الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


انطباعات عن ثورة التحرير العراقية

محمد لفته محل

2015 / 11 / 11
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


ما حدث في بتاريخ 2015.8.21، بالعراق ليس مجرد مظاهرات كبيرة العدد تطالب بالخدمات والإصلاح السياسي، إنما حركة اجتماعية أصيلة متولدة عن تغير في الوعي الاجتماعي، فأول ما يلفت في هذه الحركة الاجتماعية هو شعبيتها الطاغية من الشباب الغير متحزب وغير المنضوي في المجتمع المدني، فحيثما تكون تسمع شباب يتحدث بالانتفاضة ووجوب الذهاب إليها، حيث الصديق يبلغ الصديق بالذهاب سواء في الشارع أو الوظيفة أو الباص أو المقهى وهذا دليل على أنها انتفاضة اجتماعية بدون تسييس أو احتكار النخبة الحزبية أو المثقفة لها التي لطالما كانت متعالية على الجماهير مبتعدة عنها، لتكون النتيجة بالعكس إن الجماهير هي من بدأت والنخبة هي من تبعتها. هذه الانتفاضة رد لكل الذين اتهموا الشعب العراقي بالجهل والجبن والخوف، أنها صفعة بوجوه جميع الذين اتهموه وتجنوا عليه، لقد قال الشعب لليائسين والمهزومين: أمامكم فرصة أما أن تشاركوا أو تخرسوا. الرؤؤس المحتشدة بالآلف وتعاون القوى الأمنية مع المتظاهرين والقبعات ذات الشعارات (كلا للفساد) (لبيك يعراق) والأعلام العراقية التي توزع مجانا، وقناني الماء والحلوى والمثلجات التي تباع وسط المتظاهرين كلها قرائن على وحدة هذا الشعب الاجتماعية ووعيه الناهض من التخلف والرجعية والانحطاط الذي شوهته الطائفية السياسية والاستبداد.
هذه الانتفاضة كانت مفاجئة لجميع السياسيين وكانت ردة فعلهم المرتبكة واضحة عليهم، فقد التزموا الصمت من الدهشة ثم التأييد بدافع الخوف والادعاء بأن الإصلاح كان من همومهم الأولى! لأنهم لم يكونوا منشغلين بالناس ومطالبهم ولم يكونوا يتذكروهم إلا وقت الانتخابات حيث تكون الرشاوى بديلا عن البرنامج الانتخابي والجدية بالإصلاح، وما أن استوعبوا الحدث حتى بدأت تحضيرات الدفاع أو الهجوم. وبقي الطائفيون والفاسدون هم الشاذين وحدهم الذين يصفون الانتفاضة بال(طائفية) أو (علمانية) أو (مؤامرة)، وهذه الاتهامات مفهومة لان الانتفاضة تضرب مصالحهم. وبعض السياسيين يحاول ركوب الانتفاضة فدسوا بين المتظاهرين يرفعون شعارات طائفية وحزبية غير صريحة.
عندما كنت بالطريق للمظاهرة كنت نويت أن لا أشارك فيها لاتخذ موقف المراقب لأكتب عنها، وما أن وصلت ودخلت بين المتظاهرين حتى وجدتني غصبا عني أشاركهم التصفيق والهتاف، وأولى العبارات التي راودت ذهني (هل أنا في حلم في واقع، أم واقع في حلم) أعطاني المشهد دفعة تفائل قوية، رغم أني كنت متفائلا بالإصلاح من دون أن أتخيل أن أراه بهذا القرب، وكنت أراهن على المجتمع المدني فإذا بالجماهير تقلب الطاولة وهي من تعلن المدنية. لم أكن اردد الهتافات المستوردة من الانتفاضة المصرية، واردد الهتافات العراقية فقط، وأتمنى من الشباب تغيير اسم الانتفاضة إلى انتفاضة التحرير، لان الانتفاضات العراقية السابقة سميت باسم المناطق وليس باسم اليوم مثل انتفاضة الوثبة.
الملهم لهذه الانتفاضة ليس الانتفاضات العربية فقط كما يتصور كثيرون، إنما لها مثال آخر هو انتفاضة الكهرباء ضد وزير الكهرباء (كريم وحيد) التي انتهت باستقالته، وقد وجدت بعض ملامح الطقوس الشيعية في هذه المظاهرات كارتداء الإعلام على الكتف، والسير في مجاميع تردد هتافات خلف شخص يتقدمهم، واستخدام الطبل في ضبط ترداد الهتاف، هذه العناصر وراء انتفاضة التحرير العراقية، انتفاضة الكهرباء، انتفاضة تونس ومصر.
خرجت من المظاهرات وأنا في قمة الفرح والنشوة والتفاؤل بمستقبل العراق، وأرى من الواجب الوطني التفاؤل، وخرجت بانطبات كثيرة مزدحمة حاولت طول طريق العودة سيرا (لان الطرق كانت مغلقة من الحشود القادمة) أن لا أنسى واحدا منها، وأهم هذه الانطباعات، أن هذا اليوم لن أنساه ولن يمحى من ذاكرتي إلى أن أموت. وان هذا اليوم سيكون بالتاريخ كثورة العشرين وانتفاضة الوثبة نتفاخر بأننا كنا مشاركين به للأجيال القادمة.
الجمعة التي بعدها
حين نزلت من الجسر صوب الساحة أمر على أجهزة التفتيش الأمنية اقرأ الشعارات المكتوبة بطريقة غير تقليدية على الملابس أو الرايات أو اللافتات، وكلما اقتربت من مركز الساحة تعالت الهتافات وشعرت بالحماس والابتهاج والانفعال، كان الشباب يرقصون فرحين وسعداء حيث الكل يبتسم ويضحك أو يصرخ مرددا بتفاعل مع الهتاف في أجواء احتفالية قل نظريها، هذه الحالة تسمى في علم النفس الاجتماعي (العدوى النفسية) عندما يصبح الجمع كتلة نفسية واحدة متراصة.
إن مظاهرات التحرير خلخلت عقدتين في وعينا الاجتماعي عقدة الرمز التاريخية الموروثة التي استثمرها المالكي من الميراث الصدامي، وحاول الصعود عبرها لتنصيب نفسه رمزا تاريخيا طائفيا "كمختار للعصر"، فشتمه بالشعارات أو رفع صورته بعلامة الرفض الحمراء (الاكس) أو قذفها بالنعالات أو شنقها، فقد زعزعت المظاهرات عقدة الرمز في وعينا ونقد الرموز السياسية والدينية وقبول فكرة ان الحاكم خادم، موظف من قبل الشعب وليس من قبل الرب، بحيث تم تهديد العبادي بالتظاهر ضده وسحب التفويض منه إن لم ينفذ الإصلاحات. أن انهيار الرمز نمى في نفس الوقت الوعي المعارض حيث بدأ اغلب الشباب يتحدث ليس عن فساد الحكومة فقط بل حالات وظواهر بالشارع ما يعني ضمنا تحمل المواطن مسؤوليته الوطنية تجاه بلده. إذ خلخلت مبدأ (إغلاق الباب) بوجه الريح لكي نستريح، فاستبدلت مبدأ (آني شعلية، أو مالي علاقة) بمبدأ (لازم نغير) أو (كافي عاد). وتحول خطاب الشباب من خطاب (ماكو فايده، هي خربانه، ما يصير شي،) الى (بعد مانسكت). وفي أثناء عودتي بالباص الذي خصص لنقل المتظاهرين كان الشباب يتبادلون الحديث عن المظاهرات ويتواعدون على الحضور في الجمعة القادمة ويسألون مازحين كل راكب جديد: هل كنت بالمظاهرات؟ وحين يرد بالسلب يردون عليه: كنا من أجلك نتظاهر وأنت هنا جالس، وحين شتم احد الركاب العراق، التفت إليه الشباب مستنكرين باستغراب! وهذه حادثة لم تكن تحدث نهائيا قبل المظاهرات حيث كان شتم العراق أمر عادي يتبادله الأصدقاء والهواتف.
في ساحة التحرير كانت كلمة مدنية هي الكلمة الأكثر ترددا، وبصراحة فإني لم افهم هذه الكلمة إلا كونها نقيض للدولة العسكرية، أما بذاتها فإني اجهلها، إذ لطالما قدمت في الكتب على إنها رديف الحضارة والثقافة، وهناك انطباع قوي كان يساورني إن كلمة (مدنية) هي حيلة اتخذها العلمانيين لتغيير عنوانهم المرفوض اجتماعيا، فكان هذا العنوان مقبول اجتماعيا، فما هي المدنية علميا؟ يقول عالم الاجتماع احسان محمد الحسن (في علم الاجتماع ليس هناك اتفاق بين العلماء حول مفهوم حضارة (culture) وحول مفهوم مدنية (civilization) فبعضهم يدعي بان مفهوم الحضارة هو مفهوم الثقافة ومفهوم المدنية هو مفهوم الحضارة. وبعضهم الآخر يقول بان الحضارة لا يمكن أن تكون الثقافة، فالحضارة (culture) هي ذلك الكل المكون من الأفعال والتراث البشري الذي ينتقل اجتماعيا من جيل لآخر. وهذا الكل هو الذي يميز الإنسان عن نظيره الحيوان ويجعله الكائن الوحيد الذي يستطيع السيطرة على موارد الأرض سيطرة فعالة بفضل ما يتصف به من صفات فيزيولوجية غريبة وما يعتقد به من قيم وأخلاق ومقاييس قوية ومؤثرة. أما مفهوم الثقافة (education) فيعني المعلومات والمؤهلات والخبر العلمية والفنية والتراثية التي يحملها أبناء المجتمع بعد دراستهم وتدريبهم واحتكاكهم بالواقع الاجتماعي. أما اصطلاح مدنية (civilization) فيعني جميع المنجزات التي تميز طابع الحياة في المدينة المنظمة أو الدولة المنظمة. أو جميع المنجزات التي تميز الإنسان عن الحيوان، أي جميع المبتكرات التي اهتدى إليها الإنسان منذ مئات الألوف من السنين هي المدينة) فإذا كانت المنجزات العمرانية والتكنولوجية هي المميزة للمدنية فإن الشعار المستخدم خطأ علمي واضح، لان بغداد تتصف بهذه الأوصاف العمرانية؟ فهل لنا الجرأة على إعلان العلمانية المصطلح الأنسب والأدق للمظاهرات؟.
بدأت أجواء من الريبة تخالج بعض العلمانيين حول بعض الشباب الذي قد يكونوا مندسين عندما بدأو بقذف قناني ماء وأحجار صوب الحرس من وسط التجمعات المدنية، فحاول البعض من العلمانيين التدخل لمنع هذا السلوك فباءت بالفشل وحاول البعض بنصح الشباب والتذكير بشعار (سلمية) والهتاف به بصوت عال ففشلت أيضا، فقررت بعض الحركات المدنية الانسحاب لتعرية المندسين، إلا أن فريقا آخر منهم رفض فكرة الإخلاء وقال من واجبنا منعهم، فانسحب بعض وبقى بعض.
هذه المظاهرة حتى لو فشلت، فإنها أسست لثقافة المسؤولية الاجتماعية لكل فرد في التعبير والتغيير عن موقفه وآراءه، وأخذت ركنا في الذاكرة الشعبية تكون ملهما في المستقبل لكل الحركات المعارضة في ظروف مماثلة.
الجمعة التي بعدها
كلما أعود من المظاهرات اخرج بعدة انطباعات، وهذه المظاهرة أعطتني انطباع واحد، هي "انها الجمعة التي حددت مصير الجمعة المقبلة" أما للنجاح أو للفشل إذا لم تتخذ خطوة جديدة، فالحضور الجماهيري القليل علامة خطر على الركود والنمطية التي ستقتل المظاهرة. أما الأسباب العلمية لتراجع حركة التحرير هناك مراحل في كل ثورة اجتماعية لاحظها علماء الاجتماع، ويقسم الباحثون الحركة الثورية في دورتها الحياتية إلى قسمين: تكون الحركة سيالة رجراجة تلقائية لا تتميز إلا بالتنظيم البسيط في مراحلها الأولى، أما الأهداف التي تبتغيها الحركة والأدوار التي يتكون منها السلوك الجمعي في هذه المرحلة فهي غير موجودة بوضوح إنما موجودة بصورة جنينية لم تتبلور كاملة. أما المرحلة الثانية من حياة الحركة الثورية فتتميز بالتنظيم الواضح في تقسيم العمل وتبلور الأهداف والوسائل والأساليب، وفي ظهور القيادة في الحركة، وفي تفرع الأدوار وتكّون أيديولوجي واضح. وهناك باحثين آخرين يقسم المراحل الثورية إلى وجود حاجة محسوسة لدى الأفراد يعبرون عنها أمام بعضهم البعض ثم التحريض والتحضيض والإثارة والدعاية فالشعور الاجتماعي بالحاجة ومن ثم التنظيم فالمرحلة المؤسسية، ويرى (داوسون وكتيز) إن الحركة تمر بأربع مراحل تبدأ بالقلق الاجتماعي والاضطراب وعدم الاستقرار، ثم تمر بمرحلة الهياج الجمعي، ثم المرحلة الشكلية وأخيرا المرحلة المؤسسية، أما (بلومر) فيضع أهمية بالغة على العوامل الفعالة في تكوين الحركة وتنميتها في مراحلها فيؤكد على دور ما يسميه "بالرجع الدائري" الذي يشتد كلما استمر التفاعل بين المشتركين في هذا السلوك الجمعي حتى يبلغ أشده في عملية العدوى الاجتماعية ومن ثم في الهياج الجمعي حيث يصبح المشتركون في هذا الجزء من الحركة كتلة واحدة تتميز بحالة شعورية نفسانية واحدة، وتصبح مهيأة للعمل المشترك الواحد، ثم يؤكد (بلومر) على عوامل أخرى في الجزء الثاني من حياة الحركة وهذه العوامل هي التهيج، ونمو روح الجماعة، ونمو الثقة بالحركة والعزم على السير في ركابها لتحقيق أهدافها، وتكون أيديولوجي خاص بها، ثم خطة عمل لتحقيق أهدافها. وهذه مراحل لم تصل إليها بعد انتفاضة التحرير فهي تعدت المرحلة الأولى الهياج والاحتجاج أما مرحلة التنظيم فلم تبلغها وبقية في منتصف الطريق بلا قياداة واضحة وهذا سبب تراجع شعبيتها وعليها ان تتعدى هذه المرحلة لتنتقل إلى المرحلة المؤسسية وتكوين المبادئ الأساسية والأهداف.
الجمعة التي بعدها
البارحة كانت الجمعة مثل سابقتها ليس فيها شيء جديد، اقصد ضلت مرحلة الاحتجاج فقط، كان هناك شيء من تسرب اليأس لدى بعض الشباب بسبب قلة المتظاهرين، وعند الرجوع بالباص جرى حوار ساخن في المقاعد الخلفية حول جدوى المظاهرات ونوايا العبادي، كانت الآراء مختلفة ما بين قائل عدم قدرت العبادي على الإصلاح لأنه ضعيف الشخصية وما بين قائل إن الإصلاح لن يتم بين ليلة وضحاها، وبين قائل أن الإصلاحات حبر على ورق، وحين أدليت برأيي بالموضوع قائلا أن العبادي لم يمس المحاصصة الطائفية الحزبية بالإصلاح اتفق معي الجميع على أن المحاصصة أس المشكلة، ثم أضفت إن هذا الحوار هو إفراز من إفرازات المظاهرات لم يكن ليجري لولاها. وتفاجئت بمدى الوعي السياسي لدى الشباب وهمومهم حول مستقبل العراق وكان حوارهم عابرا للطائفية بوضوح، وهذا مكسب آخر للمظاهرات.
الجمعة التي بعدها
هذه الجمعة كان عدد المتظاهرين أكثر من سابقتها، والحضور اغلبه من المجتمع المدني، فلقد بان مدى قوته ونموه على مدى عقد من الزمن، وكان هناك قناعة لدى اغلب المتظاهرين ان العبادي لم يكن جادا في الإصلاح وان هناك محرمات لم يمسسها هي القضاء والمحاصصة الطائفية الحزبية، وجرى التخطيط لمرحلة جديدة من التظاهر لجمع مظاهرات المحافظات في بغداد.
الجمعة التي بعدها كان العيد فعلقت المظاهرات ولم استطيع حضور التي بعدها بسبب الدوام.
الجمعة التي بعدها
كانت قليلة العدد وكان الزخم الجماهيري الأكبر عند حركة (خمسة وعشرين شباط) فقط، وكان هناك انطباع بارز لدي هو أنها ستكون الجمعة الأخيرة، خصوصا مع إقبال شهر محرم المقدس عند الشيعة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. زاخاروفا: على أوكرانيا أن تتعهد بأن تظل دولة محايدة


.. إيهاب جبارين: التصعيد الإسرائيلي على جبهة الضفة الغربية قد ي




.. ناشط كويتي يوثق خطر حياة الغزييين أمام تراكم القمامة والصرف


.. طلاب في جامعة بيرنستون في أمريكا يبدأون إضرابا عن الطعام تضا




.. إسرائيل تهدم منزلاً محاصراً في بلدة دير الغصون