الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجابري والعلمانية

هادي اركون

2015 / 12 / 8
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الجابري والعلمانية
هادي اركون

اعتبر محمد عابد الجابري العلمانية إشكالية زائفة أو مصطنعة منقولة ، بدون مسوغات واقعية أو ضرورة تاريخية ، إلى الفكر العربي الحديث والمعاصر .فبدلا من الانكباب على العلمانية يجب ، الانشغال بالديمقراطية والعقلانية باعتبارهما مطلبين واقعيين مستمدين من حاجيات الواقع ومعبرين عن تطلعات الشعوب العربية ، أيا كان انتماؤها المذهبي أو الطائفي .
لا يمكن الحديث بجدية ، في اعتقاده ، عن العلمانية في غياب الإكليروس و الكنيسة .فالعلمانية ،إشكالية تخص ،بشكل حصري ، المجتمعات المسيحية ، المتميزة بحضور التقاليد والمؤسسات الكنسية.
لقد طرحت العلمانية ،في منظوره ، في سياق تاريخي متميز بغلبة الطموحات النهضوية لدى النخب العرب.وقد ارتأت هذه النخب و لا سيما المسيحية منها ، منذ أواسط القرن التاسع عشر ،إقرار الفصل بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية ، اقتداء بأوروبا الظافرة آنذاك.
(مسألة "العلمانية " في العالم العربي مسألة مزيفة ،بمعنى أنها تعبر عن حاجيات بمضامين غير متطابقة مع تلك الحاجات :إن الحاجة إلى الاستقلال في إطار هوية قومية واحدة والحاجة إلى الديمقراطية التي تحترم حقوق الأقليات والحاجة إلى الممارسة العقلانية للسياسة هي حاجات موضوعية فعلا ، إنها مطالب معقولة وضرورية في عالمنا العربي ، ولكنها تفقد معقوليتها وضروريتها بل ومشروعيتها عندما عنها بشعار ملتبس كشعار "العلمانية ")-1 .
يلاحظ الجابري نوعا من اللاتطابق ،بين الاسم والمسميات ؛وكأن معركة التحديث معركة لغوية لا معركة تصورات وسرديات ومرجعيات ومنظورات.ثم إن ما سماه بالحاجات الموضوعية ليس كذلك إلا في عرف أجزاء من النخب السياسية والثقافية.فالغالب على الإسلاميين التمسك ضمنا أو صراحة بقانون الذمة ؛وهذا إخلال صريح بمبادئ العقلانية السياسية وحقوق الأقليات كما أقرتها القوانين الحديثة .تقتضي العقلانية السياسية ،إعادة بناء الحقل السياسي ،والتخلي عن كثير من محدداته الموروثة ،وتبني الحداثة السياسية ،بمثابتها اعترافا بسؤدد السياسية ودنيويتها ،وتحريرا للفعل والمبادرة السياسيين من أطر وحدود السياسة الشرعية .وبدلا من اصطناع هذه القطيعة ،أصر على ربط العلمنة بوجود الكنيسة ربطا ضروريا .
(واعتقد أن غياب الكنيسة في الإسلام يجعل شعار العلمانية شعارا غير استراتيجي في أي خطاب يطرح قضية العلاقة بين الدين والسياسة في المجتمع الإسلامي .ذلك لأنه لا وجود لمؤسسة دينية يمكن أن ينصرف إليها وحدها خطاب العلمانية ،كما كان الشأن في أوروبا .) -2-
والحقيقة أن الجابري ، ،لا يعمل، إذ يغلب التضامن التاريخي مع الأمة على الوضوح المنهجي المطلوب من ناقد العقل العربي ، إلا على ترديد فكرة استحواذية سائدة في الأوساط التقليدية والمحافظة.
لماذا طرحت إشكالية العلمانية في أوروبا ، بعد بناء أسس الحداثة وتفكيك أصول اللاهوت والثيوقراطية ؟ولم لم تطرح طيلة العصور الوسطى ؟ما الحاجة الثقافية والحضارية الداعية إلى ابتكار العلمانية وإقرارها في الواقع السياسي والاجتماعي الأوروبي لم طرحت العلمنة والدنيوة ، في البلدان الكاثوليكية والبروتستانتية دون البلدان الأرثوذوكسية ؟
يخضع الجابري العلمانية لكثير من الإفقار إذ يربطها بوجود المؤسسة الكنسية .فالعلمانية ،ما كانت ممكنة ،في بلدان أوروبا الغربية ، إلا بعد النهضة والأنسة والإصلاح الديني والتنوير ، أي بعد مراجعة التراث الفكري المسيحي وترسيخ الأنسنة وتحرير العقل من التقليد التوماوي .لقد أخضعت التيارات العقلانية واللاادرية النصوص والتجارب المعيارية ،لنقد جذري منذ القرن السادس عشر ،وأسهمت في بناء المعرفة والمنهج العلميين،ودافعت عن أفق إنساني ( اراسموس ومونتين ... ) أوسع من أفق اللاهوت .وهكذا أوجدت الحداثة ،مصادر أخرى للمعرفة غير المصادر الأرسطية –المسيحية ،وأخضعت السجلات المعرفية والأخلاقية والجمالية التقليدية لمراجعات جذرية ،وساهمت في إرساء دينامية اقتصادية واجتماعية مختلفة كليا ، عن النظام الاجتماعي الإقطاعي القروسطي .
يرفض الجابري أي مقاربة غير سياسية للعلمانية ؛علما أن للعلمانية أسسا فلسفية ومعرفية ، لا يمكن التغاضي عنها في أي معالجة جادة. كانت علمنة الحقل السياسي مسبوقة ،بعلمنة الحقل المعرفي والحقل الاقتصادي والحقل الاجتماعي .لم يعد الأوروبي المتعلم في الثامن عشر ، يحتاج لفهم نفسه والمجتمع والعالم وللجواب على أسئلته الوجودية ، إلى اللاهوت التوماوي أو إلى الاشراقات الأوغوسطينية أو والى انخطافات الصوفية والغنوصيين ،بل إلى استعمال عقله وتطوير التقنية والانفتاح على تجارب الآخرين.
لم تكن العلمنة ممكنة دون أنسنة ودون تنوير .وهنا الاختلاف ، الحقيقي بين المجال الغربي والمجال العربي .لم تعرف البلدان العربية ، أي أنسنة حقيقية ، كما لم تعرف تنويرا منظما وممؤسسا ، يسمح باستشكال النصوص والتجارب المؤسسة وإعادة النظر في المثال الإسلامي، وإخراج الجموع من الاغتراب والاستلاب الدينيين .
لم تتمكن النخب العربية ، من تأسيس دراسات قرآنية وحديثية وسيرية وازنة إلى الآن ،ومازالت الدراسات حول السيرة وتاريخ الصحابة والتابعين ومؤسسي المذاهب وكبار الصوفية ، محفوفة بالتبجيل والحفاوة والتقديس.فقد فضل الكثير من المفكرين الحداثيين ،رغم فصاحة الواقع وتحكم الفكر الإسلامي في الخاصة والعامة ، الانشغال بالتراث الفكري والفسلفي والأدبي ،وعقد مصالحات مع الفكر التقليدي ،اعتقادا منهم أن إظهار مكنونات التراث العقلانية أو المادية،وتجنب القضايا الفكرية والتاريخية الحارقة ،سيتيحان للحداثة تثبيت أقدامها وتعزيز حضورها في محيط يشهد أسلمة مضاعفة ومتسارعة منذ السبعينات .
إن الفصل بين المؤسسة الدينية والمؤسسة السياسية ،مظهر لا يستوفي كل مقتضيات العلمانية.إذ هو إجراء سياسي وقانوني ،لا بد من تعضيده بإجراءات معرفية وتربوية وجمالية ،ليتحقق القصد الأكبر للعلمانية،وهو :تحرير الشرط الإنساني من الاغتراب الديني .
(أما أنا فاعرف العلمنة على الشكل التالي : أنها الموقف الحر والمفتوح للروح أمام مشكلة المعرفة .ولاشيء ينبغي أن يحول بين الإنسان وبين كشف المجاهل المادية أو الروحية للوجود .) -3
وبعبارة أخرى ، ليس الفصل بين الديني والسياسي إلا المظهر القانوني أو السياسي أو الإجرائي ،لفصل أعمق بين منظورين : منظور لا هوتي يربط الإنسان بالغيب ،وينفي جدارة العقل ويحيل التاريخ إلى ركح لإجراء المشيئة الإلهية ، ومنظور يربط الإنسان بالتاريخ ،ويؤكد جدارة العقل الإنساني وإمكان الانعتاق من الاغتراب والاستلاب و الحتميات الطبيعية والاجتماعية .
إن استبعاد العلمانية من مدارات الخطاب العربي المعاصر ، لا يحل أي إشكال .كما أن الركون إلى الترضيات المقدمة تارة باسم التبيئة وتارة أخرى باسم تفعيل الكتلة التاريخية ، لا يعمل سوى على حجب الواقع دون أن يساعد على فهمه وفهم الرهانات المعلنة والخفية للقوى التقليدية بكل تلاوينها .
لقد اقترح بطرس البستاني الفصل بين المجال الروحي والسياسي ، أول ما طرح ، في الشام ، في سياق المنازلات الدامية بين المسيحيين والدروز .فالعلمانية لم تكن مطلبا نظريا نخبويا ،أو تعبيرا غير مطابق عن حاجيات قومية ،بل هو مطلب استعجالي للحد من الصراعات الطائفية وللتجاوب مع مكتسبات حضارة صاعدة .
يرفض الجابري العلمانية ،في العمق لا بسبب غياب الكنيسة في الإسلام ،بل لحضور الإسلام العقدي والثقافي –الحضاري في المجال الحضاري العربي وحتمية مراعاة ذاك الحضور في أي مشروع للتجديد أو التغيير .
(إن الأخذ بالمعطيات الموضوعية وحدها يقتضي منا القول انه إذا كان العرب هم "مادة الإسلام" حقا فإن الإسلام هو روح العرب . ومن هنا ضرورة اعتبار الإسلام مقوما أساسيا للوجود العربي : الإسلام الروحي بالنسبة للعرب المسلمين والإسلام الحضاري بالنسبة للعرب جميعا مسلمين وغير مسلمين . )- 4
لا يرفض الجابري العلمانية إذن بسبب عدم مطابقتها لواقع الحال ،بل لمنافاتها للغلبة الدينية .وبما أنه لا يتصور الوجود العربي ،خارج مدارات الإسلام العقدي أو الثقافي ،فإنه يتعلل رغم تمسكه بالتحليل الابستيمولوجي بتعلة فكرية -سياسية لإخفاء قصد لاهوتي-سياسي .
يحاول الجابري ،عزو البداهة لما ليس إلا نتاج غياب العقلنة والتنوير الممأسس في المحيط العربي ؛من الغريب حقا ،أن يتشبث ناقد العقل العربي ،بتصور أقنومي لعلاقة العرب بالإسلام .فهو يحول الجائز إلى ضروري،والإمكان إلى حتمية ثقافية وسياسية ،رغم أن سيولة الحضارة تعد بتركيبات سياسية –ثقافية مختلفة ومتجددة ،وبارتباطات وعلاقات وتطورات وهويات ما كانت متصورة ولا مفكر فيها قبلا.
لا يمكن اختزال تاريخ وثقافة المجتمعات العربية في الإسلام العقدي أو الثقافي ،كما يعتقد الجابري؛ ؛تستدعي علمنة المجتمعات ، إعادة بناء الذاكرة وإعادة ترتيب أوراق التاريخ بما يخالف السرديات القائمة ؛ والحال أن الجابري ،يعتبر بناء الذاكرة كما أنجزته الدولة العربية الحديثة ،هو الممكن التاريخي الوحيد،وهي دعوى بلا أي سند تاريخي ولا أي اعتبار من منظور تاريخي و تاريخاني .
أليست المسحية واليهودية الثقافية مكونا من مكونات متخيل المسلم المصري والسوري والعراقي والجزائري ؟ ألم يحول الأب محمد يوحنا بن جليل وميخائيل منصور الإسلام من معتقد إلى ثقافة ،والمسيحية من تراث ثقافي منسي إلى عقيدة متبناة ؟ألم ينته عبد الله القصيمي ،المتوهبن المتسلف السابق إلى ملحد مجاهر بالمخالفة العقدية وساخر من كل المسلمات التداولية ؟
يرفض الجابري مخالفة مقررات المجال التداولي العربي –الإسلامي بدعوى ضرورة التجديد من الداخل .فالفكر العربي المعاصر،في اعتقاده، ،في حاجة لا إلى علمنة تثير الحساسيات وتقف موقفا محايدا أو سلبيا من الإسلام الحي باعتباره جسما عقديا وتوجهات ثقافية ومواقف سياسية ،بل إلى الدمقرطة والعقلنة .إلا أنه لا يلتفت ،إلى ما يلازمهما من تفردن ومساءلة واستقصاء وتطلع إلى الحقائق المغيبة وإلى الحريات المصادرة،قديما وحديثا، باسم التقاليد أو المقدس .
فبما أن الديمقراطية لا تنفصل عن الفردنة وعن الانتماءات الأفقية ، فإن الفرد ،سيتحرر من الجماعة ومن متخيلها ،وسيبحث عن سعادته وعن ملاذه الفكري حسب حاجياته النفسية والوجودية وإمكاناته الفكرية والثقافية .وبالتالي ،فمن الممكن أن يصطنع لنفسه تركيبا فكريا أو أن يعتنق روحيات أو أخلاقا غير إسلامية ،أو أن يلحد ويرفض كل العقائد و الملل والنحل.فما يقدمه الجابري ،باعتباره حلا ، يمكن أن يسفر على نتائج غير متوقعة في نظيمته.أما العقلانية ،فلا يمكن حصرها في أطر ضيقة كما يفعل رواد النهضة والإصلاح ،وإحاطتها بسياج سميك من الأفكار غير المسلمة إلا في المجال التداولي الأصلي .فلا يمكن اعفاء مسلمات هذا المجال من المساءلة النقدية ،ومن التمحيص والاستقصاء النقدي ؛كما لا يمكن تحويل العقل إلى مجرد خادم إيديولوجي مطيع لجسم نظري ،يتأبى المساءلة بدعوى التعالي .
واللافت للنظر أن الجابري ،عاد إلى نقد العلمانية بعد أن نقد نقادها وخاصة برهان غليون في (الخطاب العربي المعاصر )؛وهذا دليل على ارتهان موقفه ،لاعتبارات إيديولوجية وسياسية لا لاعتبارات إبستيمولوجية وفكرية كما ينتظر من ناقد الخطاب والعقل العربيين .
(ولكن ، هل كان لا بد للوصول إلى هذه النتيجة من المرور عبر الحكم على إشكالية "فصل الدين عن الدولة " ،في الفكر العربي الحديث والمعاصر ،بأنها "إشكالية ...مصطنعة منقولة عن الغرب "؟ وإشكالية الديمقراطية نفسها ، ألا يمكن "البرهنة"على أنها هي الأخرى – إذا انطلقنا من نفس المنطق وسلكنا نفس السبيل – "إشكالية مصطنعة ...ومنقولة عن الغرب "؟.) 5-
من الغريب أن يطالب ناقد العقل السياسي العربي ،باستبعاد العلمانية من حقل الفكر العربي المعاصر .فرغم وقوفه المتأني على اختناقات ذلك العقل ،واعتلال أسسه وثوابته ،فإنه لا يملك جرأة الدعوة إلى علمنة ذلك العقل ،وتجاوز محدداته وتجلياته.فما جدوى نقد يؤول في الأحسن إلى موافقات لا إلى مخالفات فكرية كما هو منتظر وإلى مصالحات إيديولوجية ،في صالح الفكر التقليدي ،في المحصلة ؟

إحالات :
1-(محمد عابد الجابري،وجهة نظر –نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر ، المركز الثقافي العربي – بيروت – الدار البيضاء –الطبعة الأولى 1992،ص.111)
2-http://www.aljabriabed.net/n09_01jabri.htm
3-(محمد اركون ، الفكر الإسلامي : نقد واجتهاد ، ترجمة : هاشم صالح ، دار الساقي ، بيروت ، الطبعة الأولى 1990،ص.296).
4-(محمد عابد الجابري،وجهة نظر –نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر ، المركز الثقافي العربي – بيروت – الدار البيضاء –الطبعة الأولى 1992،ص.-111-112)
5-(محمد عابد الجابري ،الخطاب العربي المعاصر ،دار الطليعة –بيروت –الطبعة الثالثة 1988،ص.76).
هادي اركون








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - شكرا
عبد القادر أنيس ( 2015 / 12 / 8 - 16:13 )
في الصميم. شكرا

اخر الافلام

.. مسيحيو السودان.. فصول من انتهاكات الحرب المنسية


.. الخلود بين الدين والعلم




.. شاهد: طائفة السامريين اليهودية تقيم شعائر عيد الفصح على جبل


.. الاحتجاجات الأميركية على حرب غزة تثير -انقسامات وتساؤلات- بي




.. - الطلاب يحاصرونني ويهددونني-..أميركية من أصول يهودية تتصل ب