الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حول مفهومي النهضة والتنوير

سعد محمد رحيم

2015 / 11 / 14
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


لابد في البدء من محاولة سريعة لإضاءة مفهومي النهضة والتنوير قبل الخوض في تشعّبات مجاليهما كما تمثّلت في رؤى وأفكار ومواقف بعض دعاتهما الكبار من المفكرين العراقيين والعرب خلال القرن ونصف القرن الأخير من تاريخنا الثقافي والسياسي العراقي والعربي. وقد يبدو الأمر للوهلة الأولى يسيراً. لكن العودة إلى أدبيات أولئك المفكرين، وأيضاً إلى الدراسات التي تناولت موضوعة النهضة والتنوير سترينا الصعوبة التي يمكن أن يواجهها الباحثون والقراء عموماً في تحديد مضامين وآفاق وأنطقة اشتغال ذينك المفهومين عبر سبر أغوار تلك الأدبيات والنصوص المؤسِّسة لفكر النهضة والتنوير، والدراسات والبحوث والمقالات والتعقيبات التي تناولته توصيفاً وشرحاً ونقداً.
تعد النهضة والإصلاح الديني والتنوير والحداثة مراحل/ عصور مؤشرة بوضوح، وإلى حد بعيد، في الدراسات التاريخية الغربية، وتلك التي تهتم بتطور الفكر الغربي، حيث يمكن تحديد طبيعة وخصائص كل مرحلة/ عصر منها وترسيم حدودها زمانياً ومكانياً. غير أن الحال لم تكن كذلك في فضائنا الثقافي العربي. وغالباً ما جرى استعمال مفاهيم النهضة والتنوير والاصلاح ( وأحياناً التحديث ) لتسمية الشيء نفسه والظاهرة نفسها. ويعود سبب ذلك كما أرى إلى انعدام الدقة في ضبط المفاهيم والاصطلاحات بمحتوياتها وأطرها المعرفية، ناهيك عن الاضطراب والفوضى اللذين طبعا الدراسات والبحوث النظرية العربية من جهة القدرة على استخدام المناهج الملائمة وتكييفها على وفق اشتراطات سياقنا التاريخي والثقافي. فالنهضة والتنوير والحداثة مفاهيم مستعارة من ثقافة الآخر ( الغرب )، على الرغم من عديد المساعي، خلال العقود العشرة الأخيرة، لتبيئتها واستعمالها.
وبتحرينا عن المعنى المعجمي للنهضة نجدها ( في المعجم الوسيط ) الطاقة والقوة.. الوثبة في سبيل التقدم الاجتماعي وغيره. وهي ( في المعجم الرائد ) عتبة غليظة من الأرض يصعد فيها الإنسان أو الدابة من أرض سهلة مطمئنة.. وهي حركة، وارتفاع بعد انحطاط، وتجدد وانبعاث بعد تأخر وركود.. أما المعنى المعجمي للتنوير ( بحسب المعجم الوسيط ) فهو وقت إسفار الصبح. ويُقال صلى الفجر في التنوير. وهو مصدر نوّر.
انطلقت النهضة، في أوروبا، وتحديداً في إيطاليا في القرن الرابع عشر وامتدت حتى القرن السابع عشر. أي مع انهيار النظام الاقطاعي بعدما كان يحكم أجزاء كثيرة من القارة العجوز. وبزوغ عصر الرأسمالية التجارية التي ستفضي إلى الثورة الصناعية. وتأسيس الدول القومية الحديثة. وكانت ( النهضة ) حركة تقدم شملت مجالات الثقافة والفنون والآداب والعلوم والفكر السياسي على خلفية تطور الحياة الاقتصادية وازدهار التجارة وانطلاق الرحلات الاستكشافية فيما وراء البحار. وتمثل جوهر فكر النهضة في إعطاء السلطة للعقل والتحرر من الجهل والخرافات وسيطرة الكنيسة. على الرغم من أن النهضة تمخضت "عن إحياء القديم وتطوير ماكان قائماً وتدشين بدايات رائعة في حقول شتى من المعرفة الإنسانية". من هنا شكّلت النهضة، كما يقول الدكتور كمال مظهر أحمد "اتجاهاً جديداً في التفكير والنظرة إلى الأمور تختلف كلياً عمّا كان يسود ( المجتمع الإقطاعي الأوروبي ) من قيم نجمت عن طبيعة العلاقات الإقطاعية التي تحوّلت إلى عبء في غاية الثقل على كاهل الناس، وكذلك عن جمود ودكتاتورية الكنيسة الكاثوليكية التي كانت تقيّد الفكر وتحول دون الإبداع". وخلال هذا العصر الثري بمعطياته وتحوّلاته برزت أسماء أعلام كبار ولامعين، في مجالات الآداب والفنون والفكر السياسي، منهم دانتي وبترارك وبوكاشيو وليوناردو دافنشي ومايكل أنجلو ورفائيل وميكافيللي، وغيرهم.
وكان من المنطقي أن يفضي عصر النهضة، الذي تخلله عصر الإصلاح الديني في القرن السادس عشر، إلى عصر أكثر تقدماً هو عصر التنوير ( الأنوار ) والذي امتد على مساحة قرنين من الزمان ( السابع عشر والثامن عشر )، وهو العصر الذي ساد فيه المذهب الإنساني المتمحور حول مفاهيم الذات ( الفردية ) والعقل والحرية. وكان من أهم أساطين هذا المذهب عمانوئيل كانط ومونتسكيو وفولتير وديكارت وجان جاك روسو.. يعرف كانط التنوير بأنه: "خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه من خلال عدم استخدامه لعقله إلا بتوجيه من إنسان آخر". ومقصده أن يعتمد الإنسان على نفسه في التفكير، وألاّ يعطي فرصة للآخرين لاستغلاله وامتهان كرامته. فعليه إذن أن يتجنب الكسل ويتحرر من الخوف. ويرى كانط أن شرط التنوير الأول هو الحرية والتربية العقلية النقدية. واتخذت حركة التنوير "شكل ثورة على التزمت، والتركيز الإيجابي على استخدام العقل والأساليب التجريبية في الكشف عن الحقيقة وتأمين السعادة وإعادة تشكيل المؤسسات على نحوٍ يكون أشد قدرة على توفير التقدم الاجتماعي". والمقطع الأخير مقتبس من كتاب ( الموسوعة السياسية، لعبد الوهاب الكيالي وآخرين.. الجزء الثاني ص 226 ـ 227 ) والموسوعة نفسها تستخدم اصطلاحي حركة النهضة العربية وحركة التنوير العربي معاً، إشارتين إلى شيء واحد. فلا فرق بينهما، عند أصحاب الموسوعة، من أي نوع، حيث تحدد زمن النهضة مع دخول نابليون مع قواته إلى مصر أواخر القرن الثامن عشر، "وما رافقها من اتصال ثقافي بين الشرق والغرب". وتستعرض الموسوعة جملة أسباب كانت وراء انطلاقة النهضة العربية، منها نشوء المدارس الأجنبية وانتشار فن الطباعة، واهتمام أهل البلاد بالصحافة والتأليف وتأسيس الجمعيات العلمية والأدبية وبناء المكتبات، ودور المستشرقين، ونهضة التمثيل في المشرق العربي، وهجرة الشبيبة إلى الديار الغربية والاحتكاك بين الغرب والشرق من طريق التجارة. ( انظر: الموسوعة السياسية.. الجزء الرابع، الصفحات 118 ـ 119 ).
كانت بدايات اليقظة الفكرية العربية أقرب ما تكون إلى الإصلاح الديني منها إلى النهضة والتنوير وإن احتوت على بذورهما، وهي التي أعطت بعض ثمارها فيما بعد، لاسيما مع أفكار طه حسين المتأثر بفكر فلاسفة التنوير الأوربي.. ذلك الفكر الذي قاد فيما بعد إلى الثورة الفرنسية، وتأسيس الدول القومية الحديثة. وهناك من الكتّاب العرب من ربط حركة النهضة والاستنارة العربيتين بالوعي المديني، والسعي لإقامة الدول المدنية الحديثة.. يعرّف الدكتور جابر عصفور في كتابه ( الرواية والاستنارة ) الوعي المديني بأنه: "فكر المدينة المتحوِّلة بواسطة عمليات التحديث التي تفضي إلى تغيير علاقات الثقافة وأدوات إنتاج المعرفة في المجتمع، الأمر الذي يؤدي إلى تخلّق رؤية مدنية واعدة لعالم صاعد ترمز إليه المدينة المتحوِّلة بوصفها وعاءً سياسياً واجتماعياً وثقافياً وإبداعياً لتعدد الأجناس والأعراق والطبقات والمعتقدات والثقافات وأنواع الإبداع المختلفة" ص23. والوعي المديني عنده يعادل حركة الاستنارة القائمة على التسليم "بأولوية العقل المقترنة بقدرته الذاتية على تحصيل المعرفة وتطويرها، وما اقترنت به من المطالبة بالحرية والمساواة والعمل على تحقيق التقدم" ص24.
حظيت عصور النهضة والإصلاح والتنوير والحداثة الغربية على مساحة زمنية كافية امتدت لأكثر من ستة قرون، ناهيك عن عوامل موضوعية مساعدة، أنضجتها على مهل. حتى أضحت وقائع تاريخية متبلورة في ثقافات منتجة، ودول قائمة على أسس ومعايير قانونية وإدارية واقتصادية متقدمة، ومؤسسات غاية في الفعالية، ومجتمعات متعلمة وعاملة بكفاءة. وقد حصل ذلك عبر مسيرة تطلبت تضحيات جسيمة، وكانت لها، كذلك، عثراتها، وأخطاءها وخطاياها، أقلها أنها استوت على حساب البلدان المستعمرة ( بفتح الراء )، وحصلت على عافيتها باستغلال طبقات وشعوب. أما نهضتنا العربية فلم تتح لها فرص النماء الكافية، هي التي راحت تحبو على هامش المدنية الغربية الحديثة. وعملت قوى كثيرة، داخلية وخارجية، على عرقلة انطلاقتها المدنية، العقلانية. فبقيت شظايا أفكار وتطلعات في عقول وضمائر نخب مستنيرة، لها هي الأخرى مواطن قصورها وضعفها. وكان من الطبيعي ألاّ تتميز مبادئ وخصائص عصر النهضة عن عصر التنوير عن عصر الحداثة عربياً على مستوى التنظير، طالما أنها لم تتحقق كمراحل متعاقبة مائزة في الواقع التاريخي، مثلما حدث في الغرب.
لا يكفي أن يبزغ فكر النهضة ويتعمق في عقول النخب السياسية والأكاديمية بل يشترط من أجل أن يتحول إلى واقع نهضوي على الأرض أن يغدو مشروعاً مجتمعياً يشغل أذهان الجمهور الواسع من الأمة، وأن يحضر في إيديولوجيات وبرامج وأفكار الأحزاب والتيارات والنخب السياسية الفاعلة. وأن تكون لها أرضية سياسية وحضارية ملائمة كتوفر الحريات، ووجود نخب قائدة لها رؤيتها الإستراتيجية، ومجتمع يمتلك وعي النهضة ويحس بهويته الذاتية. لكن هذا لم يحصل في عالمنا العربي لسوء الحظ. فعانى مشروع النهضة والتنوير، فيه، من عمليات إعاقة وإجهاض متكررين. وظلّ حلماً مؤجلاً. لكنه لم يغب من حقل اهتمام كثر من المفكرين والمثقفين العرب، وحتى يومنا هذا.
في البدء، واجه الفكر النهضوي العربي جملة من الالتباسات تمثلت في:
1ـ كيفية استنبات ( تبيئة ) مفاهيم غريبة، مكوّنة في إطار اجتماعي/ اقتصادي/ تاريخي مغاير، وإدخالها في ضمن نسيج الفكر العربي. ولأن العملية هذه، في أحايين كثيرة، لم تكن سوى ترقيع من الخارج برزت أولى مظاهر التغرب.
2ـ كيفية تشكيل المفاهيم بصورة لا تجعلها مناقضة للأفكار والمفاهيم القارة التي اكتسبت بحكم القدم صفة القداسة، بعد أن تمترست داخل مؤسسات قوية، تدافع عنها، لتظهر أولى أزمات الحداثة التي وقعت في التناقض والضبابية والتوفيقية الفجة.
3ـ ونتيجة لذلك انسحب الفكر النهضوي ليتعامل مع المفاهيم تلك ألفاظاً مجردة، أو تعريفات نهائية ساكنة، من دون وعي الحدود المتسعة لها، وإدراك مرونتها، وقابليتها للتمثل الصحيح.
وموضوعياً، يجب أن تكون اللحظة الفعلية للنهضة، هي لحظة الانفتاح العقلي – النقدي التي تتجاوز لحظة الانحباس في الماضي، ولحظة الاغتراب والتغرب والسلبية في الحاضر، وكلاهما لحظة مشوشة متوقفة.. وهذا يحيلنا الى مأزق فكر النهضة، إذ لم يستطع أن يكون فكراً مستقلاً بـ ( لحظته ) يقتحم حجابات اللحظتين الآنفتي الذكر ليُخضع خطاب الغرب، وخطاب الماضي، فضلاً عن خطابه هو، إلى المساءلة و التدقيق والنقد. ومن دون هذه الرؤية النقدية الجذرية لن تكون هناك نهضة حقيقية، وفكر عقلاني فاعل للنهضة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عودة جزئية للعمل بمستشفى الأمل في غزة بعد اقتحامه وإتلاف محت


.. دول أوروبية تدرس شراء أسلحة من أسواق خارجية لدعم أوكرانيا




.. البنتاغون: لن نتردد في الدفاع عن إسرائيل وسنعمل على حماية قو


.. شهداء بينهم أطفال بقصف إسرائيلي استهدف نازحين شرق مدينة رفح




.. عقوبة على العقوبات.. إجراءات بجعبة أوروبا تنتظر إيران بعد ال