الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قلب الأدوار ..

محمد البورقادي

2015 / 11 / 6
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


عالم للخيال..انتصر فيه الخيال على الواقع ..والخواطر على الأفعال.. وزادت نفقات الحرية على العواطف وعلى النزوات وعلى الأهواء..وزاد الهروب من ألم الواقع ومن غياهب الحقيقة إلى عوالم اللامحسوس واللامرئي واللاواقعي ..هل أصبح الواقع مرا مريرا لا يكاد يطاق ليحابا عالم الخيال عليه ؟ أم أن تسارع المعرفة طغى على أنماط الحياة المعهودة وأساليب التواصل المألوفة ؟ أم أننا تحررنا كثيرا لدرجة الغياب وسكرنا كثيرا لدرجة الثمالة وخملنا كثيرا لدرجة البلادة !!!
لو قام إنسان من قبره كان قد عاش في العصر الحجري أو الزراعي وشاهد ما نلهو به الآن ..ورآى ما جاد به العلم والتقنية علينا لأغمي عليه من فرط الذهول ..ولأصابه البهت والهديان من غرابة المنظر ..ولصار كالأبله في وسط الزحام ..ولخيّل إليه في لحضة وجيزة أنما أدخل الجنة وسكر من وادها ..الطائرات تجوب عرض السماء..والبواخر تسبح في أعالي البحار ..والقطارات الخاطفة تمر من أمامه مرور السحاب ..والسيارات تقطع المسافات في لمح البصر ..والمذياع يتكلم والتلفاز يتحرك ..ولو رآى أحدهم يهاتف آخر ويسمع صوته ويرى وجهه لأغشي عليه مرة أخرى !! ولو سمع بالقنابل النيوترونية التي تشطر الأرض نصفين لما استفاق أبدا ..
إنه جالس الآن في غرفة الجلوس عند أناسي يحسبهم من عالم آخر لم يألف عليهم نظره ولم يخيل إليه قط أن الصدفة ستأتي به إلى هناك ليشهد ما وصل إليه بنو جنسه ..فهو كالعاقل الذي يرى المجانين ..وله عذره ..الفراش وثير والأريكة ناعمة وهو لم يشعر بذلك وهو جالس عليه ..فخياله شارذ في اللمبة التي تلمع أمامه ..وفي مكيف الجو الذي يبرده ..وسمعه مطنون بصراخ المارة وضجيج المركبات ..وبصره محلق في التلفاز ..هذا الصندوق العجيب الذي يأتيه بالعالم راكعا له..
إنه ساكت صامت تتقطع الحروف على شفتيه لا يجد لوصف ما يشاهد حيلة ولا سبيلا ..وكيف يتكلم وهو لا يجيد الكلام من الأصل ..ولا يعرف له طريقا ..هو يحرك شدقيه تلعثما ..إنه كالميت وقت احتضاره ..عيناه شاخصتان وحركته ساكنة راقدة ليس لها عقل يأمرها ولا قلب يوقضها ولا روح يستشف بها ..الكل سارح وهائم ومشغول في فك الشفرات ..وحل الألغاز ..وفك الطلاسم..
إن عقله مشدوه لأنه عاجز عن إدراك الغيب ..وقلبه متوتر لأنه خائف من وهج الضوء ومن تكلّم التلفاز ومن سرعة المركبة ..إنهم وحوش بالنسبة إليه ..اللامعقول ..المستحيل تخيله.. فكيف برؤيته ومعاينته ..
إن عقله عاجز عن فهم ذلك واستصاغته ..لأنه لم يتطور مع الزمن ..ولم تتسلسل بديهياته لتقوده إلى الفهم ..فهو لم ينتقل من مرحلة إلى أخرى ..ولم يصعد من درج أدنى إلى آخر أعلى ولم يذهب رويدا رويدا ..بل قذف به من حيث لا يدري وإلى حيث لا يدري ..لم يعش مرحلة انتقالية تخفف وطأ الذهول والإستغراب ..ولم يصعد الطابق تلو الطابق إلى أن يصل السطح ..
وهذا ما جعلنا نستصيغ ونتقبل هذا العالم من حولنا ..وهذا ما جعلنا نفك شفراته ونفهم لغته ونتعايش معه وبه ..وهو تراتب الأحداث وتطور السلسلات وتدرج البديهيات ..
ولو قدر لنا أن نتبادل الأدوار مع ذلك الذي عايش العصر الحجري لفهمنا طبعه ولقدرنا بهته ..ولو أُعيد بنا الزمان وأُدخلنا عصره لأخذنا البهت والشخوص والبلادة ولتوقفت حواسنا من وهج الواقع الجديد ولتشوش هوائي عقولنا من بُعد الطريق ..ولصرنا كالأفعى التي قطعت رأسها وكالصرصور المرشوش بالمبيد ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كينيا: قتلى وجرحى إثر تفريق الشرطة مظاهرات مناهضة للحكومة في


.. احتجاج أمام شركة -سيمنز- الألمانية رفضا لتعاونها مع إسرائيل




.. تأثير الذكاء الاصطناعي في الحروب


.. السياسي العراقي فائق الشيخ علي يوجه رسالة لحسن نصر الله: -كي




.. الإفراج عن عشرات أسرى الحرب الروس بعد تبادل للأسرى مع أوكران