الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مفهوم الهوية ومعضلتها: الذات والآخر

سعد محمد رحيم

2015 / 12 / 9
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


ينشأ الميل إلى اختيار أو تكوين هوية ما بدافع البحث عن الاعتراف.. الاعتراف في ضمن الجماعة أولاً، إذ يبغي الفرد التماثل مع الجماعة ليؤكد أنه واحد منها.. وقد يتعصب ذلك الفرد لجماعته أكثر حين يكون ثمة شك بحقيقة انتمائه أو ولائه، وفيما إذا كان مستوفياً للصفات التي تؤهله لامتلاك تلك الهوية. "وفي معظم الأحيان، لا يمتلك الأفراد سوى القليل من الشأن في انتقاء الميزات التي تستخدم للتعريف بهم، فهذه تتحدد اجتماعياً، أي من الخارج". غير أن ما يقرر المعايير في منح الهوية ليس الطبيعة وإنما الثقافة. وفي رأي سايمون ديورنغ "يبقى تحديد الهوية نوعاً من الأحجية النظرية". وما يحدد مكانة الإنسان اجتماعياً ويعطيه هويته في معظم المجتمعات هو ( العرق، القبيلة، الطائفة، الدين، الطبقة، المهنة، الخ.. ). فيما "الثقل النسبي للهويات يتغير عبر الزمان والمكان". هذا التغير يتعلق على الرغم من طبيعته الثقافية ـ السياسية بشبكة علاقات القوة/ السلطة في المجتمع.
الهوية سردية تتشكل في فضائين متباينين ومتكاملين هما اللغة والتاريخ بعمليات جدلية معقدة.. إن موقع الهوية هش ومفتوح طالما كان يقيم على أرضية أنطولوجية ـ تاريخية معرّضة لاهتزازات وتغيرات لا تنتهي. وهو موقع ثقافي قبل أن يكون أي شيء آخر.. تحيل تلك الأرضية الانطولوجية ـ التاريخية إلى اللغة والخطاب.. إلى حقلين ينشآن دوماً على خط زلازل فعال، وبذا لا يمكن الركون إلى تحديدات قارة لموقع الهوية وبالتالي للهوية ذاتها. فنحن نعيش في فضاء متخم بالاستعارات والرموز. ووجودنا بهذا قائم في الواقع، وفي المجاز في الوقت عينه. فحين نقول الهوية فإننا لا نشير إلى بنية مغلقة، مهما حاولنا أن نجعلها كذلك. بل إلى أثر متكوّن من معاني ورموز وسياق ثقافي وتأويلات، جارية كلها في التاريخ، وفي المتخيل بوساطة اللغة. فالهوية من جهة هي توقيع العالم، أو بصمة التاريخ على الذات ( الفردية والجماعية ) وهي من جهة ثانية فاعلية تناص تحدث على مستويين هما التاريخ والتخييل.
إذن تكوين الهوية، من هذا المنظور فعالية سردية. وفي ذلك التوازن القلق الذي نحققه بين ما نرث وما نختار وما هو وليد المصادفات وما نريد وما نتخيل وما نتوهم.. بين ما نبني ونأمل في بنائه.. بين الذاكرة والوعي والتصورات والشك واليقين تتحدد الهوية. والهوية تنبثق في إطار سردية مخترعة هي نتاج تذكّر لا يمكن التعويل عليه بالمطلق، وتأويلات قابلة للأخذ والرد، وخطاب يتأسس بوحي مرجعيات متباينة بصدقيتها، وبوساطة لغة طابعها المخاتلة والانزلاق، وعبر مرشّحات ثقافية من العسير وصفها بالحيادية.
والآن؛ هل الهوية، كل هوية، وهم؟
الجواب؛ لا، بطبيعة الحال.. إنها حقيقة مبثوثة في التاريخ ومتشكلة فيه، لكنها ليست قارة ناجزة بشكل نهائي.. إن طابعها المتعدد والمتحول يدحض ادعاءات النرجسية والشوفينية ومبرراتهما. وبالتالي فالهوية بهذا المعنى وبهذا الفهم والتأويل تقينا من الانزلاق إلى الوهم، وتقوِّض الخطاب الفاشي والشوفيني، وأي خطاب جوهراني متعصب من أساسه.
بقيت الهوية في التباسات وعينا مصدر إعاقة أكثر من كونها دافعاً خلاقاً للفعل.. كانت الهوية "أحد الشروط الحقوقية للانتماء، كما ضبطتها فكرة الدولة ( الحديثة )، وليس شكلاً وجودياً". ودوماً في إطار شبكة علاقات السلطة تحدّدت الهوية ضداً للآخر المختلف. "إن دروس الهوية لم تهيئنا إلا إلى ثأر أخلاقي من كل أنواع الآخر، ربما هو الأساس العميق لأي رغبة عدمية في قتله". وغالباً ما كانت الهوية تُصمّم كصناعة، أو يُوحى بها مؤسسياً سلطوياً.. والسلطة هنا لا تعني سلطة الحكم السياسي، وإنما كل سلطة جماعاتية؛ دينية وطائفية وعشيرية لها هيمنة على تابعيها. كان الغائب الأبدي، في هذا السياق، هو الحرية، والذات العاقلة الحرة التي تختار..
يتساءل فتحي المسكيني في كتابه ( الهوية والحرية: نحو أنوار جديدة )؛ عن الكيفية التي يمكن أن نعيد بها علاقتنا بذواتنا، ونضطلع بأنفسنا بطريقة جديدة؟ معارضاً الذات بالهوية، حيث "الهوية هي ما نحن دون أي جهد وجودي خاص. في حين أن الذات هي ما نستطيع أن نكون ولكن لم نجرؤ بعد على الاضطلاع به كأفق حر ووحيد لأنفسنا". ويُرجع فكرة اختراع الهوية إلى الحداثة التي اخترعت كذلك مقولات السيادة والوطن والعَلَم. ولأن حداثتنا مستعارة ومشوهة ومتهرئة باتت الهوية معضلة وإشكالية.
كل هوية مطبوعة في قناعات من تمثِّلهم هي سردية بطريقة ما، فيها نواة من الواقع التاريخي محاطة بهالة من التخييل. وفي النهاية يكون الخيال المؤسطر هو مصدر الأوهام التي بها تبنى الهويات القاتلة. والهوية تغدو قاتلة حين تتحدد جوهرها بثوابت مفترضة، وتنكفئ في العزلة والخوف والارتياب بالآخر.
الهوية السردية تتحقق بالكيفية التي يقدِّم بها الفرد والجماعة نفسيهما بصيغ سردية تنشأ تاريخياً في فضاء التفاعل مع الآخر. فالهوية السردية هي قوام الهوية من خلال الحضور والتجلي. فنحن نحضر في نسيج السرد موقعاً، ونتجلى عبره فعلاً، وممكنات في العالم. فالسرد هو الجسر الذي يصل الإنسان بالعالم. ومن غير العدّة السردية ما كان بإمكان الإنسان الانسلاخ من المملكة الحيوانية وبناء الحضارة. وقد أعان اكتشاف اللغة في ذلك. لكن اللغة من غير التوق إلى السرد والانغمار به كانت لتبقى مجرد وسيلة تواصل بدائية. فالنزوع إلى السرد والشغف به والحاجة إليه طوّر اللغة. ولعل الحاجة إلى السرد كانت هي الدافع للإنسان إلى ابتكار اللغة.
ارتبط السرد بوجود الكائن الحائز على وعي لذاته.. كان السرد طريقته الملكية لفهم معنى وجوده في العالم. وأصبح التفكير بالهوية تفكيراً بالفرادة والتميز والاختلاف.
نحن البشر نختلف عن بقية الحيوانات والنباتات والجمادات.
مجموعتنا الاثنية تختلف عن المجموعات الأخرى.. أنا اختلف عن بقية أفراد مجموعتي فلست أياً منهم.. وللتعبير عن مبدأ الاختلاف الذي هو محتوى فكرة الهوية لابد من الاستعانة بالسرد.. السرد الذي هو طريقتنا لنقول ما نكون ومن نكون.. وما هو العالم، وما هي الحياة، وما هو الموت. وباختصار؛ ما هو الوجود؟ ما معناه، وما الجدوى منه، وما مآله؟.
إن الذات التي تتعين في التاريخ وجوداً وفعلاً تتحقق في السردية رمزاً وهوية. وهذا التمفصل الجدلي لا يبقي أياً من الأقانيم هذه؛ الذات والسرد والتاريخ والهوية في وضع استقرار أبداً.. فالذات "أمام سبل ثلاث لإدراك هويتها: أولاها ( هوية موروثة ) جذورها اجتماعية، ثانيها ( هوية مكتسبة ) فعلها في واقعها، وثالثها ( هوية مأمولة ) قصدها وجوداً لم يُكتمل بعد". والذات تقيم في الزمن، فيما الزمن كما يؤكد بول ريكور "يصير إنسانياً حينما يُقال بصيغة سردية". وبحسب ريكور أيضاً من غير "نظرة استرجاعية وأخرى استشرافية لا يمكن للذات أن تؤسس هويتها".
كونك إنساناً ـ بشراً، وجوداً إنسانياً في العالم، يمنحك القيمة الأعلى؛ أي هويتك البدئية التي لا يمكن نكرانها، أو إبعادها، والتي تعد متناً جوهرياً تلحق بها هويات أخرى موروثة ومكتسبة، تصبح هوامش متبدلة في سلم الأولويات التي تقررها، بوصفك فرداً، لنفسك، بعد ذلك المتن الجوهري ( الإنسان ). أما أولوياتك في الاختيار فتجعل منك في تركيبتك المعقدة متفرداً موضوعياً، ومتماثلاً مع ذاتك على وفق معايير نفسية واجتماعية وحقوقية وتاريخية.
إن أكثر الأشخاص تمرداً وقوة إرادة ووعياً ثورياً ونزوعاً إلى الاستقلالية لا يستطيعون في أثناء بناء الهوية التملص من بعض موجبات ثقافة جماعتهم، وثقافة عصرهم السائدة، ومن تأثيرات السياق التاريخي الذي يحيون فيه، ومن مكر اللغة، والقواعد المولِّدة للخطاب، وأخيراً من لعبة المصادفات التي تبدأ قبل الولادة وقد لا تنتهي لحظة الموت.
تبحث الذات عن نقطة التقاطع الاعتباطية إذ تلتقي نظرتها إلى نفسها ونظرتها إلى الآخر مع نظرة الآخر إليها في فضاء من الوقائع والتخيلات والترميزات والتأويلات والنوايا والمقاصد القبلية، في سياق اجتماعي ـ ثقافي مركب، متناقض وصراعي. فوجود الآخر يحرِّض على التفكير بالهوية. فيما موقع الآخر يساهم في تحديد موقعي. فأنا أعي ذاتي الفردية إزاء الآخر في ضمن جماعتي، وأعي ذاتي عضواً في جماعة إزاء الآخر من الجماعة الأخرى.. وللوهلة الأولى يبدو أن التحقق الأعمق/ المثالي للهوية يكون بتطابق تصور المرء عن نفسه مع تصور الآخر عنه. وكفاح المرء يجري في هذه المنطقة. فتصوري عن نفسي ليس هو تصور الآخر عني.. الكمال هو في تطابق التصورين.. تطابق يعسر تحققه في عالم متخم بالأوهام وسوء الفهم ومحكوم بصراعات مصالح.
يستعين مايك كرانغ في كتابه ( الجغرافيا الثقافية ) بلاكان ونظريته المرآتية، وهو ينظِّر لعلاقة الثقافات بعضها ببعض من زاوية تحديد هوياتها.. يقول:
"تصوّر طفلاً نظر فجأة إلى مرآة وتعرّف على نفسه ـ سيرى فجأة جسداً كاملاً، سيرى شخصاً.. حاول لاكان أن يبرهن أن المجتمع يعمل مثل المرآة، يعكس صورة الفرد. بهذه الطريقة لا يرتكز إحساسنا بمن نحن على عملية داخلية تماماً وإنما يعتمد على الانعكاس الخارجي. تقريباً يمكن إجراء المناقشة نفسها حول الثقافات ـ بمعنى، بالنظر إلى الآخر ( المرآة ) تحدد الثقافات معنى أن تكون هي ذاتها".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المحكمة العليا تنظر في حصانة ترامب الرئاسية في مواجهة التهم


.. مطالب دولية لإسرائيل بتقديم توضيحات بشأن المقابر الجماعية ال




.. تصعيد كبير ونوعي في العمليات العسكرية بين حزب الله وإسرائيل|


.. الولايات المتحدة تدعو إسرائيل لتقديم معلومات بشأن المقابر ال




.. صحيفة الإندبندنت: تحذيرات من استخدام إسرائيل للرصيف العائم س