الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بناءُ الإنسَان

محمد قروق كركيش

2015 / 11 / 29
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


منذ مدة غير يسيرة شغلني موضوع الإصلاح الذي طالب به كل المتدخلين في الشؤون المجتمعية، وقد كان بودي أن أكتب وجهتي نظري فيما يخص المنعطفات التاريخية التي أدت إلى تدهور حالة هذا الإنسان عندما تفككت أواصره وأصبح جسداً بلا روح، وقد تأتى لي ذلك في إحدى المناسبات أن عبرتُ عن وجهة نظري أمام هذا التزايد المهول في ظواهر العولمة، وكتبت حينها مقالا مطولا في ذلك يستجيب لما أراه اليوم من غلو في تدمير باطن الإنسان كإنسان، كانت الأسباب المادية تبرهن لي لمدة كبيرة من الوقت على أن المجتمع أصبح اليوم كرة متدحرجة، وهي تتدحرج لا تترك للذات الإنسانية آية فرصة للنجاة والخروج من قعر الزجاجة، ونحن نعلم تماماً أن الإنسان ظل منذ الفلسفات الأولى هو هدف العلم، لكننا فيما كنا نأملُ، لم نستطع أن نتحكم في جشعنا حينما لم نضع للعالم حدود معينة تحافظ على روح الإنسان، لقد صنعنا الآلة وخبرناها بلا شروط؛ وطورنا التكنولوجيا وعملنا بها بلا حدود، وجعلنا للمجتمع أغلالا لا يمكن اليوم أن ننفك منها إلا إذا أعدنا النظر فيما بنيناه.

وقبل قرن من الزمن كنا نضحك لأننا اعتقدنا أن ما نصنعه في العالم سيكون خدمة جليلة يقدمها الإنسان لنفسه متحديا ظروف الطبيعة ومتنكرا للقيم الإنسانية المشتركة بين كافة الشعوب، لكننا أخفقنا في ذلك عندما أصبح ما كنا نعتقد أنه تقدم تأخراً، فاتجهنا بلغة مارتن هايدغر نحو فعل التدمير، وكان أول ما دمرناه هو الإنسان؛ فجردناه من البعد الروحي على حساب المادة التي اعتقدنا أنها الحل الأمثل للتقدم، حتى صار البعد المادي في الإنسان هو الأساس بالنسبة لسياسيينا الذين يخططون للإصلاح دون أن يعوا تماماً أنهم يحاولون إصلاح ما لا ينفع، لكنه يضر عوض ذلك الإنسان، فكيف نخطط خارج روح الإنسان؟ وأي إصلاح خارج الإنسان كروح وكقيمة أخلاقية وليس كمادة مستهلكة؟ بل الأهم كيف نبني الإنسان ونخرجه من ويلات الدمار؟ ذلك ما يحاول هذا المقال أن يثيره دون أن يدعي ولو قدرا من الكمال.

ونلفت الانتباه أنه منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى الآن كتب الفلاسفة والسوسيولوجيين والمثقفين عن روح الحداثة والأنوار، وانتقدوا بشدة ما آلت إليه الإنسانية من كره وحرب وظلم وحيف جاهلين لمشروع السلم الدائم كما حاكه إيمانويل كانط ، وكيف أصبح الإنسان مجرد آلة، يقف أمام العالم دون أن يحرك ساكنا، كما لو أنه بلا روح، هكذا فقدنا الإنسان وأشعلنا الحرب بفتيل بارد، ونحن من جهتنا نزكي هذا الطرح الذي ينادي بالعودة إلى أحضان الذات بوصفها قيمة القيم، لكن الاختلاف الذي نبديه نحو من يودون ذلك؛ أنهم عندما عبروا عن نظرتهم اختصروها في ضرورة إصلاح الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والدينية في أبعادها القانونية والتنظيمية دون أن يعوا تماماً أن جوهر الإصلاح لا يمكن أن يشمل الطرائق والقوانين والنظم داخل مجتمع تعرض لهزات عنيفة على مر تاريخه المجيد، وهو الذي خُلْخِلَ على مستوى البناء الهوياتي الذي به يمكن أن نخلق انساناً ناجحاً، إذ ذاكَ يكون جوهر الإصلاح يكمن في بناء الإنسان من جديد، وكما خلق أول مرة، خير بطبعه، إنسان صالح، مواطن يعي ما له وما عليه، إنسان يؤمن بالحرية دون أن يمسها، يعي المصلحة الجماعية دون أن يغلب طابعه الشخصي، إنسان ينبغي أن يبنى على ثوابت أصيلة يعتبرها اليوم غربة وضياع، هكذا يكون البناء من الداخل شيء لابد له من لزوم، شيء ضروري لخلق التنمية وبلوغ أرقى مراحل التقدم الإنساني، فماذا سنصلح إذا كان الإنسان مهدماً من الداخل؟، إنسان فاسد في مجمله، لذلك كان لابد قبل أن نصلح الخرائط الدنيوية الخارجية أن نعود لإصلاح باطن الإنسان انطلاقا من فعل البناء، لا فعل التصنيع.

وإننا نود ونحن نثير هذه المسألة، أن نلفت الانتباه لفكرة سادت في السنوات الأخيرة الأوساط المغربية، وكم من مرة طالبَ أصحابها بتفعيلها على أرض الواقع، إنها فكرة تقول بضرورة إصلاح وصناعة الإنسان ، حيث تكون عملية التصنيع عملية غير منتجَة، بل عملية غير طبيعية لا تهدف سوى خلق إنسان للمرحلة التي اعتبرت تاريخية، وما دامت مرحلتنا اليوم تعتبر تاريخية بشهادات المنتظم الدولي، فلماذا لا نملك الجرأة لبناء الإنسان عوض صناعته؟ وإنه لفرق كبير وشاسع بين فعل الصناعة وعملية البناء، ذلك أن الصناعة أولا تتوجه إلى الاستهلاك؛ بمعنى أن الصناعة لا تصلح لأن تكون عملية متطورة ومفتوحة على حدود لا زمنية غير مرحلية، ثم ثانيا أن عملية التصنيع لا تستند على أسس ثابتة، بل متغيرة. على خلاف البناء الذي يبنى على ثوابت راسخة تضمن الاستقرار من جهة، والديمومة من جهة ثانية، بالإضافة إلى أن فعل البناء فعل مندمج ومركب يمكن أن يستسيغ لنا أبعاد الإنسان المتعددة عوض أن تركز الصناعة على بعد مادي وحيد يخرجنا من روحانيتنا وتميزنا الطبيعي في الكون، هكذا يكون بناء الإنسان أحق وأحسن لنا من صناعته، وإن أجيالا كثيرة من أقراننا اليوم لا يشبهون الإنسان إلا في جسده، مجردين على نحو شبه كامل من الأبعاد القيمية والأخلاقية والروحية التي تميز كينونة الإنسان كإنسان، بل أنهم يشبهون الكائنات المهدمة التي تعاني من ضعف في الواجب والإرادة والمسؤولية، ولا تعرف معنى الحق ولا العدالة، ولا تؤمن بالديموقراطية، ولا بحقوق الإنسان، وتعتبر فكرة الحرية فكرة حرة لا حدود لها، فكيف ندخل روح الحداثة بمجرد إصلاح النظم والقوانين والمؤسسات بدون بناء سويِّ للإنسان وبدون رابط يجعله مستمعاً من الطراز الجيد لذاته وأصواته الطبيعية الداخلية؟ هكذا إذن، يكون البناء من الداخل عملية أشدُّ وأحسن جودة وديمومة من أن نصنع إنساناً لمرحلة واحدة متأكدين أننا في يوم ما سنتجاوزها.

لقد اهتزت بالفعل ذات الإنسان وتخلخلت حينما تطورت العولمة وزاد شبحها ظلماً وعدوانا، وإن ما يحدث من جور وظلم لا على الإنسان ولا على المحيط الطبيعي يدلل على ذلك ويعلن حالة الطوارئ التي اعتقدنا أن الحرب هي الوسيلة الوحيدة لإخمادها بتعبير فيلسوف الحرب "طوماس هوبز"؛ حربُ الكل ضد الكل، وإننا لنؤكد ذلك، فإننا وقعنا في المحظور وسرقنا الإنسان وجردناه من انسانيته، وكم من دليل تريدون إذا تمعنتم في قوانيننا على وجه البسيطة، ستكتشفون أننا توجهنا بوعي أو بدونه إلى التخريب، وماذا سنخرب؟ إنها الأرض التي ورثناها والتي فرحنا حينما تمكنا من السيطرة عليها، والحقيقة أننا وإلى اليوم لازلنا لم نسيطر كل السيطرة كما اعتقد "رونيه ديكارت"، بل أصبحنا عبيداً لها، ندمرها معتقدين أننا منها ننال ونستفيد، في الوقت الذي لو فكرنا جيداً سنجد أننا ننتقم من أنفسنا وندمر أنفسنا في صورتها، هكذا أضحى العالم صورة مادية كلوحة رسام فقد صوابه؛ لا يظهر فيها سوى كرة كانت خضراء فأضحت سوداء قاحلة، وبقايا إنسان كان من قبل كاملا لكنه لم يعد كذلك، ولا نحب في نفس الوقت أن نقول بأن الإنسان صار اليوم مهزوما بالكامل، وأن نتبع ما قاله فيلسوف الجنون "ميشيل فوكو" عندما صرح أمام الملأ بموت الإنسان، لا أبدا، إنه لم يمت قط، بل خدِّر بترياق النّوم، ونحن متأكدين من نهوضه من جديد، ذلك أن فكرة موته لم تطفو بعد على السطح، في نفس الوقت فإننا لا نريد أن نصل إلى فكرة مثالية مبالغ فيها تدعي التحقق واقعياً كما حدث مع صاحب الإرادة وفيلسوف القوة فريديريك نيتشه حينما صاح بضرورة الوصول إلى الإنسان السامي، إننا مهما فلعلنا فلن يكون لصاحب الإرادة ما يريد، ذلك أنه لم يكن يعلم أنه كان في الداخل ونحن كنا خارجاً، وهل سيعرف من بالداخل ما يحدث للناس في الخارج ؟ !

لابد من العودة إلى الذات والتصالح معها وخلق مجال للحب والسعادة والطمأنينة بين الناس، لابد من الإنصات لأنفسنا علنا نخلع الشر من أجسادنا ونصافح الخير، هكذا صاح ذات يوم صاحب الفخامة "بول زمتور" وقال: سابقا كان الإنسان ينصت لجميع الأصوات حوله، أما اليوم فقد تخلى عن ذلك ولم يعد ينصت سوى لأصوات الأشرار ، فالحب حكمة والكراهية حمقاء كما صرح شيخ الفلاسفة "برتراند راسل"، والغريب أن الثقافة أصبحت جزء من الشر، ولتجاوز ذلك لابد من بناء هذا الإنسان، على الأقل في مجتمعنا الذي ظل لعقود منحني الرأس، إذن كيف نعيده إلى الواجهة؟ بأية آليات وأية وسائط ؟

إننا لن نجيبَ طبعاً وإلا لجعلنا من تدخلنا هذا أمراً تقنياً كان الداعي منه أن نجيب، ولكننا على الأقل نحاول بشيء من التفكير أن نثير المسألة دون أن نفكر في إعطاء وصفة لتجاوز هذه الإشكالات، والأمر هنا إنما يجعلنا نجرجر الكائن اللغوي إلى الواجهة، ولكي نعيدهُ إليها فبالضرورة أن نقومَ بتوجيه سِهام التفكير إليه، نعم نعيدهُ من خلال التفكير فيه مرة أخرى وننسى حروق النزعة الإنسانية التي خلقت نوعاً من عدم الرضى في بداية القرن العشرين مع المهاجرين الألمان وأصدقائهم الأمريكيين، لقد أدت النزعة الإنسانية إلى فكرة أنها لم تتحكم في نفسها وخلقت نتائج معاكسة لما جاء به الفكر التنويري، والحق أن هذا جور في حقها، ذلك لأن النزعة الإنسانية الصرفة لم تكن لتؤدي إلى خراب الإنسانية أو إلى تدمير إنسانية الإنسان، وإنما امتزاجها بنوازع الرأسمالية المتوحشة أدى إلى التحكم فيها، ومن ثم إلى قتلها لتعطي في النهاية نتائج كارثية، كان بينها اعتبار العقل الأداتي شرطاً من شروط التقدم والنهضة، ذلك أن العقل الأداتي بتعبير مدرسة فرانكفورت في رائديها "تيودور أدورنو وماكس هوركهايمر" أدى في النهاية إلى نزع روح النزعة الإنسانية، واعتبار هذا العقل جائر في حق الإنسانية لأنه عوض أن يحرر الإنسان ويعيده إلى بعدهِ الروحي الصرف فإنه على العكس أخرجهُ منه وأدى به إلى الموت ليخرجَ في صورة مادية حية لا تعترف سوى بالتطرف والعنف، وإني أرفض ذلك، أعتبر أن النزعة الإنسانية لم تكن بتلك الصورة لولا تدخل النظام الجائر الذي صرفها عن روحها، أقصد هنا النظام الرأسمالي الجديد الذي به تسربت فكرة أن النزعة الإنسانية نزعة مقوضة، نزعة مدمِّرة، والحق أنه لم تكن للرأسمالية أية نقطة لضربها سوى تحويل النظر إليها من تلك الزاوية واهمة الكل أن هذه النزعة حقا تدميرية ولا سبب للإبقاء عليها، وبالفعل تم الإجهاز عليها لصنع الإنسان الذي تريد، الإنسان الآلي الذي لا يفكر ولكنهُ يطيع فقط ويستهلك بلغة "جان بودريار".

لذلك كان الاستهلاك بمنطقه المادي الصرف النقطة الحاسمة في النظام الرأسمالي التي حولت الإنسان من البعد الإنساني الروحي الذي يميزه كإنسان إلى البعد المادي الذي قتلهُ، إذن أمامنا فكرة واحدة تفرض نفسها في حالة ما إذا أردنا بناءهُ، لنعد التفكير فيه بجدية عوض أن نضع دساتير وقوانين تتجاوزه في الأصل، والحقيقة أيضا هي أن فكرة وضع قوانين تستبق التقدم الطبيعي للعقل الإنساني واهمين بأنها ستبني الإنسان ومن ثم تستطيع أن تبحر نحو التقدم، هي فكرة جائرة جاء بها أصحاب السلطة لصرف النظر عن الحقيقة. إن التقدم لا يقاس بالقوانين كما تحب السلطة أن تروج، ذلك أنها توقع بنا في فخ من النوع الذي نتحدث عنه؛ فخُّ التجريد الإنساني من الروح الطبيعية الكامنة فيه، لنعد إلى الذات كمنطلق لنصل إلى النتيجة؛ بناءُ الإنسان وليس صناعته كما نصنع السيارات، ذلك أنه من طبيعة الإنسان أن لا يتقوقع في وظائف بعينها كما نجد عند الآلات بصفة عامة، من طبيعة الإنسان أنه غاية كل الغايات لا وسيلة كل الوسائل.

محمد قروق كركيش
[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مؤتمر صحفي لوزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيجورنيه في لبنان


.. المبادرة المصرية بانتظار رد حماس وسط دعوات سياسية وعسكرية إس




.. هل تعتقل الجنائية الدولية نتنياهو ؟ | #ملف_اليوم


.. اتصال هاتفي مرتقب بين الرئيس الأميركي ورئيس الوزراء الإسرائي




.. مراسل الجزيرة يرصد انتشال الجثث من منزل عائلة أبو عبيد في من