيئتها الطبيعية من خلال التصرف وأخذ نماذج تصورها بطرق شتى ، كما تمتاز أيضا بتقنية التلميح دون التصريح ، فهي تأخذ نموذج من الواقع وتتصرف فيه عن طريق رموز وصيغ لها دلالات إيحائية ، لذلك فهي – الحكاية الشفهية – لا تقدم لنا حل للمشاكل الذي يعاني منها المجتمع ، بل تنتقد وتثور على هذا الواقع لتلمح بمجموعة من الإشارات دون أن تصرح بها .
هذه التقنيات التي تتميز بها الحكاية الشفهية ( النمذجة ، التلميح ) تشكل معنى أكثر دلالة في استرجاع الواقع بواسطة الكلمة ، وهنا تكمن قوة الأدب الذي هو جزء من الثقافة ، لا يبقى محصورا بين التعبير وأدوات التعبير ، بل إنه يدور في المحور العام الذي تدور فيه حياة المجتمع فيتأثر به ويتقولب عليه شكلا ومضمونا ويعكس جوانب منه بالإفصاح أو بالرمز ، حيث أن الأدب عامة يشكل ذخيرة نفيسة بالنسبة للمؤرخ الذي يعرف كيف يتعامل معه ، ولابد من تذكر ما للصيغ والرموز من دلالة في عملية الحكي ، لأن الرمز يتوسط بين المجتمع و الراوي ليدلل معاني ما للمتلقي.

2)-العالم الداخلي للحكاية الشفهية: ( النفسي )
إذا كانت الحكاية الشفهية تنبني في شكلها الضمني من خلال تأثرها بالبيئة والمجتمع فلابد من أن تتدخل الذات في صياغتها ، لأن المرجعية الذاتية للأفراد المبدعين هي التي تعبر عن منطقها العام ، ومن خلال هذا ، بإمكاننا القول أن العالم النفسي للحكاية الشفهية ينبني على صراعات داخلية منبعها الدوافع الخارجية ، وما دامت المثيرات والحوافز الخارجية للمجتمع هي الوسط البيئي لها ، فإن العالم النفسي يتدخل ليخلق عالما أخر من الصيغ و الرموز قد تبتعد من مشاغل الحياة ، لأن الحكاية في النهاية تفكير إنساني وهي ليست عمل فرد بذاته ، بل من صنع الجماعة الإنسانية ، وهي مجهولة المؤلف ، وإذا كان هناك فرد ألف الحكاية الشفهية فإن هناك مجموعة من الرواة يروونها ، فتنتشر داخل الجماعة وتتأثر بها لتعكس تفاعلاتها .
والعالم النفسي يظهر بصورة واضحة في عملية المشافهة التي تتوسط بين الراوي والمتلقي ، فإذا استمعت اليوم لحكاية شفهية من أحد الرواة ، فإنك تسمعها غدا من راوي آخر بطريقة مختلفة جدا ، لأن ظروف الحكي تتغير بحسب الوضعية النفسية وبحسب الشروط الموضوعية داخل المجتمع .
والحياة الإنسانية في تطوراتها تلعب دورا مهما في استمرارها بحيث يضاف أو يحذف أو يختصر منها تبعا لظروف بيئية واجتماعية ، و الحكاية رغم أنها تغوص في العالم النفسي إلا أنها تصوير للحياة الواقعية بأسلوب ولو غاص في البعد العجائبي فإنه يظل واقعي لأنها تحكي عن خصائص الجماعة الاجتماعية والعقائدية و التاريخية والعرقية ، هكذا قد تعنى الحكاية بأحداث وتقاليد وعادات أشخاص معينين في فترة معينة وفي مكان محدود، أن تتكلم عن علاقات اجتماعية قائمة بين عالمين متمايزين ؛ عالم الإنسان و عالم الحيوان من جهة ، وعالم الجان والعجائب من جهة ثانية ، وقد نجد في الحكاية الشفهية نقدا لاذعا أو سخرية أو فكاهة صارخة ، كما قد نجد فيها إثارة أو إقناع بحقيقة الواقع الذي تتحاشاه النفوس بتعبير "نبيلة إبراهيم" .
" فالأدب الصادق هو الذي يخرج من الروح الشاعرة في صورة كلمات ، فهو ينبع من واقع طبيعي ومن المشاعر الفطرية التي تعيش داخل الإنسان "، وللبواعث النفسية أهميتها الخاصة في العمل الحكائي ، بحيث ما هو نفسي يؤسس لعملية منهجية تستقري المكتوب لتوصيفه وادراجه كمعطى طبيعي في المجتمع ، ولعل المنهج النفسي يوضح لنا شبكة العلاقات التي تحاك داخل المحيط الاجتماعي في ضوء علاقة الفرد مع نفسه أو مع بيئته أو حتى مع مجتمعه ويمكن للمبدع في نفس الآن أن يتحرك فيه الباعث ومن ثم تستجيب له النفس المبدعة ، ويشكل الباعث النفسي باعثا حقيقيا ومهما في رسم صورتها الفنية ، فمن نفس المبدع إلى نفس الجمهور رحلة يشكل فيها الواقع النفسي بحق أرضية مشتركة لقراءة النص وفهمه واحتضانه والاستفادة منه .
والحكاية الشفهية بأنواعها المختلفة تسهم وبشكل كبير في تكوين شخصية الطفل ، من حيث نموه العقلي والنفسي واللغوي والاجتماعي ، فتطور قدراته الفكرية والمكتسبة وتثري حياته بمختلف الألوان المعرفية وتصقل مواهبه وتهذب ذوقه وتطلق العنان لمخيلته ، والنفس البشرية تنطوي على ذخيرة هامة من قوة الإبداع تدفعه إلى المساءلة والمحاورة الذاتية ليصل في جهده ذاك إلى مواطن التقاطع مع العالم الخارجي ، والمبدع الشعبي أحرص الناس على هذه العملية إذ هي التي تطلق فنه إلى أفاق الانتشار ، وإذا ما خالق هذا المبدع سيكولوجية الجماعة انقطع عن المجتمع المرجع .
والعالم الداخلي النفسي لا يمكن أن يؤثر في مجرى الحكاية بدون استحضار منطق التفاعل Interaction الذي هو عبارة عن سلسلة متبادلة ومستمرة من الاتصالات تكون بين فرد وآخر أو بين فرد وجماعة أو جماعة مع جماعة ، وهذه تشكل بالنسبة لنا على الأقل دافعة أساسية لوصول الخطاب إلى المتلقي ، بالإضافة إلى ذلك ، إذا حاولنا أن نطبق توصيف النظرية التفاعلية الرمزية كنظرية نجد أن منطق التفاعل يتطلب المرونة Flexibilité ويقصد بها استطاعت الفرد أن يتصرف في مجموعة ظروف بطريقة واحدة في وقت واحد ، كما نجد الرموز Symbole وهي مجموعة من الإشارات المصطنعة لتسهيل عملية التواصل ، وهي التي تشمل عند جورج هربرت ميد اللغة ثم الوعي الذاتي وهو مقدرة الإنسان على تقمص الدور ، فكيف لا تشكل ركائز النظرية التفاعلية ( المرونة ، الرموز والصيغ ، اللغة ، الوعي الذاتي ) لب عملية الحكي التي تحدث في وسط اجتماعي بين الراوي و المتلقي ، فقبل أن تبدأ الحكاية لابد للمبدع أن يستحضر التقاطعات الداخلية و الخارجية للمتلقين فيمرر حكايته بطريقة مرنة بل في خضم ذلك يدخل ترسانة من الرموز للتعبير عن الوقائع ، ليجعل المتلقي يشعر بالوعي الذاتي ، لأنه يصبح - المتلقي - نفسه داخل الحكاية .

3)- الحكاية الشفهية وعالم الكلمة:
يقال بأن الواقع الإجتماعي هو الذي يحدد تيمات الحكي ، بل بأن البيئة التي تنشأ فيها حكاية ما هي التي تمنح لها طابعها المميز ، والحال أن الحياة الواقعية نفسها ، تخلق وجها جديدة ملوناً رغما عن ذلك ، تحل محل الشخصيات الخيالية ، فالحكاية تتأثر بالواقع التاريخي المعاصر كما بالشعر الملحمي عند الشعوب المجاورة وبالأدب والدين والمعتقدات الشعبية المحلية ، كما تحتفظ بعادات العصور القديمة وطقوسها ، إنها تتحول شيئا فشيئا ، وهذه التحولات تخضع - هي الأخرى - لقوانين ، ومجمل هذه العمليات يخلق تنوعا في الأشكال ، يصبح معه التمييز أمر بالغ الصعوبة كما يحيلنا فلادمير بروب في رائعتهِ مورفولوجيا الحكاية .
وما يضمن للحكاية الشفهية انتشارها هو طابعها القولي الذي يتلون في كلمات متعددة ، قد تصل إلى لغات أخرى ، لذلك نجد أن بعض الحكايات الشفهية رغم أنها تحتفظ بوقائع معينة ، إلا أن هذه الوقائع تخضع شيئا فشيئا لعملية التغيير - ليس كليا - ولكن على الأقل جزئيا ، ولنضرب مثالا على ذلك ، وربما كان من الأجمل أن نذكر " ألف ليلة وليلة " باعتبارها أنموذج فعلي للعرب وغيرهم ، ولو لم تكن لهذه الحكاية قوة الكلمة المعبرة لما عرفت من قبل ، ونحن نعي الجدل القائم بين المجتمعات حول أصولها ، والحق أنها خليط من بيئات مختلفة انتقلت شيئا فشئيا ، فهذا الخليط لا يسعنا من خلاله إلا أن نقول بأن ألف ليلة وليلة هي حكايات متعددة الحكايات ، ولغتها الكلامية القوية منحتها عالما من الرؤى المختلفة ، مما جعلها وعاء يتسع لكل المجتمعات ، وهذا هو بيت القصد ، فالكلمات التي تبني الفن الحكائي الشفهي هي في الأصل خزان للأمل والألم معا ، والذي يعتبر الكلمة الشفاهية ( العامية ) مجرد مكبوتات دونية فإنه بهذا يسمو عن الجماعة التي تصير خزان هذه الكلمات ، بل حاوية لثقافتها المتمردة على الواقع وعلى اللاممكن ، وبالتالي ترسم الكلمة المتمردة عالم وحياة بديلة وممكنة وموازية تصنع الشعور الكامل بين الفرد والجماعة وبين الجماعة والفرد في شكل متناغم يعبر عن المكنون .
واللغة تقدم خدمة مهمة للتواصل كما صرح عن ذلك اللساني البارع "ديسوسير"، وبها يستطيع المبدع أن يتفنن في صياغة المتن الحكائي ، بالإضافة إلى أنها تعطي للمنطوق جمالية خاصة تعبر عن المجتمع التي تنهل منه ، فكلمات اللغة العامية تعيش في واقع الشعوب والجماعات ، تتحرك فنيا في مختلف النصوص المبنية بها و تتخذ لنفسها سياقات متى علمت علم فاعلها وتحددت قيمتها ، و الكلمة التي تبني صرح العمل الفني في صوره المنتهية الكاملة هي الوسيط الأمين بين المبدع والنص ، فالمفرد اللغوي هو صاحب القيمة لأنه يعبر عن طبيعة المعجم اللغوي للحكاية وعن طبيعة التكوينات النفسية البشرية ، بل أن الاختيار من داخل المعجم اللغوي منبئ آخر عن طبيعة علاقة النص بالكاتب
ويمكن أن نقول بأن مجتمع الكلمة ( عالمها ) هو في حقيقة الأمر واقع لهجي وسياقها الظرفي التي تخضع له حين الإبداع ؛ لذلك فالحكاية بفعل بنيتها الشفهية تعمق المنطق اللغوي العامي الذي يميزها ، بل أن الشفاهية تمتاز في الحكاية بألوان مختلفة ، لذلك فإن نصها التداولي المصاغ غالبا ما يتأثر بالأعراف الاجتماعية والعوامل النفسية ، وبالتالي سوف نجد أن الكلمة كعالم في الحكاية بفعل قوتها المفروض كأداة للاتصال تعتبر مثيرا طبيعيا لحدوث استجابة طبيعية كما يحثنا على ذلك رانيلا ، بين الكلمة المنطوقة (الحكاية) والمتلقي (المجتمع و الأفراد) يوجد المبدع (الراوي) وهو في هذه العملية بمثابة قناة للتفاعل بين الكلمة و المتلقي ، وهذا يشكل لب نظرية التواصل الإجتماعي . فالواقع اللغوي اللهجي في هذا الإطار هو الذي يضمن إلى جانب كل ما قلناه، للحكاية الشفهية خاصية الانتشار و الاستمرار .
واللغة حسب بعض اللسانيين ليست وسيلة فحسب ، بل هي أيضا جهاز توليد جميع الجمل الصحيحة ، ومعنى هذا أن اللغة يمكن أن نستخدمها لرواية الحكاية في نفس الوقت التي تسمح لنا بتوليد أشياء أخرى في شكل كلمات وجمل ؛ إن اللغة حسب هذا المعنى وسيلة ودافع ، وسيلة لأنها تمنحنا القدرة على التعبير ، ودافع من حيث أنها مولدة لأفكار أخرى جديدة يستحضرها الراوي في نفس الوقت لكي يعبر عن وضعياته ووقائع مجتمعه .

خلاصة:
ومن خلال كل ما قيل - عن الحكاية الشفھية - فإنھا في النھاية لا يمكن أن تنتج إلا بشروط معينة ، تمنحھا طابعھا المميز والتي من خلالھا تستمر و تنتشر وتضمن لنفسھا أفق التجلي و التمرد ، لذلك خلاصنا إلى :
- أن الحكاية الشفھية ترتبط في مجملھا بالعالم الواقعي المجتمعي، لأن المجتمع في الأخير يشكل مرجعا أساسيا لھا، فھو الملھم والموضوع في نفس الآن.
- أن الحكاية الشفھية لا ترتبط ببيئة خاصة، بل تبقى ملك للمجتمعات التي تمر منھا، ولو حملت خصائصھا، فلا يمكن أن ندعي أن لھا بيئة خاصة.
- أن الحكاية الشفھية تتأثر كثيرا بالذات المبدعة وبالمنطق النفسي وخصوصا في عملية الحكي ، ويلعب العالم الخارجي المجتمعي الدور الرئيس في ذلك .
- أن الحكاية الشفھية لا يمكن أن تحضر بقوة إلا في إطارھا اللھجي - اللغة والكلمات- لأن عالم الكلمة يعطيھا الوجود.

المراجع والمصادرالمعتمدة:

- الكتب :
.1- رولان بارت " النقد البنيوي للحكاية " ، ترجمة أنطوان أبوزيد ، منشورات عويدات ، الطبعة الأولى 1988م ، بيروت.
.2- نبيلة إبراھيم " أشكال التعبير في الأدب الشعبي " دار نھضة مصر للطباعة و النشر ، د.ت .القاھرة.
.3- د.كنعانة شريف " الدار دار أبونا " ، مركز القدس العالمي للدراسات الفلسطينية ، الطبعة الأولى ، 1992، القدس.
.4- الخليلي على " البطل الفلسطيني في الحكاية الشعبية " ، مؤسسة إبن رشد للنشر ، الطبعة الأولى ، 1979، القدس.
.5- د.البرغوتي عبد اللطيف " حكايات جان من بني زيد " منشورات جامعة بيروت ، الطبعة الأولى ، 1979، لبنان.
.6- جيرار جينيت " خطاب الحكاية : بحث في المنھج " ، ترجمة محمد معتصم وعبد الجليل الأزدي وعمر حلى ، الھيئة العامة للمطابع الأميرية ، الطبعة الثانية 1997.
.7- حلمي بدير " أثر الأدب الشعبي في الأدب الحديث "،دار الوفاء للطباعة و النشر ، الطبعة الثانية 1997.
.8- من كتاب " روائع الأدب الأفريقي "،إعداد و ترجمة د. عدنان حداد ، مراجعة محمد ظاھر ، دار البيروني للطباعة و النشر ، الطبعة الأولى ،بيروث
.9- عبد الحميد يونس " الحكاية الشعبية " ، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر ، طبعة 1968.
.10حسن عبد الحميد أحمد رشوان " الفلكلور والفنون الشعبية من منظور
علم الاجتماع " ، المكتب الجامعي الحديث ، الطبعة الأولى 1993
.11- حامد زھران " علم النفس الاجتماعي " علم الكتب ، الطبعة الرابعة، 1977، القاھرة.
.12- فلادمير بروب " مورفولوجيا الحكاية " ، ترجمة عبد الكريم حسن وسمير بن عمو ، شراع للدراسات والنشر والتوزيع ، الطبعة الأولى ، دمشق، 1996م.
.13- حلمي خليل " دراسات في اللسانيات التطبيقية " ، دار المعرفة الجامعة ، الطبعة الأولى 1420ه/ 2000م ، الإسكندرية.
.14- بيير زيما " النقد الإجتماعي : نحو علم اجتماع للنص الأدبي " ، ترجمة عايدة لطفي ، مراجعة د.أمينة رشيد و د.سيد البحراوي ، دار الفكر للدراسات والنشر ، الطبعة الأولى ، 1991، القاھرة.
.15- سعيد يقطين " قال الراوي : البنيات الحكائية في السير الشعبية " ، المركز الثقافي العربي ، الطبعة الأولى ، 1997الدار البيضاء - المغرب.
.16- الدكتور عمر الطالب ، "آثر البيئة في الحكاية الشعبية العراقية " ، منشورات دار الجاحظ للنشر ، بغداد ، الطبعة الثانية .1981.

- المجلات و الدوريات و الرسائل :
.1- روزلين ليلى قريش " القصة الشعبية الجزائرية ذات الأصل العربي " ، ديوان المطبوعات الجامعية ، طبعة 1980.
.2- مبروك دريدي " القصة الشعبية في منطقة سطيف : التشكيل الفني والوظيفي جمع ودراسة ، رسالة ماجستير في الأدب العربي ، - 2003 ، 2004، جامعة منتوري ، الجزائر.
.3- مجموعة من المؤلفين " الأدب الشعبي المغربي " ، منشورات جمعية موظفي كلية الآداب و العلوم الإنسانية ، العدد الأول سنة ، 1989، الرباط.
.4- أ.ل. رانيلا " الماضي المشترك بين العرب والغرب : أصول الأدب الشعبية الغربية " ، ترجمة د.نبيلة إبراھيم ، مراجعة د.فاطمة موسى ، سلسلة عالم المعرفة ، العدد ، 241رمضان 1419ه يناير / كانون الثاني 1999م.

- المراجع الأجنبية :
Jean Michel Adam « le récit » édition actualisée -;- puf -;- 6em édition novembre 1999 -;- paris








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حماس وإسرائيل.. محادثات الفرصة الأخيرة | #غرفة_الأخبار


.. -نيويورك تايمز-: بايدن قد ينظر في تقييد بعض مبيعات الأسلحة ل




.. الاجتماع التشاوري العربي في الرياض يطالب بوقف فوري لإطلاق ال


.. منظومة -باتريوت- الأميركية.. لماذا كل هذا الإلحاح الأوكراني




.. ?وفد أمني عراقي يبدأ التحقيقات لكشف ملابسات الهجوم على حقل -