الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لماذا يكفر الناس بالتفكير العلم والعقل، ويدافعون عن الخرافة والجهل؟

عاصم منادي إدريسي

2015 / 12 / 10
التربية والتعليم والبحث العلمي


لماذا يكفر الناس بالتفكير العلم والعقل، ويدافعون عن الخرافة والجهل؟

بفضل التطور العلمي والتقدم التكنولوجي بات الإنسان ينعم بمختلف وسائل الراحة، لم تعد المسافات تحسب بالكيلومترات كما فعل أجدادنا القدماء، ولم نعد نعاني ما قاساه آباؤنا كلما فكروا في التنقل وقطع المسافات ومفازات الصحاري والجبال والغابات، أصبح الإنسان يعد المسافات بالوقت بسبب ما توفر من وسائل سريعة للمواصلات والتنقل. لم يعد العالم شاسعا وبعيدا، بل تحقق حلم العالم كقرية صغيرة يسهل بلوغ أطرافها في وجه الكرة الأرضية في أقل من يوم واحد، وكل ذلك بفضل تطور وسائل المواصلات (قطارات، طائرات، سيارات,,,)

بفضل وسائل الاتصال البالغة الدقة والتطور (تلفاز، أجهزة الاستقبال الرقمي، حواسيب، شبكات الاتصال الرقمي، هواتف ثابتة ونقالة...) أصبح بمقدور الإنسان أن يتعرف على أدق تفاصيل ما يجري في العالم أجمع، وبمجرد وقوع الأحداث، وبشكل مباشر،
بفضل تطور العلم بات بإمكان الإنسان أن يحسب بدقة وقت الكسوف والخسوف وسقوط المطر وهيجان البحر وقياس سرعة الرياح وانفجار البراكين والتحكم في هذه الظواهر والتنبه المسبق لما يمكن أن ينجم عنها من كوارث، وهو ما وفر لنا الوقت الكافي لأخذ الحيطة والحذر والاستعداد القبلي للأخطار المحتملة، وهو أمر أدى إلى التقليل من الخسائر والأضرار التي عانت منها البشرية قديما بسبب الجهل.
بفضل تقدم العلم تم القضاء نهائيا على الكثير من الأوبئة والأمراض التي لطالما فتكت بالأمم والشعوب وقتلت منهم المئات والآلاف ( الجدري، بوحمرون، بوصفير، الطاعون...)، وذاكرة المغاربة تحتفظ بالكثير من القصص والتجارب المرعبة التي عاشوها مع هذه الأوبئة في العشرينيات الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي. باتت هذه الأمراض جزءا من الذاكرة الشعبية،ولا يعرف عنها الجيل الحالي شيئا. لقد استطاع العلم أن يطيل عمر الإنسان ويعالج أغلب الأمراض ويقدم الوصفات والمضادات والتلقيحات للوقاية من العشرات من أنواع الأمراض، وقبل أقل من عشرين سنة كانت نسبة وفيات الأطفال والرضع والحوامل والولادات الجديدة عالية جدا، لحد أن الحمل كان مخاطرة يشكر الناس الله كثيرا على تجاوزها بخير، اليوم أصبحت هذه المخاطر عادية جدا ولا تثير خوفا أو قلقا. وقبل عقدين من الزمن كان الناس يحصون الكثير من الأموات يوميا جراء أمراض لا يعرفون كيفية علاجها بسبب غياب إمكانيات الكشف عنها –أو بسبب ارتفاع تكلفة ذلك الكشف- أو تشخيصها مثل السكري والضغط الدموي وضعف القلب وفقر الدم...، أما اليوم فقد أصبحت هذه الأمراض عادية ولا تسبب قلقا أو خوفا، وبسبب نجاعة الأدوية ودقة الأجهزة الطبية بات حملة هذه الأمراض يتعايشون معها ويمضون حياتهم بشكل عادي كما يفعل غيرهم من الناس.

بفضل العلم تمكن الإنسان من غزو الفضاء واكتشاف طبيعة الكواكب ومكوناتها وسرعتها وشكلها وما يحدث فيها، بفضله تم إرسال مركبات فضائية إلى المريخ ونبتون والزهرة وكواكب المشتري وحزام زحل، واليوم يناقش علماء الفلك احتمالات جدية عن حياة أخرى في كواكب أخرى خارج الأرض وغيرها من الفرضيات التي تكشف عن الاهتمامات الخيالية لما يمكن أن يصبح في قادم الأيام حقيقة واقعية. وهل كانت نظريات العلوم الطبيعية والأحياء والفلك والطب الموجودة اليوم إلا خيالا مجنونا قبل سنوات.
منذ عصور خلت وحتى اليوم قاتل علماء أمثال جاليلي وديكارت وكبلر ونيوتن وهيزنبورغ وهيوم وكانط وإنشتاين وستيفن هاوكينغ للدفاع عن النظر إلى العالم بالعقل والعلم، وبفضل العلوم التي أبدعوا فيها واكتشافاتهم التقنية والفلسفية نستفيد اليوم وننعم بمنتجات العلوم النظرية وتطبيقاتها ، نظريات في الفزياء والرياضيات والطب والفلك والموسيقى والسياسة والأخلاق والحياة... وهي لم تحقق للإنسان التطور التكنولوجي فقط، بل حققت له متسعا من الوقت والراحة ليتأمل العالم ويبدع في ألوان وأنواع ألفنون التي لم تكن صعوبات وهموم وقساوة الحياة لتسمح له بها.

وبالرغم من هذه الإنجازات يهاجم الكثير من الناس بأصوات عالية وطرق فجة التفكير العلمي ومناهجه ويحملونه مسؤولية الفشل الحضاري الذي يعيشون فيه، لا زالوا يحاولون جاهدين إعادتنا إلى التفكير الخرافي المليء بالأساطير والخرافات والمعجزات التي لم يعد التفسير العلمي يخلي لها المكان، ولم تعد تعشش إلا في بعض العقول الضيقة القاصرة عن تجاوز قصورها وتحطيم وصاية الآخرين عليها. يعلمنا منهج العلم بدءا تجنب الأحكام المسبقة التي نجد عليها آباءنا الأولين وآراءهم الأولية التي تمثل ما يسمى بالحس المشترك أو الرأي العام، وهي غالبا ما تكون مبنية على أسس هشة لا تصمد أمام أول سؤال. كما يكشف لنا ألا نقبل من الأفكار إلا ما نملك دليلا يجعلنا على قناعة من أهميته وملاءمته لشروطنا العلمية والثقافية..

هناك طريقتان للنظر إلى العالم من حولنا :
1 - طريق العلم والعقل، وتمر عبر تنحية بادئ الرأي والأحكام المسبقة والجاهزة، وبناء الأفكار من خلال البحث والدراسة المنهجية السليمة، وتجنب التعصب واحترام تعدد الآراء وحقها في الاختلاف، يتبع العلم مناهجا تتصف بالدقة والصرامة والوضوح والقابلية للتصحيح والتطوير المستمرين، ويدعو الإنسان إلى الانحياز للأدلة العلمية وعدم الانجرار وراء العواطف الخاصة التي تسقطنا في مهاوي الخرافة، وهو خطر لا يسعنا أن نكون عديمي الاكتراث تجاهه. لقد تطورت الحضارة الشرية بسبب اتباع منهج العلم، وهذا الأخير وحده من يحصننا من الغلو والتطرف ويعطينا المناعة الفكرية اللازمة ضد الدجالين وصناع الأوهام.
2- أما الثانية فهي طريق الخرافة، وترتكز على الاستغراق في الحديث عن الغيبيات وما سيكون في العالم الآخر، كما تكثر من ذكر المعجزات والخوارق لفقدانها الأسس العقلية مما يجعلها ضعيفة وهشة. يمثل هذا النوع من التفكير طفولة العقل البشري في لحظته البدائية عندما كان عاجزا عن فهم وتفسير ما يحيط به من ظواهر الكون، مما جعله يرجع تلك الظواهر إلى قوى غيبية خارقة للعادة، وأمام خوفه من تلك الظواهر اهتدى الفكر البدائي إلى عبادتها وتقديم القرابين لها كنوع من الترضية وطلب الأمان، أما اليوم وبسبب تقدم العلم بتنا نفهم أن الطبيعة بظواهرها عاطلة عاجزة عن الفعل والحركة من تلقاء ذاتها ما لم تحركها قوة خارجية، وهو ما يوضح انتفاء أسباب القلق منها, ولئن كان الإنسان الحديث قد تحرر من الخوف من الطبيعة فإنه ما يزال يحتفظ بالكثير من بقايا هذا التفكير الغيبي الخرافي. قبل آلاف السنين بنى أحد الملوك الفارسيين جسرا عائما فوق مضيق الدردنيل تسبب البحر في تحطيمه، فغضب الملك وحكم على البحر بثلاثمائة جلدة، تبدو قصة هذا الملك غاية في السخف، لكن الحقيقة أن ثقافتنا اليوم تحفل بالكثير من بقايا تفكير هذا الملك، وإلا كيف يعقل أن خريجي كليات الطب والهندسة وحملة شهادات عليا في الرياضيات والفزياء ومدرسي شعب كالفلسفة والفزياء وعلوم الأحياء ومعهم الكثير ممن ينعتون بطبقة المثقفين يدافعون بشدة عن وجود الجن والأشباح ولا يترددون في تأييدهم لوظائف السحرة والمشعوذين ورجال الدين الذين يزعمون "طرد الجن والأرواح الشريرة التي تختار السكن في أجساد الناس". ويحدثونك بكل جدية عن أن "العين حق"، في الوقت الذي يقدم فيع العلم/الطب تفسيرات مباشرة لهذه الحالات العصبية والجلطات والانهيارات والمشاكل النفسية.فهؤلاء الناس لا يقبلون بفكرة أن الأشياء يمكن أن تحدث تلقائيا، ولا يقتنعون بالأسباب المباشرة التي يقدمها المنهج العلمي لتفسير ما يحدث، بل يبحثون عن التفسيرات الخفية/الغيبية التي تحيل على وجود قوى تتدخل في حياتنا وقراراتنا وأفعالنا. اليوم، ونحن في القرن الواحد والعشرين، وبالرغم من الاكتشافات العلمية الهائلة التي تعرفها مختلف المجالات يتعرض الفكر العلمي للهجوم في مظهر من مظاهر عدم وفاء البشر للعقلانية التي ينعم بنتائجها ويكفر بقيمتها. في حين يستغلون تقنياتها وأدواتها (الأنترنت والأجهزة الإلكترونية) للنيل منها (بوعي أو بدونه) من خلال نشر الخرافة والجهل وثقافة العنف.

اليوم يجد العقل نفسه في معركة قوية في مواجهة الخرافة بكل أشكالها (ثقافية ودينية)، التفكير الخرافي يقضي على تمدن الإنسانية وتحضرها وتطورها، التفكير العقلي والعلمي هو مصدر تطورنا وتقدمنا، ولا أفهم كيف يسمح المتعلمون لأنفسهم أن يدافعوا عن الخرافة والخوارق والمعجزات، لماذا لا نفهم أن هناك من الناس من يحرصون على استمرار الخرافة والتفكير السطحي لأنهم يستفيدون من تبعية الناس لمراكمة الثروات والخيرات المادية؟. إننا نعيش أوقاتا خطيرة حيث تحقق الخرافة الكثير من المكاسب على حساب العلم والعقلانية، ونحن مدعوون إلى مواجهتها والوقوف سدا منيعا أمام هيمنتها وتغييرها، وأول مكان يجب أن نبدأ به هو المدرسة، لأنها المكان الأقدر على صناعة التغيير الحقيقي بحكم وظيفتها التنويرية والتربوية الحقيقية، وأول رهان ينبغي ربحه هو تغيير ذهنية التلميذ /الطالب/ الباحث في تعامله مع التعلمات التي يتلقاها في المدرسة/الكلية، ففي الوقت الحالي لا يمثل هاجس المعرفة والتعلم إلا محركا ضعيفا جدا مقارنة بهواجس التوظيف وتأمين الخبز وتحقيق الطموحات المرتبطة بالهم اليومي، ولذلك تقتصر قيمة المضامين المعرفية على تحقيق النجاح والانتقال من مرحلة تعليمية إلى أخرى، وفي وضع كهذا من الطبيعي ألا يكون لما يتلقاه المتعلم أي تأثير على / في نمط تفكيره وسلوكه اليومي، ولا يسعنا أن نغفل في هذا السياق ما يتم الترويج له في الخطاب الرسمي من تبخيس للشعب الأدبية وقيمة العلوم الإنسانية، وتوجيه الاهتمام إلى الشعب التقنية والعلمية التي لها ارتباط بسوق الشغل وحاجاته. إن ربط المدرسة والبحث المعرفي بسوق الشغل يفرغمهما من قيمتهما المعرفية والتربوية والأخلاقية والإنسانية، حيث يبقى التركيز منصبا فقط على ما هو تقني حسابي فقط. ولا يمكن في هذه الوضعية الحصول على فوارق حقيقية بين نمط تفكير مهندس ونمط تفكير شخص غير متعلم ما داما يفكران طبقا للقواعد والأطر نفسها. إن المجتمع لا يتطور ولا يتقدم بالتقنيين فقط، بل يحتاج إلى الفنانين والفلاسفة والأدباء والرسامين وعلماء النفس والاجتماع والمؤرخين والرياضيين والفلكيين والفزيائيين ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصطفى البرغوثي: الهجوم البري الإسرائيلي -المرتقب- على رفح -ق


.. وفد مصري إلى إسرائيل.. تطورات في ملفي الحرب والرهائن في غزة




.. العراق.. تحرش تحت قبة البرلمان؟ • فرانس 24 / FRANCE 24


.. إصابة 11 عسكريا في معارك قطاع غزة خلال الـ24 ساعة الماضية




.. ا?لهان عمر تزور مخيم الاحتجاج الداعم لغزة في كولومبيا