الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في عقوق الوالدين : قلب الأم

محمد البورقادي

2015 / 11 / 3
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


جلست بجانبها لأستريح قليلا من تعب المشي ومن أرق القيظ.. اقتربت منها ..ولا أعرف لماذا اقتربت منها .. فقط حدث ذلك بدون مسببات ..
رأيتها جالسة مطأطأة رأسها ..رأيتها في لباس وضيع ..وفي هندام متواضع ..إنها امرأة في عقدها السادس تبيع السكاكر والحلويات في طبق صغير ..
فأشفقت عليها واشتريت منها علبة كنينكس..شيء ما جذبني إليها لا أستطيع وصفه ..إن عقلي قاصر عن إدراك ذلك ..
لم أجد حرجا ولا تكلفا في بدأ الحديث معها ..فقد كانت بسيطة جدا وممن ترتاح نفسك لمحادتثها..قلت لها إن البيضاء مزدحمة والناس هنا مشغولون بمآربهم قد آثروا حب الفتنة على الراحة ..وقد استحبوا المكالبة على الهدوء والتريت والتعقل..
قالت لي ..لا أأبه لذلك ولا يهمني ذلك في شيء..أنا أجلس هنا منذ سنين طويلة والكل يعرفني ..وأنا وحيدة قد تركني ولداي وذهبا إلى أمريكا ..أسأل الله أن يهديهما وأن يسعدهما في الدنيا والآخرة ..وزوجي قد توفي قبل عشر سنوات بمرض لم ينفع معه علاج ..ومنذ ذلك الحين وأنا هنا أبيع وأصرف على نفسي مما أبيع ..
قالت لي .. الدنيا جميلة وخاصها هي شوية ديال الصبر أويلدي ..أيامنا الباقية ستنقضي والله يدوز كلشي على خير وبيخير..
قلت لها ، إنها لجريمة في حقك ونكران لجميلك أن يتركك أبنائك بعدما شباّ واشتد عودهما ..قالت لي في سماحة جلية وفي ابتسامة لو وزعت على الدنيا لأخرجت ما فيها من غل وحقد..: هاذيك حياتهم يديرو فيها الليبغاو..أهم حاجة يكونو فرحانين ومرتاحين وعايشين بيخير ..لم أشق بتربيتهم لكي يجازوني بذلك حينما أبلغ ما بلغت الآن..ولا أريد البتة أن أكلفهم عنائي وأن أحرمهم من بعض وقتهم ومالهم ..وإنما فعلت ذلك لأنهم أبنائي وأحبائي وكنت أستمتع بملاعبتهم وهم صغار وبتغيير ملابسهم كذلك ..كنت أستلذ بإرضاعهم..كنت أبكي خلسة حينما أنهر أحدهم لأنه أمسك سكينا ..وكان قلبي يذرف دما إذا خرجا معي وغفل عني أحدهما ووقع على الأرض جارحا نفسه ..كنت أفرح كثيرا حين ما أشتري لهم ما يحبون ..وكنت أضحك ملئ قلبي حينما أرى البسمة على وجوههم ..وكنت أسر كثيرا عند سماع كلمة ماما .. كنت أعشق أن أطعمهم من يدي وأن يلامس لعابهم أطراف أصابعي ..كنت أحب أن أمسح لهم بقايا الطعام بيدي عوض الفوطة أو المنديل لأنه أكثر خشونة..كنت أأكل مما يتركون حينما يشبعون وأحس بأن الطعام مبارك ولذيذ..
كنت أوفر من مصروف البيت لأشتري لهم الألعاب التي يحبونها..وألوم نفسي وأنذبها إن تعلق أحدهما بشيء قد رآه عند الجيران ولم أستطع شراءه ..
هي تحادثني وأنا أنظر في عيناها وقد غلبتهما حدة الشوق فتلألآ كأنهما جواهر ثمينة ..وتقطرت منهما دمعة كأنها تخرج صافية مركزة من كل الجوارح والأركان..دمعة تلخص مسيرة حبها لأبنائها وعشقها لهما ...عشق لا يخبو مع الأيام ..ولا تعكره التغيرات ولا تشوهه الأحوال ..لا تبدله الأزمان ولا ينقص منه البعد ولا الخذلان ..إنه الحب من أجل الحب والعطاء فقط ..الحب من أجل الرحمة والتسامح والطيبة والكرم والإيثار ..إنه حب أم لأبنائها ..لا مصلحة من وراءه ولا شهوة ..لا مطمع يرجى منه ولا جزاء..
قالت لي ..كنت أفعل ذلك لأني أحبه فقط ولم يخطر ببالي يوما أن أجازى عليه أو أكافئ من أجله ..كنت أفعله لأن قلبي يأمرني به ، ونفسي لا ترتاح إلا له وبه ..كنت أراقب أسنانهم وهم يخلقون الواحدة تلو الأخرى ..وكنت أتفحص حفاضاتهم في كل وقت وحين كي لا أغفل عنهم لحظة واحدة وهم في أمس الحاجة لي..وكنت أتحسس جلدهم الناعم وأنا أنظر إليهم وهم في سن العاشرة ، ويقولون لي ما بال عينيك يا أمي نراها غائرة متلألئة ..إنهما تنطقان بالحب المكتوم وبالوجد العميق لكما ..إنهما شاهدتان على الإخلاص والوفاء ..إنهما مرآة القلب التي لو أخلصتم النظر إليها حين نظرتموها أي الأبناء لأحسستم بلوعتي ..ولما آثرتم فراقي.. ولما فضلتم نسائكم الأجنبيات على أمكم الغالية ..ولأيقضكم ضميركم وأوقفتكم بصيرتكم ولعاتبتكم نفسكم حين قررتم الإنسحاب وفضلتم الفرار على القرار ..والنسيان على المعرفة ..والجحود على الإعتراف..
وأنا جالس بجانبها أنظرها وأسمع نجواها ..أحسست بضنك غريب ..وفجع مقنط ..وهم كئيب ..إنها تروي قصة لا كالقصة ..وتحس بإحساس لا كالاحساس ..وتشعر بشيء في داخلها تعجز الحروف عن البوح به والكلام أن يفصح عنه ..ذلك أنه فوق ذلك كله ..متعال عليه ..
ومسحت عيناها بطرف ثوبها وقالت لي اسمحلي أوليدي برزطتك معايا ماديش عليا ..وأنا أعلم أنها ماتكلمت بمحض إرادتها ..ولكن تكالبت جوارحها وتضافرت حواسها للإفصاح عما تحويه بداخلها ..فقد أرهقها ثقل الحمل ووجع المكابدة ..وأضنتها صبابة العشق وغلبتها مرارة الإحساس..
ونحن جالسان وإذا بقط يتجه نحونا ..خلته يبحث عن شيء ما قد أضاعه عندنا ..وإذا به يقف بجانب السيدة يتحسس قدماها في تذلل وتغنج ..وهي تربث عليه بدورها في سماحة وودّ.. وقالت له .. شفتكك تعطلتي ليوم فين كنتي ..وسحبَت قطعة جبن مصنّع من جيبها وأعطته إياها ..وأنا ألحض كل ذلك وقلبي مخطوف تائه ساه ..قد تجاذبته الأفكار وطغت عليه الخواطر..وأحاطت به متناقطات الحياة وأسرارها فخالطت بديهياته وشوشت على مسلماته ..لكن سرعان ما تيقط الضمير على نور الفطرة السليمة وتبَصّر القلب بشفافية الروح ..
إن روح العطاء والكرم والإيثار لا تنفذ ..وماعوّدت عليه نفسها صار عندها عادة ..فاستحبه القلب وارتضاه العقل ليكون سبيلا ..
فتراها تكرم القط بالجبن ، وتطعم الحمام بالذرة ..وتراها لا تمد يدها للغير أعطاها أم منعها ..ولا تستعطف المارّين بحالها ..ولا تراها أبدا تقف أمام المحلات بشارع البرانس ليترأفو بحالها وهي المرأة العجوز البائسة الفقيرة ..صحتها هالكة ..ورزقها ضعيف ..وهي لا تأمل في رغد العيش وفي زبدة الدنيا ..فذلك بعيد عن مخيلها وعن تفكيرها بعد المشرق عن المغرب ..هي لا تريد إلا الكفاف والعفاف والصدق والإخلاص والإبتعاد عن الطمع والجشع والزهد في ما عند الناس والدعاء لهم بالهداية والفلاح..
إنها امرأة بسيطة متواضعة ..ولكن سعيدة وراضية بحالها ..لا تحس أنها تتكلف القول لتمازحك ..أو تجاملك بما ليس فيك ..أو تتصنع قصة الغنية التي تحب الجلوس في الطرقات لأن فيها مرض أو جنون لذلك ..
الكلام سلس ومسترسل ..ليس فيه عقدٌ ولا كذب ولا نفاق ..يخرج من الفم كالماء يخرج من فيّ السقاء..هنا الصفاء ..هنا السر .. هنا الروح ..هنا لب الألباب ..هنا الحياة الحقيقة ..هنا السعادة ..هنا الرضا التام التام..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مقتل حسن نصر الله.. هل تخلت إيران عن حزب الله؟


.. دوي انفجار بعد سقوط صاروخ على نهاريا في الجليل الغربي




.. تصاعد الدخان بعد الغارة الإسرائيلية الجديدة على الضاحية الجن


.. اعتراض مسيرة أطلقت من جنوب لبنان فوق سماء مستوطنة نهاريا




.. مقابلة خاصة مع رئيس التيار الشيعي الحر الشيخ محمد الحاج حسن