الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العراقي والعيد

محمد لفته محل

2015 / 11 / 23
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


العيد موضوع خاض فيه علماء الإناسة لكثرة ما لاحظوه عند المجتمعات البدائية من أعياد حيث يباح فيها ما هو محظور في الأيام العادية. يقول عالم النفس (سيغموند فرويد) (فالعيد شطط مباح، بل منظم، انتهاك احتفالي لناهٍ من النواهي. ولايأتي الناس شططاً لأن لديهم استعداداً للابتهاج نزولا عند أمر قانون ما، وإنما يؤلف الشطط جزءاً من طبيعة العيد بالذات؛ والميل الى الابتهاج إنما ينشأ عن إباحة ما هو محظور في الأزمنة العادية.)(1) ويعتقد فرويد إن أصل العيد هو تكرار أو شبه احتفال تذكاري للعمل الإجرامي الذي أسفر عن قتل الأب(2) في العشيرة البدائية، بدليل أن أعياد البدائيين تكون فرصة لتعاطي الفحش المشتمل على أقدس الوصايا، ويقدم فرويد تفسير نفسي لهذا الشطط (والحال انه مادام مثال الأنا يحتوي خلاصة كل التقييدات التي يتوجب على الفرد الامتثال لها، فان أوبة المثال إلى الأنا وتصالحه مع الأنا لابد أن يعادلا بالنسبة إلى الفرد الذي يستعيد على هذا النحو رضاه عن نفسه، عيداً عظيما.)(3)، أما مؤرخ الأديان (مرسيا الياد) فيرى العيد انه إعادة لزمان أصلي نموذجي خلقته الآلهة، وإن التكرار الشعائري لعمل الإله على نحو دوري يؤلف جملة الأعياد،(4) وهذه الشعائر تجعل المشتركين في الطقس معاصرين للحادث الأسطوري السحيق، إنهم يخرجون من زمانهم التاريخي إلى الزمان الأولي الأصلي الذي لا يمضي بل هو حاضر يتجدد ويمكن استعادته دوما(5) (ونحن نجد في كل عيد دوري نفس (الزمان) المقدس ذاته، نفس الزمان الذي كان قد تجلى في عيد السنة السابقة أو في عيد ما قبل قرن: إنه الزمان الذي خلقته الآلهة وقدسته بحركاتها، وهي الحركات عينها التي يكررها العيد ويعيدها.)(6)، أما عالم الاجتماع (أميل دوركهايم) فيفترض إن الأعياد هي التي أوجدت الدين المسؤول عن التماسك الاجتماعي فقد كانت تقام الاحتفالات دوريا وتستمر لأسابيع حول الرموز العشائرية حيث يقيمون الصلوات والقرابين يصلون فيه لحالة من الفوران الجماعي، وكانت تترك أثرا نفسيا قويا في الإنسان يبقى يتذكره يدفعه إلى المشاركة مجددا في هذه الطقوس التي منها ميز بين عالم المقدس وعالم الدنيوي(7) وأنا أرى مثل (دوركهايم) أن العيد في مجتمعنا العربي احد طقوس إعادة تنشيط التراحم الاجتماعي حيث يشيع الحب والود وإن كان شكليا بين الناس فيتواصلون ويتزاورون بينهم ويتصالح المتخاصمون ويجتمعون على إفطار الصباح أو موائد الغداء، والأكل له وظيفة تواصلية وعاطفية قوية جدا واعني رابطة (الزاد والملح)(8). وكما تعبّر (نور الدين)(تكمن دعوة الطقس في إثبات استمرارية الحدث التاريخي الشهير، فالطقس يميل أساساً من خلال تكرار واستدامة القواعد التي تثبته، إلى تكريس ديمومة الحدث الاجتماعي أو الأسطوري الذي أوجده، فهو استناداً إلى ذلك، إعادة خلق وتحيين لماضٍ غامض غالباً، لكنه يأخذ معناه عند الذين يستخدمونه على أنه فعل ديني)(9).
هذه هي ابرز معلوماتي عن نظرة علماء الإناسة للعيد أنها تتفق على قداسة العيد وعلى خصوصية زمانه وسلوكياته، وهذه المقدمة هي مدخل لتفسير ظاهرة التحرش في العيد بالمجتمع العراقي. فكلمة (عيد) بالعربية تعني الإعادة وهذا ما فسره العلماء بأن العيد تكرار لحادث وزمان قديم، ونحن نلاحظ أيضا ظاهرة التحرش تزداد في العيد ويعم الفرح والبهجة صدور الناس تلقائيا كأنه يوم جديد يتاحب فيه الناس ويتصالحون كأن الماضي قد شطب وان صفحة جديدة قد فتحت، وكل عيد يكرر ذات العبارات والسلوكيات (كل عام وانت بخير، من العايدين، أنشاء الله حجي أو على جبل عرفات، أو تحقيق الأمنيات الخ) ودخلت الرسائل النصية من الهواتف النقالة حديثا في التهنئة بالعيد حيث تكتب الرسائل بأسلوب شعري جذاب يتبادله الناس بينهم، وترى الشباب يلبسون احدث الملابس الجديدة ويصففون شعرهم وفق التسريحات الغربية الحديثة ويرقصون على الدبكات في مجاميع بالمتنزهات. المهم العودة إلى موضوعنا وهو ظاهرة التحرش بالعيد وقد خصصت قناة الحرة عراق حلقة خاصة له من برنامج (بالعراقي) بعنوان (الأعياد وتفاقم ظاهرة التحرش) بتاريخ 2015/9/29 تقديم الإعلامي (عماد جاسم) وقد حضره أساتذة بالقانون وعلم النفس، ولم يحضره أستاذ علم اجتماع مع أن الظاهرة هي اجتماعية بالأساس، وعلى هذا سأدلي برأيي بالموضوع. أن العيد كما بين عالم النفس (سيغموند فرويد) هو فرصة لإشباع رغبات مكبوتة تحظرها الأنا الأعلى، وهذه الفرضية مهمة في تفسير التحرش في مجتمعنا العراقي، وهذا يدعمه ثقافتنا الرجولية التي تؤيد سلوك التحرش حيث يفخر الرجل بكونه زير نساء وجذاب لهن جميعا بفحولته ولباقته وجسارته وجرأته، والخجول من النساء يكون معرضا للاستهزاء والسخرية، فالمرأة تكون مغنم في هذه الثقافة الرجولية حين تكون بلا رجل، أنها ضعيفة ناقصة عاطفية بدون الرجل في ثقافة مجتمعنا العراقي، وهذا المجتمع يحمّل المرأة مسؤولية التحرش كونها (مغرية) و (فتنة) و (شيطانة) و (لعوبة) فتكون عقوبتها التضييق على حريتها وتوبيخها، والمرأة من جانبها تريد من الرجل أن يعتبرها مثل أخته شريفة لأنها تعلم انه ينظر إليها كمغنم أو كغير شريفة فترد على تحرشاته (ما تستحي ماعندك خوات؟) أي أن عرضك معرض للتحرش مثلها، لأن من يتعرض ل(عرض العالم) يكون عرضه معرضا بالمثل نظير قولنا (بشر الزاني بالزنا، والقاتل بالقتل) وهي وسيلة ضبط اجتماعي واضحة. لكن الرجل مطمئن لان أخته بالبيت (ما خليها تشوف الباب أو تطلع بالشارع) فهو يعتبر المرأة التي تخرج بلا رجل (دايحة=متسكعة). خصوصا أن مجتمعنا فيه فصل بين الجنسين يكون كل رجل متعطش لامرأة فيكون العيد فرصة سانحة لإرواء هذا الظمأ. فثقافتنا وطبيعة العيد هما السبب في ظاهرة التحرش.
ترى ما هو رأي فرضية الحرام النوعي بموضوع العيد؟ أنها تعتمد على وثائق الإناسة لتفسرها وفق رؤيتها، إن الجماعة هي مصدر الحلال والحرام وهي التي تمنح الطهارة والبركة لأعضائها الملتزمين بالحلال وتجعلهم نجسين ملعونين حين يرتكبون الحرام وتخرجهم من التصنيف البشري إلى التصنيف الحيواني، وهي تستطيع وحدها (الجماعة) انتهاك المحظور مع الحفاظ على طهارتها وبركتها، وبما أن العيد ظاهرة جماعية للتواصل والحب بين الناس، فإن انتهاك المحرمات لا ينجس الناس ولا يلعنهم فتكون فرصة للفرد لإشباع رغباته وطبعا عيدنا الحالي ليس كأعياد البدائيين وإنما يحمل بقايا جوهرية منه، إذ يلاحظ المحلل النفسي الدكتور (علي زيعور) أن العيد تكثر فيه الخيانات الزوجية والتوهج الجنسي(10)، والمثل يعبر بدقة عن طبيعة العيد الاجتماعية (حشر مع الناس عيد).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1_سيغموند فرويد، الطوطم والحرام، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر بيروت، ص183.
2_نفس المصدر، ص185.
3_سيغموند فرويد، علم النفس الجمعي وتحليل الأنا، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر بيروت، ص93.
4_مرسيا الياد، المقدس والعادي، ترجمة عادل العوا، التنوير، ص117.
5_نفس المصدر، ص120.
6_نفس المصدر، ص104.
7_علي سامي النشار، نشأت الدين، النظريات التطورية والمؤلهة، دار النشر الثقافة بالإسكندرية، 1949، ص160.
8_انظر مقالي (الحرام النوعي للأكل).
9_نور الدين طوالبي، الدين والطقوس والتغيرات، ترجمة محمد هشام، بيروت: منشورات عويدات 1988، ص34.
10_الدكتور علي زيعور، التحَليلُ النَفسيّ للذات العَربيَّة، أنماطهَا السُلوكيَّة والاسطوريَّة، دار الطليعة_بيروت، الطبعة الثانية ايلول (سبتمبر)1978، ص5.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحوثيون يعلنون بدء تنفيذ -المرحلة الرابعة- من التصعيد ضد إس


.. مصادرنا: استهداف مسيرة إسرائيلية لسيارة في بنت جبيل جنوبي لب




.. تصاعد حدة الاشتباكات على طول خط الجبهة بين القوات الأوكرانية


.. مصادر عربية متفائلة بمحادثات القاهرة.. وتل أبيب تقول إنها لم




.. بروفايل | وفاة الداعية والمفكر والسياسي السوري عصام العطار