الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لقد مات من فَرْطِ الإستهلاك ..

محمد البورقادي

2015 / 11 / 29
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


لقد كشف الزمن للإنسان أن التطور والحداثة بقدر ما فادت هذا الإنسان بقدر ما أحبطته وأمرضته ..
إن احتياجات الآن باتت تأز هذا الكائن وتنغص عليه معيشته ..إنه دائما في سعي لتلبيتها واستجابة ندائها ..إن الحاجيات المتزايدة لا تفرضها الضرورة في الغالب ..بل يفرضها واقع الإستهلاك الذي انغمس فيه العالم بتضخم الإنتاج وببريق الإعلان وبتنافس الشركات على الإصدار للجديد والأجود ..وعلى خلق الحاجة للمنتوج الجديد في نفوس الناس ..والتفنن في الإقناع والتسويق لدرجة تجثم على الأنفاس من فرط غلوها ..
إن هذا الكائن بات حائرا لا يدري أين المفر ولا إلى أين المستقر ..الحاجة لم تكن واردة بالأمس أو لنقل قد كانت ضعيفة غير قادرة على فرض سلطة الإلحاح إما لضعف الجيب الذي يأسرها أم لأن الزمن غير الزمن ..ولكل زمن حاجاته ..
بات الإنسان أسير هاته الحاجة ..الحاجة التي تلمع في الذهن كلما وقع النظر على من سبق في تلبيتها حين يفوز بالجديد ..إنها تلمع كلما انشغل البال بما عند الغير ..هذا الغير الذي يساهم في الإعلان لكل جديد كأنه وسيط إعلاني .يساهم بذلك بعرضه للمنتوج ..واللمع يتجدد طبعا حين النظر لليافطات الإشهارية والتلفاز الذين باتوا من الأشكال التقليدية في عالم الإشهار في زمن ما بعد الحداثة ..
لقد كان الواحد منا في القديم يكفيه بيت أو منزل صغير يأمه هو وأفراد عائلته مع توفر بعض الإكسسوارات التي غالبها أثات وأواني مطبخية ..أما الآن فالأمر مختلف تماما ..وقع الإغراء ات على البصر والسمع جعل العقل لا يتردد في التقدم ولا يتوانى في الإسراع لجلب الجديد ..وقد يجلب الجديد لاكتشافه فقط أو للتطبيع مع الغالب الذي له نفس الجديد ..أو للتباهي أمام الغير ..فالغير يستحسن الجديد خصوصا إن لم يسبق له أن اختبره ..وقد لا يعود الجديد بأية منفعة على من جلبه وهو يعلم بذلك ..لكن الضمير الجمعي لمجتمعه أوحى له بالإقتناء وهذا الضمير أصبح الأن عالميا كونيا وليس إقليميا فحسب ..العالم يتسارع في خلق الجديد والتأثيت لهذا الجديد وخلق الرغبة في هذا الجديد ..والرغبة تولد الإستهلاك والإستهلاك يفضي للإنهاك والإنهاك هو مآل الترف والبذر ..
لكن الإنسان لا يشبع من هذا الإستهلاك ولا يسعد حتى وإن توفر له كل شيء ..إنه لا يفيد من الكثرة ولكن يفيد من الكيف ..ماهية الأشياء التي اقتناها وما الهدف من ورائها وهل يحول هدفها إلى هدفه هو شخصيا ! إن الجديد يسرق من وقته ..يأخذه في عالم جديد ..وهو يعلم بذلك ويسعد بذلك ..إنه لا يسعد في الحقيقة ..إنه يداري حزنه ..يداري كئابته ..يداري قلقه وتوتره الذي ينجم عن إدمان الجديد والسعي وراء الجديد ..والتلذذ بالجديد ..
يحاول أن يخفي إخفاقه في عدم جلب النفع المأمول من هذا الجديد ..إنه يريد أن ينسى تعثراته ..لكن كيف ينسى ذلك ووقع الحاجة ما زال يصدح في جوفه ..إذ أدمنه وتعوده واستأنسه..
إن البحث وراء الجديد ينهكه ..والظفر بالجديد يسئمه وهو يكاد لا يتعض من ذلك ..إنه لا يتعلم من مخلفات تجربته ..يريد أن يعاود الكرة مرة أخرى في جديد آخر عله ينسيه مرارة القديم وينعش ذهنه من جديد ..
وفي لحضة من اللحضات ..قد يريد الحياد عن الجديد المادي ويصدف عنه باتجاه الجديد الرمزي ..ساعيا إلى تغير الطبق عله يشفي إدمانه ويخلصه من عذابه ..
وقد ينهل عبثا من أمور يعلم أنها تافهة وخبيثة في نفس الآن ..كأن يستهزأ بالمارة في الشارع ..ويسخر من ملبسهم وتصرفاتهم ..وقد يسعد باله إن رآى الشاذ منهم ..فذلك مراده ومسعاه ..إنه يترقب عثراث الآخرين ويحصي نقائصهم ويتكلم في أعراضهم ..ويحقر أهوائهم وميولاتهم ..وهو ينظر إليهم في استعلاء من بعيد ..ينبزهم بالألقاب ويتآمر عليهم مع أقرانه ويراهن على ذلك أيضا ..إنه يفعل ذلك ليس طلبا في إسعاد نفسه بل لإخفاء همه وحزنه ..يفعل ذلك ويعلم أن ذلك منبوذ في المجتمع ولا يهمه ذلك ..ما يهمه هو إطفاء صوت الكآبة والملل والضجر ...إنه في صراع مع نفسه هي تريد أن تحزنه وهو يريد إسعادها ..إنها سئمت من طول الصراط وسئمت من الجديد الذي يتقادم بقدر معرفته وتجربته ..إنها كلَّت من الإعادة ..والإعادة لنفس ما مضى ..لنفس الطعم والمذاق ..لم تعد تشعر بطعمه لا تفرق بين حلوه ومره ..الكل أصبح مماثلا ..الكل غدا واحدا ..لا يطفئ النهم ولا يشبع النفس ولا يروي الضمأ وإنما يزيد من حدة المرارة ومن شدة الألم الذي أصبح لا يطاق ..إنه يحس بالألم ولكن لا يجد الكلمات للتعبير عنه ..الكلام لا يصف الإحساس إنما يقربه فقط ..
لقد أصبح الآن لا يبالي أي طريق يتجه ..ولا يكترث إلى وقع الخطى القادمة ..الكل سيان ..المهم أن يخلد المارد الذي في داخله للنوم ..مارده أمسى لا يعرف الإستكانة ..لقد تعود على الضجيج ..ألف الصياح والقلق والإضطراب ..لن يستطيع الهدوء ولن يطمإن حاله إلا بتلمح الطريق الصحيح إلى المراد ..
إنه يلوم نفسه في كل حين ..يلومها على عدم تسليته ..على عدم إيجاد المنفذ لغصته وحنقه ..
إنه قابع في سجن تحت الأرض ..ومحكوم بالإعدام ..ولكن لا يُنفَّذ هذا الحكم ..إنه سجين عذابه ..يتأوه ولا يسمعه أحد وحتى إن سمعه أحد ..فمن ينقذه ..من يفلته من قبضة المرارة ..إنه يذوق طعمها كل ساعة وكل حين ..وكلما أراد النسيان بالتلهّي زاد من حدة اضطراباته ..وكلما أراد الخروج أوغل في الشرك ..إنه محاصر .. لا يعرف طريق النجاة ..خاطر يُزَكّي له أمر الإنسحاب الكلِّي وسحب أوراق الإقامة ..وخاطر آخر يزَكِّي الصبر والسلوان في انتظار الفرج وفي انتظار كبح المارد الذي ينهش النفس قبل العضم ..
إنه يأمل أن يُنهي معاناته أحدهم برصاصة رحمة ..إنها السبيل الوحيد للفكاك من هذه الأزمة ..إن الألم لا يطاق .والسجن ضيق جدا لا يكاد يفضي السبيل حتى للتنفس ..إنه يختنق ولا يقوده الإختناق للموت ..حتى الموت يصعب عليه أخذه ..وكأن الموت يتلذذ بعذابه ولا يريد مفارقته ..إنه والموت صديقان ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انشقاق في صفوف اليمين التقليدي بفرنسا.. لمن سيصوت أنصاره في


.. كأس أمم أوروبا: إنكلترا تفوز بصعوبة على صربيا بهدف وحيد سجله




.. رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو يحل حكومة الحرب


.. الحوثيون يعلنون استهداف سفينتين ومدمرة أمريكية في عملية جديد




.. حجاج بيت الله الحرام يستقبلون اليوم أول أيام التشريق وثاني أ