الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العرقي والخمر

محمد لفته محل

2015 / 12 / 24
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يسمى الخمر في المجتمع العراقي (شرب) والذي يتعاطاه مدمنا يسمى (سكيّر، أو شرّاب) بالعامية العراقية، وهذه التسمية حيلة نفسية واجتماعية لا تسمي أسم المحرم صراحة (خمر) بل تورية تشير إلى الفعل دون المفعول به، فال(شرب) يشمل كل السوائل الصالحة للبشر، لان الحرام عادة لا يشمل فعل الأشياء المحرمة فقط وإنما لفظها الصريح كذلك، وإذا لفظت صريحة يجب التعوذ بالشيطان وإظهار التقزز والاشمئزاز، ولهذا دائما نستبدل أسم الخمر بأسماء مشروبات أخرى غير محرمة مثل القول (يشرب ببسي، بلنكو، زبيب، لبن، أبيض، مي=ماء) وحتى مسميات الخمر الأخرى لا تستعمل في الحياة العادية مثل (مزّة=مقبلات، بيك=مقدار الشرب بالكأس) كونها حرام أن تلفظ خارج مجالها المحرم. والسكير غالبا ما ينظر إليه على انه إنسان بذئ اللسان وكثير المشاكل منحط أخلاقيا، والناس أول ما تسال عن الشاب المتقدم لخطبة ابنتهم: هل يتعاطى الخمر أو لا؟.
رغم أن الخمر محرم تحريما واضحا بالإسلام لكن قيمنا الاجتماعية في جزء منها تعتبر الشرب فعل رجولي فيسموه (حليب سباع)، والمدمن يوصف مدحا (شراب اﮔ-;-شر) والذي يشرب البطل (سادة=خام) أي دون خلطه بعصير أو ماء يكون رجلا لتحمله المرارة، وهناك وصف للمدمن جدا (يشرب بالطشت أو بالقندرة) والذي يسكر بسهولة (يطوطح=يترنح) أي يفقد توازنه، يسخر منه الجميع بعبارة (يسكر بسيفونه) وعلى الرجل أن يشرب كثيرا دون أن يفقد توازنه، والذي يدعي ذلك كذبا قالوا له ساخرين (عاد شلون شراب انت). ولجماعة الخمر أصول بينهم فهم لا يشربون إلا بوقت واحد ولحظة الشرب يلفظون عبارة (بصحتكم) مع ملامسة الكؤوس بالمداورة بينهم، يحاولون المرح والترويح بالنكت أو الطرف أو المزاح عن أنفسهم ويتجنبون النكد والإزعاج.
لكن السكير يعرف أن الخمر حرام ونجس وانه يجب العودة إلى الطهارة لان الجماعة تنبذه والانا الأعلى تعذبه وتهدده بالجزاء الإلهي الدنيوي والأخروي، فيمنع الخمار ابنه من شرب الخمر ويحتقر بداخله كل خمار مثله، أو يعزي نفسه بأنه لا يؤذي أحد غير نفسه، وانه لا يكذب أو يحتال مثل بعض المؤمنين، وبعض الناس تقول عن السكير انه مرح ودود (أريحي) لا يكذب وهذا التصور يأتي غالبا من الخمارة أو من أصدقائهم.
يقول عالم الاجتماع (علي الوردي) (العامة من أهل المدن يطلقون عليه لقب "حليب سباع". والكثيرون منهم يفاخرون بشربه ويعدونه من مظاهر الرجولة فيهم.)(1) (والمعروف عن بعض الأفراد أنهم يتظاهرون بالعربدة، دون أن يشربوا المقدار الكافي من الخمر، ولعلهم يقصدون من ذلك اظهار قوتهم وشجاعتهم.)(2) و (من طبيعة السكر أنه يكشف عن دخائل النفس البشرية، وما فيها من قيم أو عقد مكبوته) و (الظاهر أن أهل المدن العراقية يجدون عند شرب الخمر مجالا ينفسون به عما يعانونه من كبت في حياتهم الاجتماعية. فهم قد اعتادوا في طفولتهم على قيم "التغالب" ثم وجدوا في كبرهم أنهم غير قادرين على تحقيق تلك القيم أحيانا، فيكبتونها في أعماق نفوسهم. وهم أذن ينتهزون فرصة الشراب لكي يعوضوا بها عما فقدوه في حياتهم الواقعية.
مما يجدر ذكره في هذا الصدد أن البدو كانوا في أيام الجاهلية يتعاطون الخمرة، ويفاخرون بها. فكانوا يرون أن الخمر لا يجدر به إلا الشجاع المقدام، أما الرعديد الجبان فليس خليقا أن يشرب غير المرق.)(هناك قرائن تدل على أن البدو كانوا عند شرب الخمر يميلون إلى العربدة الشديدة. ولعل ذلك كان من أهم الأسباب التي جعلت الإسلام يحرم الخمر على أتباعه.)(3) الغريب أن الخمر المحرم تحريما قاطعا بالدنيا، في الآخرة يكون مباحا لأهل الجنة بحيث أن انهارا من الخمر مباحة لهم! فلماذا هذا التناقض يا ترى؟ هناك من يجيب أنها خمرة بلا سكر، والخمرة بلا سكر مباحة في فقه (أبو حنيفة)(4) وقد أباح فقهاء العصر الأموي النبيذ وكان كثير منهم يشربونه.(5) والإسلام أباح نوع من البيرة غير مسكره تسمى (بيرة إسلامية) وهكذا يبدوا واضحا أن السكر هو علة التحريم وليس الخمر بذاته، فيلغى التناقض بين خمر الدنيا والآخرة.
أن تفسير الوردي واضح هي أن العربدة سبب التحريم الإسلامي وسبب الإقبال عليه كونه وسيلة للتنفيس النفسي للعقد والرغبات المكبوتة، وهو تفسير أراه صحيحا تماما، لكني أرى انه غير كافي لتفسير نجاسة الخمر والخمار والرغبة في تعاطيه؟ وهنا سأطرح تفسير فرضية (الحرام النوعي) فالخمر شراب نجس لأنه حرام دينيا واجتماعيا، والإنسان حين يشربه يصبح نجسا لان الحرام ينتقل بالأكل والشرب واللمس واللفظ، وهذا واضح في عباراتنا (يأكل حرام، يدخل بيته الحرام، أبن حرام، يعاشر أولاد الحرام) وعندما يصبح الإنسان نجسا بفعل الحرام (المأكول أو المشروب) لا يعود إنسان بل حيوان لذلك يقول الإنسان عن نفسه (أنا أبن كلب، أنا أبن قحبه، أنا ساقط، أنا لا استحي، أنا قبحي، غاسل وجهي ببوله، لابس وجه جينكو)الخ وهذه آلية نفسية في الحرام النوعي عندما تقوم الأنا بتصنيف نفسها للنقيض النوعي السلبي من الإنسان إلى الحيوان، فتبيح لنفسها الشتائم وإساءة الأدب، لان العتب يصبح عنها مرفوع مثلها مثل الحيوان تماماً، ثم أن هناك تسامح اجتماعي تجاه السكران وما يصدر منه لأنهم يعتبرونه بلا عقل وهذا يشبه حالة المزاح والغضب التي هي متنفس اجتماعي للبشر لتفريغ مكبوتاته بدون جزاء يعقبها لان هذين الوضعين مرفوع عنها العتب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
1_الدكتور علي الوردي، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، إصدارات دار الحوراء، 2005، ص319.
2_نفس المصدر، ص320.
3_نفس المصدر، ص321.
4_هادي العلوي، شخصيات غير قلقة في الإسلام، الأعمال الكاملة5، المدى، الطبعة الخامسة 2014، ص156.
5_هادي العلوي، محطات في التاريخ والتراث، الطبعة الثالثة 2015، دار الطليعة الجديدة، ص132.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاصيل صغيرة منسية.. تكشف حل لغز اختفاء وقتل كاساندرا????


.. أمن الملاحة.. جولات التصعيد الحوثي ضد السفن المتجهة إلى إسر




.. الحوثيون يواصلون استهداف السفن المتجهة إلى إسرائيل ويوسعون ن


.. وكالة أنباء العالم العربي عن مصدر مطلع: الاتفاق بين حماس وإس




.. شاهد| كيف منع متظاهرون الشرطة من إنزال علم فلسطين في أمريكا