الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بواعث الاختلال في رؤية اليسار الفرنسي للإسلام

هادي اركون

2015 / 11 / 19
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني




بعد أحداث شارلي ايبدو ،انبرى مثقفون فرنسيون من اليسار ، للدفاع عن العيش المشترك ،وتجنب الخلط . وأظهروا كما العادة منذ السبعينات على الأقل ،حماسة كبرى في الدفاع عن المسلمين والدعوة إلى رفع كل معيقات اندماجهم في المجتمع الفرنسي . فبدلا من أن يكون ذلك الحدث المأساوي ، مناسبة للتفكير عمقيا في الإسلام وإشكالاته اللاهوتية والسياسية والثقافية ، حمل البعض مسؤولية المذبحة لفناني المجلة الساخرة بدعوى عدم مراعاة الحساسية أو الشعور الإسلامي ،وللتمييز وتهميش المسلمين سياسيا واقتصاديا واجتماعيا(إدوي بلينل وايمانويل تود والآن باديو ... الخ) .
و الأكثر من ذلك أن البعض ذهب إلى ضرورة مراجعة قانون العلمانية ، وتثبيت علمانية منفتحة مراعية لخصوصيات الطرف الإسلامي . يقتضي الاندماج ،من هذا المنظور ، رفع الحواجز الثقافية والاجتماعية وربما السياسية ،حتى يتمكن المهاجرون المسلمون من الانخراط السلس في النسق الاقتصادي والسياسي الفرنسي .ومن الملاحظ أنهم لا يلتفتون أدنى التفات، بحكم مرجعيتهم وفكريتهم وتصورهم للعلاقات بين الثقافات ،إلى ضرورة مراجعة الثقافات الإسلامية ووضعها على محك الاستشكال والتمحيص والاستقصاء على غرار ما خضعت له الثقافات المسيحية واليهودية منذ عصر النهضة ، لتسهيل ذلك الاندماج المطلوب وتعميق مساراته.
ففيما يطالبون الحكومة الفرنسية والمجتمع المدني برفع الحواجز الثقافية المعيقة في اعتقاهم للاندماج ،فإنهم لا يطالبون الطرف الإسلامي ،برفع حواجزه الفقهية والكلامية والسياسية ضد فرنسا والثقافة الغربية ونمط العيش الفرنسي .فمن المعروف أن ساكنة الضواحي ،تتوغل يوما بعد يوم في التسلف ،وتظهر عداء ظاهرا لكل ما يمت بصلة إلى مكتسبات الحداثة إن في العلوم (رفض الطلبة المتزايد لتدريس نظرية داروين ) أو في الثقافة (رفض الاختلاط والتعايش مع المختلف و الحداثة السلوكية والجنسية ... الخ) ونمط العيش (رفض الموسيقى والغناء والانفتاح غير المشروط على الآخر والاختلاط في المسابح . ) .
ويطالب البعض أكثر من ذلك بعقد تسويات توافقية مع الإسلام ،لتجنب المواجهة وإقرار السلم .
لقد فقدت الثقافة الفرنسية بتأثير تيارات ما بعد الحداثة والتفكيك والليبرالية العولمية ، منذ السبعينات ،كثيرا من القدرة على فهم الذات وفهم الآخر وإدراك تجاذبات التاريخ الكوني .
فمن الملاحظ أن تفكيك الذات ،لم يصاحبه تفكيك الآخر ، ولا سيما الآخر المتمسك بالمثال والتجربة الإسلاميين . كان انتصار ميشيل فوكو للثورة الإيرانية فاتحة الاختلالات الثقافية والفكرية في المشهد الفرنسي .وتعمق الاختلال لا سيما بعد تفكك المنظومة الاشتراكية وتفكيك الاستشراق ،وتكريس تيارات ما بعد الحداثة ،على المستوى الفرنسي والأوروبي عموما .فقد حل محل كلود كاهين ورودنسون وجاك بيرك ،مثقفون لامعون إعلاميا ،إلا أنهم لا يمتلكون الدراية الكافية بالعقيدة والتاريخ الإسلاميين وبالتاريخ الكوني .فكثر التعويل على المدة القصيرة ، في قراءة أحداث لا تفهم حقائقها وخفاياها إلا في إطار المدة الطويلة ، أي في إطار تاريخ متوسطي متعرج ومعقد .فلا يكفي استحضار المعطيات الجيواستراتجية أو السياسية(اصطفاف فرنسا إلى جانب أمريكا في الحرب ضد الإرهاب مثلا) أو حتى تواطؤات الفاعلين الإقليميين (مواقف تركيا والسعودية وقطر المتسمة بالازدواجية. )لفهم حقيقة داعش والتحاق الشباب الفرنسي بهذا التنظيم .لا تكسب المعطيات الجيواستراتجية والسياسية والثقافية والتربوية بعدها الحقيقي إلا بربطها بالمتخيل الإسلامي ،وبتاريخ الحركات السياسية في الإسلام .
يعجز اليسار الفرنسي ،لأسباب فكرية وسياسية ، عن إدراك فكر ونفسانية ،الناشط الإسلامي ؛فهو يسعى إلى فهم الدينامية الإسلامية ، استنادا إلى ما تقرر في تجربته التاريخية أي إلى خبرته بالإيديولوجيات والأنساق السياسية المعلمنة ، والحال أن الناشط الإسلامي ، ينخرط في دينامية خلافية وفي تاريخ قيامي لا يمكن فهمهما استنادا إلى ما راكمته الحداثة الغربية من مقولات ومفاهيم وتصورات.يعسر على الكثيرين ،بحكم الخلفية الثقافية أو الموقع السياسي ،فهم الأبعاد النفسية –الروحية للإرهاب الإسلامي .إن مخيلة الإرهابي الإسلامي ،مترعة بصور ومثالات وتمنيات وخيالات ،هي الدافع إلى الفعل مهما كان شرسا و بربريا .يتم قتل الآخر وتدمير الإبداعات الثقافية (تامبوكتو والموصل وتدمر ........)،أيا كانت عراقتها التاريخية ،باسم الرغبة في الجنة ،أي باسم دلالة خيالية ،هي بكل تأكيد خارج الاعتبارات البراغماتية المألوفة في تصورات المثقفين الغربيين .
فالإرهابي الإسلامي لا يحارب الغرب ،بسبب التهميش أو العنصرية أو الفقر أو الحيف السياسي أوالاعتداء على المسلمين ،بل باسم مثال خلافي موصول بمثال قيامي .إن الفتك بالآخر ، شرط شارط للانعتاق من الحساب ،ولمعانقة اللذات القصوى في العالم الآخر .لا يمكن إغفال البواعث الدينية وبالأخص المتخيل القيامي ،في تفسير ظاهرة الانتحاريين الإسلاميين مثلا .وهذا ما يستدعي اغناء المقاربات المعتمدة في تحليل الإرهاب الإسلامي ،عبر استلهام دوائر المتخيل والدلالات الخيالية مما سبق لكثير من المثقفين الطليعيين استكشاف وسبر وإضاءة بعض جوانبه (كورنيليوس كاستورياديس و جيلبير ديران ورونيه جيرار وروجيه كيوا .......).
في غياب فهم حقيقي ،لدوافع الإرهابيين وتصوراتهم ،يتم تقديم مقترحات ،دالة في الحقيقة على قصور في التمثل وفي معرفة الآخر ،وعلى رغبة في تجنب المواجهة الفكرية والسياسية ،والركون إلى انهزامية يسارية هي المقابل للانحطاطية أو الكارثية المعزوتين ،في سياق السجال الثقافي ،إلى بعض الكتاب والمثقفين ( الان فنكلكروت واريك زيمور وميشيل انفري .... الخ).
يمكن تلخيص المقترحات المقدمة فيما يلي :
-مراجعة قانون العلمانية بما يسمح برعاية المؤسسات الدينية الإسلامية وتكوين الأئمة تكوينا حديثا متشربا لمكتسبات العلوم الإنسانية واستبعاد التمويلات الخارجية ،
-إقرار تسوية توافقية مع الإسلام كما يعتقد ايمانويل تود ،
-أنسنة وإصلاح الإسلام ودعم التيارات الحداثية ،
-تغيير السياسات الخارجية الفرنسية ،الاسلاموفوبية حسب ميشيل انفري ،
-دعم الإسلام الوسطي وإبراز حداثة التصوف وخاصة الأكبري .
تنفي الحقائق التاريخية وتطورات المشهد السياسي ، مثالات اليسار الثقافي وتطلعاته ؛لم يستفد مثقفو اليسار من سقطة فوكو ،بل تمادوا في السقطات ، باسم التعددية و"ديانة" حقوق الإنسان وتفكيك المركزية الغربية.فرغم تمسكهم بالفردانية والتحرر ،فإنهم لا يجدون مانعا من الدفاع عن كل ما يعيق الفردانية في الثقافة الإسلامية(الحجاب والنقاب وتحريم التجديف ...الخ) .
لقد تمكنت التنظيمات الإسلامية ،من التغلغل في الضواحي ،وتمكنت ،بسبب التراخي الثقافي الناتج عن الحداثة البعدية والتفكيك والليبرالية العولمية ،من استقطاب شرائح واسعة من الشباب.لقد وفرت فرنسا وبلدان الغرب ،باسم التسامح واحترام الغيرية والتعددية الثقافية ، للسلفيات الرافضة للقيم الغربية ، كل ظروف الترعرع والتمكن .تتم التضحية بروح التنوير ،باسم المهادنة وعدم استثارة الآخر المتأهب للمواجهة متذرعا بكل الأعذار مهما كانت واهية .
يعتقد الكثير من المثقفين اليساريين أن الإرهاب الإسلامي ،رد فعل ضد الاستثارة الفنية أو السياسية أو الاجتماعية ؛ والواقع أن الإرهاب الإسلامي ،فعل قصدي،يروم إحلال المثال الإسلامي محل الواقع الغربي ،باسم أفضلية الحقيقة الإسلامية التداولية .فالقصد الجوهري ،هو تدمير المنظومة الغربية بالذات ،وتحقيق المثال الخلافي.ومن الطبيعي أن تتعدد السبل والوسائل المعتمدة في تحقيق هذا الهدف الاستراتجي ، وتتنوع أدوار الفاعلين حسب الفرص والأحوال والقدرات والسياقات التاريخية.
من مفارقة الحضارات ،أنها تكون في مفاصل محددة من تاريخها ،ضحية منجزاتها .لقد تمكنت السلفيات من التوسع ،باستعمال العلوم الغربية (الإعجاز العلمي ) ووسائل التواصل الحديثة ( الأنترنيت والمواقع الاجتماعية )وحقوق الإنسان ( حرية المعتقد والضمير والحقوق الثقافية ).فبدلا من أن تكون المنجزات الحديثة ، أداة لتفكيك الحقيقة الإسلامية والكشف عن تاريخيتها وعن تشكلها التاريخي ،أضحت وسائل مثالية لتوسعها وانتشارها ، غربا وشرقا.لقد كانت الثقافة الفرنسية ،أسيرة فهم تجريدي لحقوق الإنسان ،ولتصور اختزالي للتاريخ وللكونية .كان من الطبيعي أن تفصل في هذا السياق ،حقوق الإنسان عن التنوير ،وأن يوصف التنوير بالكلانية .فحين تفصل حقوق الإنسان عن تربتها الفلسفية والفكرية التنويرية ،يمكن تكريس حقوقانية مجردة وشكلية ،مغيبة لقضايا المعقولية والتاريخية والإنسانية . فبمقتضى هذا الفصل يتم قبول كل العقائد ، رغم أن الأنوار قائمة أصلا ، على النقد والاستشكال واستقصاء الحقائق .
لا يمكن فصل حقوق الإنسان عن حقلها التداولي ولا يمكن تنزيلها في سياق مخالف إلا بالتنوير؛ والحال أن اليسار ،يقر بالخصوصية في سياق انتصاره للتعددية الثقافية فيما يصدر عن الكونية .
حين تقتات الخصوصية من الكونية ،فإنها تقضم البناء الحضاري كله . وهكذا تستغل السلفيات المناخ الثقافي والسياسي الفرنسي ،والحقوق المتاحة لمعتنقيها ،لتضييق الخناق على الفكر (تزايد الرقابة والرقابة الذاتية وإشهار تهمة الاسلاموفوبيا أمام كل ناقد للإسلام. )ونمط العيش المتحرر واهتبال الفرص لتقويض العلمانية .فما لم يتم استشكال الحقيقة الإسلامية ، فإن كل انفتاح على روادها باسم الكونية وشمولية حقوق الإنسان أو التعاطف (ادغار موران) ،سيكون كارثيا من منظور حضاري .
لقد ذهل اليسار الفرنسي ،عن هذه الحقائق طويلا ؛بسبب ما يلي :
-تعويض الرؤية الهيجيلية –الماركسية للتاريخ ،برؤى مختزلة يتحول بمقتضاها الصراع التاريخي إلى محض مساجلة عابثة على مسرح ،
-الاغترار بالمفعول التوحيدي للعولمة والتغافل عن نيران التصارع بين الثقافات داخل الحضارة الواحدة ،
-فصل الراهن عن تاريخ الصراع بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط ،
-اعتماد صيغ مجردة ومثالية للعيش المشترك .
لقد بالغ اليسار في التفكيك والهدم ،فضيع المثال الحضاري والمنجز الأنواري ؛والأكثر من ذلك أنه أظهر كثيرا من التساهل ، في التعامل مع الثقافات الطرفية ، رغم أنها حافلة بكل ما يعيق التحرر والتعقل والتمتع .فقد تمت المبالغة في نقد الذات ،وإعلاء شأن الغيرية ،بمعزل عن حقائق التاريخ والأنثروبولوجيا وعن فحوى النصوص ومراميها ودلالات التجارب التاريخية.
لقد ساهم اليسار في تكريس النسبانية إلى حد العدمية ؛إلا أنه لا يستحضرها في تعامله مع العقيدة الإسلامية .
لا يتم استحضار هذه النسانية حين يعتبر الإسلام دين الحب والسلام والسكينة ؛ رغم أن إضفاء صفة جوهرانية على الإسلام ، لا يتفق مع النسانية بأي حال من الأحوال .والحقيقة أن النسبانية لا تخص من منظورهم إلا الغرب وقيمه وسياساته و أنساقه الفكرية والأخلاقية والسياسية ، أما الثقافة الإسلامية ، فمنذورة فيما يبدو للإطلاقية و الجوهرانية .ولا أدل على هذا ، من تناسي آليات و أدوات التأويل والتفكيك ،أثناء التعامل مع تصريحات ودفوعات القادة المسلمين ،رغم التسليم باشتباه اللغة وكمائنها وقدراتها على المخاتلة والمخادعة .وفيما يثابرون على إبراز المسكوت عنه في النصوص والأقوال الغربية ، فإنهم يعتبرون التصريحات المنافحة عن تسامح ورحمانية العقيدة التداولية ،نصوصا مطابقة لذاتها لا يمسها الاشتباه في نفي صريح لمبادئ التأويل والتفكيك .


هادي اركون








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مسيحيو السودان.. فصول من انتهاكات الحرب المنسية


.. الخلود بين الدين والعلم




.. شاهد: طائفة السامريين اليهودية تقيم شعائر عيد الفصح على جبل


.. الاحتجاجات الأميركية على حرب غزة تثير -انقسامات وتساؤلات- بي




.. - الطلاب يحاصرونني ويهددونني-..أميركية من أصول يهودية تتصل ب